مواطن غير طائفي !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لا أعرف " جورج إسحاق " منسق حركة كفاية السابق ، ولا أعلم وظيفته أو انتماءه الجغرافي في مصر . ولكنى أعرف أنه الرجل الذي قاد حركة تضم ألوان الطيف السياسي والاجتماعي في مصر ، وذهب متظاهراً مع جماعته إلى أكثر من مكان في القاهرة وخارجها يُدافع عن حق المصريين في الحياة الكريمة ، وبعد فترة من تأسيس الحركة تخلى عن قيادتها وعمل تحت قيادة رئيسها الحالي الدكتور " عبدا لوهاب المسيرى " العالم الأديب الذي يعرف قدره المثقفون في الشرق والغرب على السواء .

خرج جورج إسحاق من " الجيتو " الذي يُحاول المتعصّبون الطائفيون أن يحبسوا فيه الأشقاء النصارى ويقنعوهم أن أشقاءهم المسلمين غزاة يجب إخراجهم من مصر ، واستعادة سيادتهم المفقودة عليها ، وتصفيتها من الإسلام وقيمه . جورج خالف الأقلية الطائشة المستقوية بالغرب الصليبي الاستعماري الذي لا يعرف رحمة المسيح ولا مودة رسالته . كما خالف أيضاً الأقلية الموازية التي خانت مصر والنصرانية والإسلام وعاشت في الغرب تتكسب بالفتنة الطائفية والتشهير بالوطن الذي رباها ، والتحالف مع أعداء البلاد وإشباع الرغبة العدوانية المستكنة في نفوس عميت عن الخير والتسامح والإنسانية .

ساعة قرأت في شريط الأنباء أسفل شاشة التلفزيون نبأ القبض على " جورج إسحاق " أصابني الدوار والحزن الذي لم يفارقني حتى ساعة كتابة هذه السطور ، مع أنه تم الإفراج عنه بكفالة قدرها عشرة آلاف جنيه ، ومنعه من السفر ، وذلك مراعاة لسنه فقد وصل إلى سنّ السبعين !

الذي أعلمه من خلال أحاديث جورج التلفزيونية والصحفية أنه رجل مسالم ، لا يستخدم الرصاص ولا القنابل ولا السيارات المفخخة ، وهو مواطن يُعبّر عن رأيه سلمياً من أجل مواطني بلاده المظلومين الذين يتجاوز عددهم سبعين مليوناً من البشر . إنه يريد انتخابات حرة ، وديمقراطية حقيقية ومقاومة جادة للفساد ، وضرباً مؤثراً للاحتكار ، ووقفاً لبيع مصر بتراب الفلوس واستقلالاً للقضاء ، وتحقيقاً للعدالة بين الناس جميعاً ..

وسيلة جورج وحركته ومن معه ، هي الكلام والتعبير الشفهي في الميادين العامة ، أو وسائط التعبير الورقية والهوائية والمصورة ، والدستور القائم يكفل حرية التعبير بهذه الطريقة أو غيرها من الطرق السلمية ، ويعدها حقاً من حقوق المواطنة ، بل ضرورة للمشاركة في بناء الوطن وتصحيح مسيرته وتقويم تجربته .

ولكن " جورج " فوجئ باعتقاله من قلب مسكنه ، وتوجيه مجموعة من التهم الغليظة – كما قالت الصحف – يستحق عليها – لو صحّت – أن يُعدم سبعين مرة ، ولكن الشعب المصري كله ، لا يصدق تهمة واحدة منها ، لقد وجهت إليه ثمانية اتهامات منها : تدبير تجمهر بغرض ارتكاب جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال والممتلكات العامة ، واستعمال القوة والعنف بغرض التأثير على السلطات العامة وأعمالها لينتج عنها التخريب العمدى للمباني والأملاك العامة وإشاعة الفوضى ، واستعمال القوة والعنف مع الموظفين العموميين لحملهم – بغير حق – على الامتناع عن أداء أعمالهم ، وتعطيل المواصلات العامة وتعريض سلامتها للخطر ، وإشعال النار عمداً في مبان ومحال مسكونة ، وارتكاب جرائم سرقة ..!

يا لها من اتهامات تجعل جورج إسحاق يفوق الإرهابي " كارلوس " أو " خط الصعيد " مع أن الرجل في تقديري لم يشارك في إضراب المحلة وأحداثها الدامية .. بل إن الإضراب في السادس من إبريل 2008م ، الذي تم تنفيذه في العديد من المحافظات مرّ بسلام ودون مشكلات تذكر ، حيث بقى كثير من الناس في بيوتهم ، ولم يخرجوا منها إلا لضرورة ، وامتنع الآباء عن إرسال أولادهم إلى المدارس في المدن خوفاً عليهم ، وظلت المحلة الكبرى ذاتها هادئة حتى الرابعة مساء يوم الإضراب ، وبدأ العنف عند تغيير " الوردية " ، فقد انطلق الرصاص الحي وأخذ الشغب يمتد في كافة الاتجاهات ، وتم قتل غلام تجرأ وظهر في شرفة بيته المتواضع ، وتحوّلت المدينة الكبيرة إلى ساحة قتال بين الجيوش الظافرة للأمن المركزي – حماه الله – والشعب المصري البائس في المحلة الكبرى ، حيث انتصرت هذه الجيوش على القلة المندسة المنحرفة التي دفعت بها " المحظورة " و " المنظورة " إلى الموت في سبيل الحكومة الذكية الإليكترونية ؟!

إن المواطن " جورج إسحاق " ليس من أفراد " المحظورة " ولا ينتمي إليها ، وهو أيضاً ليس من أفراد " المنظورة " ولجنة سياساتها ورجال أعمالها وقروضها ومناصبها ، ولكنه مواطن عادى يتمنى لبلاده الخير والتقدم والنصر .. ما كان دافعه أنه " طائفي " يعمل لطائفته ، أو طبقي يعمل لطبقته ، أو مهني يعمل لمهنته ، ولكن دافعه أنه مصري يشعر أنه مثل عشرات الملايين المظلومين في الأجور ، والغلاء ، والسكن ، والمعاشات ، والمواصلات ، .. ورغيف الخبز الذي فشلت حكومة " التنوير " و " النضج السياسي " و " العلمانية " و " الانفتاح " و " التحالف " مع اليهود والأمريكان ؛ في توفيره إلا بتدخل الجيش والبوليس !

وللأسف ، ففي الوقت الذي كان فيه " جورج إسحاق " رهين الحبس دفاعاً عن مصر كلها ، وشعبها كله ، كان هناك فريق آخر أعماه التعصّب الرخيص والاستقواء " الخيانى " بالأجانب المعادين ، يعقد ندوات ويُقيم مؤتمرات – وإن شئت مؤامرات – ويكتب في الصحف ، ويتحدث في التلفزة عن اضطهاد النصارى ، وحرمانهم من حقوقهم والتمييز بينهم ، واعتقال بعض المزوّرين منهم .. ويجعل مثل هذه القضايا الوهمية قضيته الإستراتيجية التي تضعه في دائرة البطولة المزيفة كي يُصفق له بقية المتعصّبين في الداخل والخونة في الخارج !

من المؤكد أن " جورج إسحاق " المواطن المصري غير الطائفي ، أكثر احتراماً وتقديراً في نظر عشرات الملايين ، من بعض من ينتمون إلى الإسلام اسماً ، وفى البطاقة الشخصية أو العائلية أو الرقمية ، وفى الوقت ذاته يسرقون مستقبل الشعب المصري ، ويجلدونه على مدار الساعة بالظلم الاجتماعي والقهر السياسي ، والتمييز الاقتصادي ، ويحرمونه نعمة الحصول على رغيف الخبز بسهولة ، مثلما يحدث في بلاد الله جميعاً ، وفوق القارات الست كلها !

الفارق بين المواطن الشريف " جورج إسحاق " وبين المتعصبين . أنه سلك سلوكاً طبيعياً بوصفه مواطناً مصريا ، فشارك شعبه همومه وآماله ، ولم يفرط في دينه ؛ لأن أحداً لم يطلب منه ذلك . أما المتعصبون والخونة ، فقد باعوا أنفسهم بثمن بخس دراهم معدودة ، معتقدين أنهم سيعيدون عقارب الساعة إلى الوراء ، اعتماداً على الاستقواء بالأعداء ، وضعف السلطة القائمة .. ولكنهم تناسوا أن ثمن اعتقادهم يستحيل دفعه ويستحيل تحمل تبعاته .