الحزب المستحيل وفقه الاصطياد 8

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يثير الباب الرابع فى برنامج الحزب المقترح للإخوان ( الاقتصاد والتنمية المستدامة ) ، كثيراً من النقاط التى يفرضها الواقع العملى . ويتضمن الباب حديثاً عن مرجعية التنمية فى الفصل الأول ، والسياسات الإنمائية فى الفصل الثانى ، والسياسات السائدة فى الفصل الثالث .

والحديث عن المرجعية مفهوم ، حيث يقوم الاقتصاد على أسس إسلامية ، بعيدة عن الربا والاستغلال والاحتكار ، ويعتمد منهج العمل والمشاركة ، والانطلاق من غاية تتمثل فى عبادة الله بالمعنى الواسع للعبادة ، وفقاً لمقولة أصولية فحواها : إن البناء على المقاصد الأصلية يصيّر تصرفات المكلف كلها عبادات ، كانت من قبيل العبادات أو العادات .

لقد شخص البرنامج مشكلات مصر الاقتصادية تشخيصاً جيداً من حيث الضعف والبطالة والفساد ومشكلات أخرى .. ولكنه لم يتوقف عند المشكلة الأساسية فى الاقتصاد ، وهى الاستبداد السياسى ، الذى يسمح بكل هذه المشكلات ويراكمها ويعقدها ، وفى الوقت نفسه يحمى الفساد والمفسدين ، فضلاً عن التبعية المطلقة لدول التوحش الاستعمارى وهيئاتها الاقتصادية التى تفرض شروطاً قاسية لا يمكن من خلالها تحقيق أى استقلال اقتصادى فى المستقبل ، بل تدمر ما هو قائم من كيانات اقتصادية ناجحة ، وتحويلها لصالح حفنة من اللصوص الكبار ، الذين برعوا فى اقتراض المليارات من مدخرات المصريين البسطاء في البنوك المحلية ، وتحويلها إلى الخارج بعد دفع الفتات منها فى شراء هذه الكيانات ، وتشريد عمالها ووقف إنتاجها أو احتكاره ، واستثمار الأراضى المقامة عليها ، أو الآلات التى يتم تكهينها وبيعها لآخرين بأثمان مرتفعة بعد شرائها بأثمان بخسة تحت مسمى الخصخصة " ..

ومع أن البرنامج أشار إلى أن الخصخصة تعنى إقامة كيانات إنتاجية ومنشآت إقتصادية جديدة فى إطار ما ، وليس بيع القائم الرابح ، فقد كنت أتمنى أن يتم النصّ بوضوح وصراحة على وقف الخصخصة الجارية ، وتشجيع إقامة قطاع خاص حقيقي من مدخرات المصريين عن طريق التعاونيات الحقيقية التى يشرف عليها أصحاب الأسهم المعنيون ، وسبق فى الحلقة السابقة أن أشرت إلى ضرورة تشجيع الشركات المساهمة التى يتم تحصينها ضد التأميم أو المصادرة ، والسعى لإقامة مشروعات القطاع الأهلى جزئياً أو معظمها فى الأراضى غير الزراعية ، أو الظهير الصحراوى للمدن والقرى وتشجيعها بالإعفاء الضريبى والجمركى ، وإقامة البنية الأساسية من طرق ووسائل اتصال ومواصلات وشبكات مياه الشرب والصرف الصحى وغيرها .

إن الاستبداد السياسى يوقف حال النمو الاقتصادى ، ويخيف الناس من العمل الجاد فى إقامة المشروعات الكبرى ، أو يحبطهم بما يغدقه على كبار الاحتكاريين من امتيازات وعدم مساءلة ، بل وتطويع القرارات العليا لإرادتهم ومصالحهم ( تأمل مثلاً عدم سريان قرار لمجلس الوزراء باستيراد الحديد والأسمنت فى ظل رفع أسعارهما بطريقة فاحشة ومستفزة ومتحدية ! )

إن إعمار الأرض لا يتم إلا فى مناخ الحرية الكاملة والعدالة الدقيقة والمعرفة المتاحة ، وهو ما أشار إليه البرنامج فى صياغة تحتاج إلى تعديل فى السطر الثالث بالصفحة الخامسة والأربعين ، فتكون الحرية أولاً ، والعدل ثانياً ، والمعرفة ثالثاً .

أيضاً ، فإن حشد المدخرات المحلية ، يجب أن يكون له أفق واضح ، بحيث يتيقن المواطن البسيط أن مدخراته القليلة ، ستتحول إلى مشروعات على أرض الواقع ، تستوعب عمالة ، وتقدم إنتاجاً ، وتحقق أرباحاً ، وليس بوضعها فى بنوك ، تضارب بها فى المجهول .. ولست أدعى فى هذا السياق " تخصصاً دقيقاً " ، ولكني أتحدث برؤية مواطن بسيط يتمنى أن يجد ما يدخره قد أحدث حركة أو رعشة خفيفة تحرك اقتصاد بلاده ، ولذا لا أوافق أبداً على القول إن التمويل عن طريق المداينة بفائدة مرفوض ، إلا فى حالة الضرورة أو الحاجة أو عموم البلوى " ( ص 47 ) .

واعتقادى الشخصى أن الضرورة والحاجة وعموم البلوى ليست قائمة فى مصر بالمعنى الشرعى ، ولن تقوم بمشيئة الله .. ويوم تكون هناك حكومة غير مستبدة ، ومعبّرة عن عموم الشعب ، وتأخذ بإرادة هذا الشعب ، فإنها تستطيع أن توفر نصف الميزانية الحالية التى تنفق فى وجوه غير ضرورية ، وتأمل مثلاً ميزانية وزارة الدعاية ، ووزارة الثقافة ، ووزارة الداخلية ( الأمن المركزى بالذات ) ووزارات أخرى لا ضرورة لها : البيئة ، التعاون الخارجى ، التنمية الاقتصادية ، الإدارة المحلية ، الرياضية ، .... بل إن وزارة التربية والتعليم – بوضعها الحالى – ليست ضرورية ، ويكفى أن تقوم إدارة الامتحانات بدورها ..

أظن أن توفير هذه الوزارات ، مع ترشيد الإنفاق الحكومى فى الوزارات المتبقية ، يجعل الضرورة أو الحاجة أو عموم البلوى غير قائمة .

إن نظام الفائدة ثبت أن ضرره أكبر من نفعه ، وأنه لا يثقل الدولة بالديون فحسب ، بل يقيدها بأصفاد التبعية والإذلال والتفريط فى الكرامة الوطنية والقومية ، والشواهد حاضرة أمام كل العيون ، والعدسات أيضاً .

لقد أعجبتنى مقالة رمزية ، جاءت على هيئة قصة للدكتور " محمد يوسف عدس " ، تحدث فيها عن أربعة أشخاص يعيشون فى جزيرة منعزلة بالمحيط ، هبط عليهم مغامر ، وصنع لهم عملة ، وأقرضهم بالفائدة ، فتكاثرت ديونهم ، حتى تمكن من تسخيرهم لخدمته تماماً ، وتسليمه حصاد إنتاجهم ومجهودهم ، وفى النهاية ثاروا عليه ، واكتشفوا ألاعيبه وأكاذيبه ، فلم يكن فى يوم ما يسعى لخدمتهم ، ولكنه كان يهدف إلى السيطرة على الجزيرة ومن فيها !

مصر مليئة بالخيرات ، ويوم تتحرر سياسياً ، ستتحرر اقتصادياً واجتماعياً وستحقق تقدماً حقيقياً ، إلى الأمام ، وليس تقدماً إلى الخلف .. وإليكم تجربة " العدالة والتنمية " التركى مرة أخرى ، فالقضاء على الاستبداد والفساد ، فتح الطريق لوزير الاقتصاد التركى ، ليقول : نحن لم نعد بحاجة إلى صندوق النقد الدولى أو البنك الدولى  .. ونواصل إن شاء الله .