وقفة بين عامين

كلوفيس مقصود

 كانت الايام الفاصلة بين عامين تعتبر مناسبة لتبادل التهاني ورسم توقعات مستقبلية واعدة... واذا تحقق بعضها انتفى التشاؤم حتى لو لم يتحقق بعضها الآخر. وهكذا كان هامش التفاؤل قائماً وان كان المطلوب المتبقي مؤجلا. صحيح ان منسوب التفاؤل كان متفاوتا لكنه استمر قائماً.

اما بالنسبة الى حال الامة العربية والاوطان المكونة لها فالوقفة تتميز بصعوبة التفاؤل وان لمدة. واذا كان من تمنٍّ فارجو ان يكذب العام القادم هذا التوقع ويحسم بنفيه. صحيح ان توصيفاً كهذا يجب ان يكون عاملاً تحريضياً على الافضل الا ان صعوبة التفاؤل واحياناً اقترابه من الاستحالة تحول التسليم بهذه الحالة استسلاما لمنطق "واقعية" مهدت بقدرية سائدة.

ولعل لهذا الوضع اسباباً واضحة تكمن في ما آلت اليه التطورات بعد احداث 11 ايلول 2001، الى استقطابات حادة اختزلها الرئيس جورج بوش بـ"... إما معنا وإما ضدنا". وتصرفت ادارته على اساس اقفال باب المساءلة ثم تعليق العديد من الحريات المدنية والدستورية لمواطني الولايات ا لمتحدة والمقيمين فيها، بدليل ما انكشف من ممارسات شاذة  وتعذيب قامت به وكالة المخابرات المركزية في سجون سرية في دول عدة من العالم اضافة الى خروق مثبتة لاتفاقات جنيف. الا ان هذا الاستقطاب مهد لفرز اميركي حديد بحيث اعطت ادارة بوش تحديد من هو "المعتدل" ومن هو "المتطرف" بموجب تفردها بهذا التوصيف. فبالنسبة الى الدول العربية وقضاياها المصيرية بات "المعتدل" من طبّع مع اسرائيل او سعى الى التطبيع و"المتطرف" من يرفض او حتى من يتردد في التطبيع او السعي اليه. بمعنى آخر صار العربي "المعتدل" هو من يسهل لمقتضيات متطلبات العلاقة الاستراتيجية الاميركية الاسرائيلية.

طبعاً هذا الفرز تفاقمت دوافعه أثر غزو العراق وتداعياته على المنطقة. فكان وجود القوات الاميركية في العراق ذريعة لاسكات المعارضة المتنامية، مما اعاد انتخاب الرئيس بوش على رغم اكتشاف كذب الدوافع التي جذبت بدورها شبكة الارهاب الى ممارساتها الاجرامية في الساحة العربية. فكما أدت سياسة مكافحة الارهاب الى تعليق، وبالتالي تشويه، مرتكزات الديموقراطية والقيم المناقبية التي جعلت الولايات المتحدة عاملاً جاذباً. كذلك عملت "القاعدة" ومتفرعاتها على تشويه، وتزوير، مفاهيم المقاومات المشروعة والقيم الحضارية والاخلاقية والسلوكية للدور التنويري والروحي للاسلام. كما ان "مكافحة الارهاب" تبنت بعض المفاهيم والتفسيرات الاسرائيلية بمعنى الارهاب فكان هذا الدمج الذي يفسر الكثير من المآسي التي يعانيها شعبنا في فلسطين كما يفسر "واقعية" السلطة التي اندفعت في انزلاقها في اطار "مفاوضات" لا يمكن مطلقاً أن تؤدي الى تحرير وبالتالي الى دولة مستقلة بموجب قرارات القمة العربية في بيروت والرياض.

•••

في هذا الصدد لعلها تكفينا مشاهدة مشاهد الحجاج العائدين، أو الذين يحاولون العودة الى غزة من خلال المعبر الذي خرجوا منه هذه المشاهد ليست بحجم الجرائم التي ترتكبها اسرائيل في قطاع غزة لكن ما هو أصعب في الوقفة بين عامين هو تلعثم السلطات المصرية في تسهيل عودة الحجاج الى بلدهم. ومع ذلك علينا أن نفهم ان الارتباك المصري (الرسمي) في هذا الشأن إنما هو افراز فاضح لسياسات الإملاء والهيمنة والاذلال التي تقوم بها اسرائيل تعبيراً عن ان ما تقوم به منبثق من "ضرورات مكافحة ارهاب" حركة "حماس". وهذه الغطرسة الاسرائيلية تنطبق على "مفاوضاتها" مع السلطة ايضاً. فقبل كل اجتماع تفاوضي تقيم مستوطنات جديدة متذرعة بأن على السلطة أن تقوم بدورها في "المساهمة في المهمات الامنية" أي في "مكافحة الارهاب" أي ان تتخلى في شكل كامل عن ثقافة المقاومة وضرورات الوحدة الوطنية لشعب فلسطين. لذا نرى ان اجتماع أنابوليس كان بدوره احتفالاً تحذيرياً تسابق فيه العديد من الانظمة العربية لتلبية استدعاء من دون استيعاب الغاية منه. واستطراداً اعتبرت سوريا دعوتها تمهيداً لاستقامة علاقتها مع واشنطن، كما ان "الاكثرية" في لبنان اعتبرت دعوة سوريا تمكيناً لخروج الولايات المتحدة مما قدمت من "ضمانات" لهذه "الاكثرية". لذا لجأ الرئيس بوش باندفاع شرس الى الدعوة لانتخاب رئيس لبنان بالنصف "زائد واحد" غير آبه لما قد ينتج من هذا التحريض والتدخل السافر في وضع شديد الحساسية.

• • •

جاء اغتيال زعيمة "حزب الشعب" بوتو ليبين حقائق عديدة في طليعتها ان سلاح الارهاب هو المباغتة بمعنى ان اي مسيرة او خطة مدروسة للانفتاح او التنمية والتعامل العادي اليومي يجب ان تتعطل كلها او تتوقف. والمباغتة يمارسها الارهابيون بعملهم على الغاء ثقافة الحياة من خلال توفير الحريات وتفعيل التنمية المستدامة لمجتمعات مستقلة ومستقرة، واستبدالها بثقافة الغاء الحياة وبتر وسائل التنمية ومقدمات استدامتها من خلال تعطيل المؤسسات وضرب الثقافة وتجهيل الاجيال وتغييب المعلومات وحصر طموح الراغبين في مقاومة الظلم بظلامية وعود باطلة. كل هذه الممارسات التي تقوم بها شبكات الارهاب تساهم مع من يرعون "مكافحة الارهاب" في اشتباك عنيف تلغي امكان الحوار والمناقشة والتفاوض ويجعل التخويف منهجا للتعامل بين البشر ويزيح العقل عن مجالات الحكم والتعامل والتطوير وعند ذلك يصبح الخوف مرادفا للحياة ويحصر مفهوم الحياة بـ"البقاء".

كما ان اغتيال بوتو الاخير يشير الى ان خطيئة غزو العراق حرفت شرعية ما قامت به الولايات المتحدة في افغانستان. وكان تركيزها على حربها في العراق فرصة لتجديد انطلاقة من خططوا واحتضنوا من قاموا بعملية 11 ايلول. وكان من نتائج هذا الانحراف الازمة المتزايدة في تداعياتها في الباكستان وما قد ينتج من الاغتيال من ضرورة اعادة نظر جذرية في مختلف اوجه السياسة الدولية للولايات المتحدة. ولعل علينا جميعا ان ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسية التي من شأنها تعديل ان لم يكن تغيير المواقف التي جلبت العديد من المآسي والاخطار في عالمنا العربي... ولا تزال.

• • •

واذا كان منطقيا استبعاد التفاؤل لبنانيا فلأن حدة الاستقطاب والاجراءات الاستفزازية المتبادلة تبرز ميلنا الى عدم اعطاء آمال مغلوطة لشعب لبنان المنهك من الوعود الكاذبة... وعيوب التستر بالدستور، في حين ان الحاجة الى رئيس موجه وقادر يوفر بوصلة مفقودة. ولا يجوز ان يبقى الموضوع الرئاسي معلقا، واذا كان الارهاب يعتمد على المباغتة فعلى الطاقم السياسي ان يفاجىء لبنان بانتخابه بدون تعقيدات العماد ميشال سليمان القادر على تفكيك عناصر هذه المباغتة...  وكل عام والجميع بخير.