خواطر مهجر قسري-2

د. عبد الله السوري

خواطر مهجر قسري

2

د. عبد الله السوري

[email protected]

كانت خلاصة الحلقة الماضية

أن الهدف من الهجرة إلى الحبشة هو توفير احتياطي للجماعة المسلمة يستأنف الدعوة إلى الله عزوجل فيما لو تم القضاء على الجماعة المسلمة في مكة أو المدينة المنورة .

وبالنظر إلى أحوالنا نحن المهجرين القسريين نجد أنه من البدهيات أن الله عزوجل كتب لنا البقاء في الحياة لذلك دلنا ويسر لنا الهجرة ؛ لنكون احتياطاً للجماعة المسلمة في سوريا نستأنف الدعوة إلى الله عزوجل بعد أن قـُضيَ على عدد كبير من خيرة أبناء الجماعة  ...

وقد ألهمني الله عزوجل في عام (1980م) أن أفتي لمن أقابله من شباب الحركة الإسلامية بالهجرة ، مع أن بعضهم كان يسميه الفرار يوم الزحف . وقد كتب لي أن أشهد عام (1980م) في سوريا ، بل في منطقة الصراع المسلح ، وييسر لي الهجرة في أواخره .

ولكل عاقل أن يتصور ماذا كان سيجري له لو لم يهاجر !!؟ والجواب معروف وبدهي ، فقد شاعت الأخبار عن القتل الجماعي والمجازر الجماعية في حماة وحلب وجسر الشغور وقرى إدلب وغيرها كثير ....وشاع لدى كل ذي عينين الإعدام الدوري خلال يومين في الأسبوع في تـدمر على مدى سنوات .....

وأرجو من كل عاقل أن يسأل نفسه هذا السؤال :

لو لم تكن الهجرة القسرية التي يسرها الله لأبناء الحركة الإسلامية وأقاربهم هل سيقــُضى على جميع أبناء الحركة الإسلامية ؟ أم لا ؟ هل يرقبون في مؤمن إلاً أو ذمة !!! هل راعوا أنوثة المرأة أو شيخوخة الرجل الطاعن في السن ؟؟؟ أو براءة الأطفال !!؟

لاشك أن فضل الله ولطفه سهل ويسر لنا الخروج ، لهدف وغاية أرادها الله عزوجل وهو استمرار الجماعة المسلمة في الوجود وفي الدعوة إلى الله عزوجل ، وبعد أن عشت عام ( 1980) وصففت على الجدار أكثر من مرة ، وسمعت تهييئ الكلاشنكوف خلف ظهري ، وكتب لي ربنا البقاء ، ويسر لي الخروج ، بشكل إعجازي عندما تم التعاقد مع مكتب التوظيف السعودي ، فخرجت من مطار دمشق الدولي بجواز سفر ووثائق تامة مازلت أحتفظ بها للذكرى . وماجرى معي جرى مع المئات ...

1-  في نهاية العام الدراسي (1980) أخذت أوراق الامتحان كي أسلمها لأمين سر الثانوية ، ولم أجد الوحدات الخاصة على الباب كالعادة ، فدخلت ووجدت ثلاثة مدرسين جاءوا للسبب الذي جئت من أجله ، وكانت الثانوية محتلة من قبل الوحدات الخاصة ولايدخلها طالب أو مدرس إلا بعد أن يفتش من قبلهم .... ولكن في ذلك اليوم ، وبعد أن انتهى الامتحان الأخير ، وجئنا نسلم الأوراق بعد تصحيحها لأمين السر ، وكنا في غرفة الأخير وإذا يدخل علينا فراش المدرسة مصفر الوجه ويقول : ارفعوا أيديكم واخرجوا من الغرفة ...فنظرنا إليه وقلنا له : سلامتك هل أنت مسخن ؟ وفي ثوان قفز جندي الوحدات بيننا وهيأ الكلاشنكوف وصرخ ( بلهجة محلية ) : ماسمعتم ماقال لكم ؟ قوموا يا (.....) ارفعوا أيديكم يا ( ....) اصطفوا هنا ( على جدار الممر ) ...وتقدم رفيقه ففتشنا وتفقد أجسامنا جيداً ....ثم بدأ يحاضر فينا : أيها (.....) : كيف دخلتم المدرسة بدون إذن منا ...يا .... يا .....

كنت أقرأ ما أحفظ من كتاب الله ، وأكرر الشهادة بين الفينة والأخرى ....وأصبر زميلي الذي يقف جواري لآنه يريد أن يتكلم وأنا أعرف أن الصمت أفضل من الكلام في هذا الموقف ، لأن إصبعه على الزناد وأي انفعال منه صرنا في رحمة الله ....

وبعد عشرات الشتائم قال الآن تتعهدون أن لاتدخلوا المدرسة حتى نسمح لكم ، ولو أتيتم ولم تجدوا تقفوا عند الباب مثل ( ........) حتى نحضر ونسمح لكم .... قلت لهم : حاضر ....ووقعنا لهم التعهد ....وكتبت لنا حياة جديدة ....

2-  كنت أقف على إشارة المرور ، وسيارة المخابرات خلفي في شارع خطير عليهم ، جرت العادة أنهم لايقفون عند الإشارات الضوئية ، ولم أكن أعرف ذلك ، وهم يفتحون ( البوري ) كي أمشي وأتجاوز الإشارة الحمراء وأفتح لهم الطريق ، ولما لم أفهم ذلك قفزوا ، وأخذ الضابط هويتي ، وجلس ضابط صف بجواري وفوهة الكلاشنكوف في كتفي الأيمن ...وساقوني إلى المخابرات العسكرية ....وقد دهشت ، وألهمني الله الصمت ، وأنا أفكر ( لماذا أخذوني من الشارع !!! وهم يعرفون مكان عملي ، ويستطيعون اعتقالي من هناك بسلام) ،  ...وأدخلوني في القبو .....وبعد بضع ساعات أخرجوني بعد أن بحثوا فلم يعثروا لي على ملف عندهم .... لأنني كنت بعيداً عنهم بضع سنين ، فأخرجوني وعرضوا علي التعاون من أجل مصلحة البلد ( كالعادة ) .... وشاء الله اللطيف أن أعيش حياة أخرى ....وأكرر دعائي الذي استولى على لساني وذهني طوال العام ( اللهم اجعل لي مخرجاً ) وقد فرج الله وجعل لي مخرجاً معجزاً كما أسلفت ....

وأعتقد أن ماجرى معي جرى مع المئات وربما الألوف ، بعضنا من كتبت له الحياة ، وبعضنا من لقي ربـه ....

فمـاذا لو لم نهاجـر !!!؟

هل قرأتم كتاب محمد سليم حماد تدمر شاهد ومشهود ، وهل قرأتم كتاب في القاع ، والقوقعة ، ورواية الملائكة والشياطين ، وخمس دقائق تسع سنوات في سجون الأسد ، وأمثالها ؟ ماذا لو لم نهجر !!!؟