زيارة بوش إلى المنطقة

زيارة بوش إلى المنطقة:

تكريس لمشروع "إسرائيل الجديدة"

مرزوق الحلبي

[email protected]

*أهم ما في زيارة بوش إلى إسرائيل والسلطة الوطنية أنه طمأن الإسرائيليين في "بيتهم القومي" وعلى مرأى من عدساتهم وقياداتهم أنه يتبنى هواجسهم الأمنية كلها ويقرّ بمشروعهم السياسي الجديد القائم على "الديموغرافي" عوضا عن "الجغرافي". وقوامه أن تقوم إسرائيل الرسمية بتحريكات ديموغرافية بين النهر والبحر في إطار ما تراه تسوية للصراع مع الفلسطينيين أو إدارة للصراع معهم كما تنزع نخبهم. فقد طالب الفلسطينيين أن يعزفوا عن التاريخ ويتمحوروا في الراهن! وهو مطلب إسرائيلي بامتياز يتناسب مع كون الفلسطينيين الطرف المهزوم ومع الإسرائيليين الطرف المنتصر منذ التهجير الأول. كما إنه تحدث مدافعا عن تعديلات خطوط الرابع من حزيران 1967، وحثّ من طرف خفيّ على عدم التوقف عند قرارات الشرعية الدولية التاريخية المتعلّقة بالمسألة الفلسطينية. وعاد ليؤكّد تبنيه مفهوم إسرائيل كدولة يهودية كما يريدها الإسرائيليون، ليست ذات طابع يهودي فحسب بل دولة لليهود دون غيرهم. كأننا أمام إعلان إسرائيل من جديد بصيغة معدّلة قد تكون أقلّ مساحة مما أرادوه وحققوه بفعل حروباتهم وتوسعهم واستيطانهم كمجتمع مهاجرين، لكنها بالضرورة أكثر يهودية في سياساتها وعدد سكانها! وهذا بالذات ما يفتح من جديد السؤال الديموغرافي. فيبدو أن الإسرائيليين الذين رضخوا للجغرافيا وقبلوا مرغمين الانكفاء عن أرض فلسطينية يريدون تعويض أنفسهم في المستوى الديموغرافي . بمعنى إخلاء إسرائيل اليهودية في حدودها الجديدة (بعد الانسحاب) من الحد الأقصى من العرب!

إن فتح السؤال الديموغرافي في المساحة بين النهر والبحر معناه سيولة في ترسيم الحدود وحركة السكان بين الماءين. وهو ترسيم يحمل، لأول مرة، حركة باتجاهين، تحريك "الخط الأخضر" (حدود الرابع من حزيران) شرقا بحيث تضم إسرائيل نهائيا مراكز استيطانية كبيرة (حزام الأحياء الاستيطانية حول القدس مثلا)، أو غربا بحيث يتمّ التخلّص من تجمعات فلسطينية داخل إسرائيل متاخمة للضفة الغربية. ونحن على اعتقاد راسخ بأن المسألة الديموغرافية التي صارت في مركز الحياة السياسية في إسرائيل وفي صلب "الحلول" المتداولة في الأكاديميا ومراكز الأحزاب، أمست الآن أكثر سيولة وقابلة لتسجيل مفاجآت. ومن هنا ليس صدفة أن يبدي الإسرائيليون استعدادا للبحث في مسألة اللاجئين من زاوية التعويض المالي. ليس من كرم طارئ أو من شعور مفاجئ بالمسؤولية التاريخية عن تهجيرهم، بل من رغبة في "اتقاء شرّ" هذا الملفّ الديموغرافي (إضافة إلى كونه ملفا أخلاقيا وسياسيا وحقوقيا). كما إن تقسيم القدس، كما يتحدث عنه الإسرائيليون، ليس اعترافا بمركزية القدس للفلسطينيين والعرب، من بعدهم،  وإقرارا بذلك بل من رغبة في إخراج أعداد أخرى من الفلسطينيين خارج حدود الدولة اليهودية! ولا ينحصر الأمر في الفلسطينيين سكان المناطق المحتلة العام 1967، بل تشمل المخططات الديموغرافية الفلسطينيين داخل إسرائيل نفسها. وهنا، تم تداول جملة من الأفكار الساعية إلى الهدف ذاته وهو تفريغ "إسرائيل الجديدة" من سكانها الفلسطينيين عبر تعديلات حدودية غربي الخط الأخضر. كأن يتم رسم الحدود غربي وادي عارة في منطقة المثلّث المتاخمة للضفة الغربية بحيث يتم، من جانب واحد، إلحاق 150 ألف فلسطيني في إسرائيل بمناطق الكيان الفلسطيني الذي سينشأ!

والعبث بالجغرافيا لغرض الإمساك بالديموغرافيا ليس الفكرة الوحيدة في جعبة النخب الإسرائيلية لإنشاء "إسرائيل الجديدة". إذ تتداول هذه النخب علنا ـ وكانت تفعل ذلك سرا ـ فكرة أن ينتقل الفلسطينيون من داخل إسرائيل إلى الكيان الفلسطيني الذي سينشأ في إطار المشروع الجديد لأن هذا الكيان سيشكّل حلا لكل الفلسطينيين بمن فيهم أولئك الذين بقوا في الساحل والمركز والجليل! وكانت هذه وزيرة الخارجية الإسرائيلية التي أفصحت عن وجهة مشروع

النخب الإسرائيلية في ذهابها إلى انسحاب محسوب بدقة وترسيم مدروس وفق إحصاءات السكان! فالنخب في إسرائيل لا تتردّد الآن في فرض نوع من خدمة الدولة على الفلسطينيين مواطني إسرائيل. وهو ما يعكس، في مستوى ما، رغبة هذه النخب في أن يدجّنوا الفلسطينيين داخل الدولة اليهودية بربطهم بمشروع إسرائيل الجديدة ودمجهم فيه أو في تنكيد العيش وتوسيع الشرخ الوجودي بين هؤلاء والدولة بحيث ينتقلوا مضطرين إلى كيان يتماثلون معه ويلتقون فيه بمجموعة انتمائهم الطبيعية! ولا يعدم الأكاديميون في إسرائيل نماذج من التاريخين البعيد والقريب يؤشرون بها على إمكانية الذهاب مع الديموغرافيا شوطا جديدا. فها هم التشيك رحّلوا إلى الربوع الألمانية مواطنيهم الألمان من إقليم السوديت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد شهد جنوب أوروبا كله تعديلات ديموغرافية لغرض "تعزيز السلم" أو "إنهاء الصراعات" أو "ترسيم الحدود من جديد" وفقا لنتائج الحروب!

نرجّح، استنادا إلى أقوال بوش وتأويلات الإسرائيليين لها، أنه في زيارته الأخيرة إنما أعطى دعم الإدارة الأمريكية لإنشاء "إسرائيل الجديدة" المسكونة بالديموغرافيا مقدّما تبريرا مسبقا لما ستؤول إليه الأمور في هذا الباب. وهي قابلة للتطور باتجاهين، الأول ـ أن تُفضي سياسة تهويد الدولة بدل تهويد الأرض بين البحر والنهر، إلى إنزلاق سريع نحو نظام أبرتهايد غير مقنّع يفرض الإسرائيليون بموجبه سيطرتهم في دولتهم من خلال سياسات العزل المكاني وضبط حركة السكان وتنقيلهم. ولا يضرّهم أن ينشأ كيان فلسطيني قابل للحياة ـ أي حياة! لا أحد أوضح ـ أو أكثر من كيان (فعليا، هناك الآن كيانان، في غزة وفي الضفة الغربية)، ليبدو الأمر إنهاء للاحتلال من جانبهم وإضاعة للفرصة التاريخية من جانب الفلسطينيين. ويرتبط هذا الكيان بإسرائيل تبعيا وجرّا من عنقه! أما الاتجاه الثاني ـ فهو أن يتطور الطرح الإسرائيلي متجاوزا أبرتهايد بغيضا وقبيحا نحو إنشاء كانتونات فلسطينية يُعطى الفلسطينيون فيها "حريتهم" ونوعا من الأوتونوميا كما أعطيت للسكان الأصليين في محمياتهم في أمريكا الشمالية، أو للأبورجينيين سكان أستراليا الأصليين في مناطقهم. لكن، بما إننا نتحدث عن صراع هذه هي أرضه الضيقة وطبيعته وأطرافه فإننا نرجّح الوجهة الأولى للنخب الإسرائيلية في سعيها إلى إنشاء "إسرائيل الجديدة" وهي تطوير يهودية الدولة إلى حدود شطب ديموقراطيتها أو تأجيلها. ويبدو أن هذان الأساسان اللذان تقوم عليهما إسرائيل ومؤسساتها سيشهدان ترسيما جديدا للحدود بينهما وفقا للميزان الديموغرافي المأمول! ويلاحظ في السنوات الأخيرة تشريعات وحقائق على الأرض توسّع يهودية الدولة على حساب المساحات الديموقراطية فيها بحيث تُمنح الحقوق والامتيازات والمواطنة اليهود دون غيرهم من "سكان" لا سيما الفلسطينيون في إسرائيل. وليس غريبا أن تعدّ هذه الأيام في أروقة الكنيست مسودة اقتراح قانون ينص على منح الحقوق السياسية (الترشيح والانتخاب) فقط للمواطنين الذين يؤدون الخدمة العسكرية أو خدمة بديلة لها!

من المنتظر أن يعود بوش إلى إسرائيل في احتفالاتها بالذكرى الستين لقيامها، في أيار المقبل. وأرجح أن تكون هذه العودة مناسبة أفضل لبوش والإدارة الأمريكية لتأكيد ما قُصد به في زيارته الأخيرة، وهو توفير كامل الدعم لمشروع "إسرائيل الجديدة" المنسحبة من حدود الجغرافيا إلى حدود الديموغرافيا. وهي مناسبة "مثلى" لإدراك حقيقة أن التاريخ إذا عاد على نفسه فسيكون أكثر إيلاما وبؤسا!