عيد الجلاء.. بأي حال عدت يا عيد!!

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

قبل أربع وخمسين عاماً حمل الاستعمار الفرنسي عصاه ورحل عن سورية، وتنفس السوريون أريج الحرية بعد ربع قرن من الجهاد والكفاح والنضال عمّدها الشعب بدماء أبنائه في ثورات متأججة لم تتوقف في طول البلاد وعرضها.

وفي ذلك اليوم وجد السوريون أنفسهم أنهم هم وحدهم من يحكم بلادهم تحت راية الحرية والاستقلال، وأنه لا سنابك لخيل المحتل ولا عصا يلهب بها ظهره ولا إذلال أو قهر أو استعباد أو إقصاء أو نفي.

وسعد السوريون بالحكم الوطني الذي جاء بعد هذه السنين الظلامية التي شربوا كأس حنظلها، متطلعين إلى الغد المشرق الذي حلموا به ليعيدوا لسورية وجهها الناصع التي عرفت به في أيام عزها الخوالي.

ولكن هذا الأمل سرعان ما عكرته ووضعت العصي في عجلته جزمة العسكر التي ورثت عن الاستعمار كل ما هو بغيض ومتخلف وحاقد ومتسلط،، فطوت صفحة تلك الحرية التي تنسمها الشعب السوري بعد ثلاث سنوات من رحيل الغاصب المحتل عبر دبابة ضالة أدارت ظهرها للعدو الصهيوني واستباحت المؤسسات الوطنية ودوائر الحكومة واقتادت رئيس الجمهورية والوزارة التي اختارها الشعب بإرادته ورغبته عبر صناديق الاقتراع النزيهة والشفافة إلى السجون والمعتقلات، وكأن قدر هؤلاء الرجال أن يكونوا نزلاء سجون ومعتقلات الاستعمار وسجون ومعتقلات الجيش الذي هو من المفترض أنه (جيش وطني) يقوم على أمن وسلامة الشعب والحكم الوطني وسلامة حدود الوطن والذود عن حياضه!!

وأدخل هؤلاء العسكر سورية عبر أربعة انقلابات عسكرية متعاقبة في نفق مظلم وفي كبوة لم تفق منها إلا بعد ست سنوات، ولم تكد ثانية تتنسم شيئا من الحرية، ساعية إلى إعادة بناء الوطن والأخذ بيده ليلحق ركب الحضارة والتقدم والرقي في الدول التي سبقته، وتمكن بفضل إبداعات نبغاء الشعب والمال الوطني السخي أن ينافس أرقى دول العالم المتقدمة، قاطعاً أشواطاً بعيدة عمن عاصره من الدول التي استقلت عن الاستعمار معه. فهذا مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا المستقلة يزور سورية عام 1955 ويُبهر بما حققته سورية من تقدم في المجال الصناعي ويقول آملاً: (إنشاء الله ستلحق ماليزيا بسورية بعد خمسين عاماً)!!

أقول لم تكد سورية تتنسم الحرية وتنطلق راكبة قطار التقدم والرقي والمدنية من حيث الصناعة والزراعة والتجارة والحرية والديمقراطية والتعددية التي أقضت مضجع العسكر الذين وجدوا أنفسهم بعيداً عن القرار الذي تعودوا فرضه على ساسة البلاد والعباد، فأقدموا في حركة بهلوانية على تسليم البلاد إلى حكم العسكر في مصر تحت حجج واهية، وإلغاء كل المكاسب والتطور الذي حققته سورية بعبثية ولا مبالاة بعيداً عن أي شعور بالمسؤولية، ومن خلف القيادة الوطنية التي اختارها الشعب بالوسائل الديمقراطية التي كانت مغيبة في مصر، لتعيش سورية أربع سنين ظلامية من القهر والاستبداد والتسلط والإفقار والإفساد والتخلف والقمع حتى القتل.

ومن جديد تمكن الشعب السوري من إزاحة هذا الكابوس عن صدر سورية في 28 أيلول 1961، ومن جديد تعود سورية إلى أحضان الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان.

ولكن الحلم الوردي الذي داعب الجماهير السورية ما لبث أن هوى وتحطم عندما قامت مجموعة مغامرة من ضباط الجيش بالإطاحة مجدداً بالحكم الوطني الذي اختاره الشعب بملئ إرادته يوم الثامن من آذار 1963 لتستقبل سورية الكوارث والنكبات والانكسارات (هزيمة حرب 1967 وهزيمة حرب 1973 وهزيمة حرب 1982) والتخلف والقهر والإذلال ومزيداً من السجون والمعتقلات والإبعاد والنفي والإقصاء في ظل قانون الطوارئ والأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية وتغول الأجهزة الأمنية.

لا أغالي إذا قلت أن سورية لم تذق طعم الحرية بعد إجبار أحرارها الفرنسيين على الرحيل عام 1946 سوى بتسع سنوات من أصل 57 سنة عاشتها في ظل الحكم الوطني الذي أفرزته صناديق الاقتراع الحرة والنزيهة والشفافة!!