فزّاعة الطائفية والتحريض الطائفيّ

لا تُرهِبنا فزّاعاتهم :

فزّاعة الطائفية والتحريض الطائفيّ

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

القضية الطائفية نالها من المغالطات والتحريضات، ما لم تنله أية قضيةٍ أخرى، لِظنّ مَن يعزفون على هذا الوتر، من الذين يتصدّرهم النظامُ الدكتاتوريّ الطائفيّ.. أنّ ذلك سيرفع عنهم الجناية الطائفية أولاً، ثم ليُلصِقوا هذه الجناية الضخمة بالحركة الإسلامية -افتراءً- .. ثانياً، على مبدأ: (رمتني بِدَائها وانسلَّت)!.. ونحن عندما نتعرّض لهذه القضية الهامة الحسّاسة، لا يفوتنا أن نجدِّدَ إعلاننا بشكلٍ واضحٍ لا يقبل اللّبس، بأننا نحترم كل الطوائف والأقليات في وطننا سورية، ونحترم حقوقها الكاملة في المواطنة والوطن والحقوق والواجبات، بالمساواة والعدل والقسط، وبخاصةٍ تلك التي نصّب بعضُ الناس أنفسهم أوصياء عليها، يتحدّثون باسمها ويُحرِّضون!..

لن ندفنَ رؤوسنا في الرمال كما يفعل بعض الناس، ولن نقفزَ على الحقائق الراسخة على أرض سورية منذ مئات السنين كما يرغب الطائفيون، فحقائق الواقع والتاريخ والجغرافية في سورية، تقرِّر بما لا يقبل التأويل أو التزوير، بأنه توجد في الوطن السوريّ أكثرية كاثرة، وإلى جانبها طوائف من الأقلّيات التي نحترمها، ونحترم حقوقها الكاملة في المواطَنة والحرية والمشاركة في بناء الوطن الواحد.. فالوطن لكل أبنائه، ومؤسّسات الوطن وأرضه وسماؤه ليست حكراً حتى على الأكثرية، فكيف إذن يغالط المغالطون، فيبرّرون احتكار الوطن، لا بيد الأكثرية، بل بيد أقليةٍ لا تتجاوز نسبتها الثمانية بالمئة من سكّانه، كما هو حاصل الآن منذ عشرات السنين؟!.. ولا نجد أننا بحاجةٍ إلى سرد الأدلة على كل كلمةٍ مما نقول، فنحن لا نتحدّث عن وطنٍ يقع وراء المحيطات، بل نتحدّث عن وطننا سورية الذي يعيش فيه المواطن السوريّ التمييزَ الطائفيّ الأعمى على مدار الساعة، على كل المستويات، وفي كل مؤسّسات الدولة، وبكل نواحي الحياة.. وكل مواطنٍ سوريٍ يعرف أنّ جواز العبور إلى أي موقعٍ في الوطن، يجب أن يكونَ ممهوراً بموافقةٍ صادرةٍ عن ذي نفوذٍ طائفيٍ لنظامٍ طائفيٍ حتى النخاع!.. هذا في المؤسّسات التي ليس لها كبير أهمية، أما في المؤسّسات المهمة، فالأمر أشد صعوبة!.. وأما في المؤسّسات الحسّاسة كالجيش والأمن وكبريات المؤسّسات الاقتصادية ومثيلاتها.. فالأبواب المهمّة ومواقع التأثير، موصدَة تماماً بوجه أبناء الشعب الذين لا ينتمون إلى الطائفة التي يحكم النظام باسمها تحديداً، لأنّ تلك المؤسّسات الحسّاسة هي مادة الحياة التي يستمدّ منها هذا النظامُ الطائفيّ استمرارَه في التسلّط على الوطن وأبنائه، وهي الوسيلة التي أمرعت بها أعداد غفيرة من الأقلية، التي تجذّرت في مؤسّسات الحكم والسلطة الفاعلة.. وهي قبل كل ذلك، الجدار الذي يستند إليه نظام استئصاليّ طائفيّ في نهب خيرات الوطن وممارسة الفساد بشتى جوانبه.. لا نتحدّث هنا عن المؤسّسات الديكورية الكرتونية الزائفة، من مثل: مجلس الشعب، والجبهة الوطنية، ومجالس الإدارة المحلية، وبعض الوزارات التكنوقراطية.. إنما نتحدّث عن مواقع السلطة الفعلية ومراكز قواها الحقيقية، التي يعرفها كل ذي قلب!..

*     *     *

هل نحن بحاجةٍ إلى إيراد الدلائل الكثيرة على أنّ سيطرة الطائفيين على السلطة والحكم.. قد دُبِّر بليلٍ بهيمٍ حتى قبل أن يقفزَ حزب البعث إلى الحكم؟!.. وهل نحن بحاجةٍ إلى الحديث عن الفترة اللاحقة لذلك، يوم استأثرت اللجنة العسكرية الثلاثية الطائفية (عمران-جديد-أسد) بحكم سورية -حقيقةً وواقعاً- من بابها إلى محرابها؟!.. ثم وقعت التصفيات بين رؤوس مثلث الطائفيين، فآلت الأمور أخيراً إلى حافظ أسد، الذي حوّل الحكم في سورية إلى حكمٍ طائفيٍ مقيتٍ واضحٍ بالعين المجرّدة، ثم حوّله إلى حُكمٍ عائليٍ وراثيٍ مدعومٍ -في كل مفاصله الفاعلة المؤثّرة- بشكلٍ مطلقٍ من قبل معظم أبناء الطائفة، الذين بدأوا يتخندقون حول الحكم الطائفيّ منذ أوائل الستينيات، وأكملوا تخندقهم حوله في أوائل السبعينيات، وراحوا يقطفون ثمار خندقتهم، وما يزالون يسرحون ويمرحون ويمرعون ويستأثرون بطول الوطن وعرضه!.. إنه تاريخ، وإنها حقائق ماثلة لكل ذي عينين، لا يمكن لأيّ منصفٍ أن يقفزَ عليها أو أن يتجاهَلَها!..

فالقضية ليست كما يصوّرها بعض الطائفيين ببهلوانيةٍ مكشوفة، خالطين الأوراق، ومزوّرين الحقائق، ورامين الحركةَ الإسلاميةَ السوريةَ بجناية الطائفية، مفتعلين انزعاجاً مصطنعاً، من تسميتنا الحكم في سورية بالحكم الطائفيّ، فهو فعلاً وحقيقةً وواقعاً: (حُكم طائفيّ)، يسيطر عليه طائفيون مهووسون بطائفيّتهم، وإنّ رفضَ هذا الواقع من قِبَلِ بعض الوطنيين الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية.. لا يُغيّر من وصف الحقيقة الجارية على أرض الوطن فعلياً.. ونحن في هذا لا نتحدّث عن وطنٍ في المرّيخ أو في مثلّث برمودا، بل نتحدّث عن وطننا سورية، الذي ولِدنا فيه، ونشأنا فيه، وامتُحِنّا فيه، ونالنا فيه من الظلم والاستبداد والاضطهاد الطائفيّ، باسم الطائفة وبسوطها وسيفها.. ما لم ينله أي إنسانٍ يعيش على أبواب القرن الحادي والعشرين!..

يحاول بعض القافزين على الحقائق، أن يوهموا الناس ويقنعوهم بوجهة النظر (الطائفية) لحكّام سورية، وذلك عندما يعرض بعضهم هذه القضية الحسّاسة بمواربةٍ مكشوفة، إذ يُلقون بمسؤولية تخندق الطائفة حول الحكم، على جماعة الإخوان المسلمين، زاعمين بأنّ الجماعة ارتكبت خطأً قاتلاً استئصالياً!.. وأن هذا الخطأ القاتل المزعوم، هو استهداف الطائفة الحاكمة، وأنّ هذا الأمر استفاد منه استئصاليّو النظام، لإقناع معظم أبناء الطائفة بالتخندق حول الحكم!.. وقد بيّنا آنفاً، بأنّ هؤلاء كانوا متخندقين حول الحكم أصلاً، قبل أن ينتفضَ الشعب على الطغيان الطائفيّ بأكثر من عقدٍ ونصفٍ من الزمن، وأنه يوم قامت الانتفاضة الشعبية الكبرى التي انخرطت فيها الحركةُ الإسلامية.. كان القمع والتمييز والاضطهاد قد أخذ مداه، وسوط الحكم قد بلغ أوج الأذى في لسع المواطن المقهور، وكانت مجازر (الإقصاء والعزل) بحق أبناء الأكثرية الساحقة قد نُفِّذت بشكلٍ كامل، كمجزرة التعليم، ومجزرة القضاء، ومجازر الجيش، وغيرها من المجازر اللاحقة، أبرزها مجزرتا التعليم الجامعيّ ومجالس النقابات المهنية.. كما كانت المجازر الجسدية والاعتقالات العشوائية وعمليات القتل على الهوية قد ارتُكِبَت على أوسع نطاق، قبل أن تُرتَكَب المجازر العلنية الشهيرة (تدمر وحماة وحلب وسرمدا وجسر الشغور و..).. بل كان كل ذلك، هو المحرِّضُ الرئيسُ لاندلاع الانتفاضة الشعبية ضد طغيان النظام الحاكم وطائفيّته!..

*     *     *

شتّان بين مَن يمارس الطائفية وبين مَن يقاومها، فالفرق بين ممارستها ومقاومتها، لا يستطيع أن يلمسَه أو يراه طائفي مغالط منفعل، على الرغم من وضوحه الشديد!.. ولينظر القافزون -عمداً- على الحقائق التاريخية الموثّقة إلى عملية مدرسة المدفعية الشهيرة (عام 1979م) مثلاً، التي نفّذها شباب كان النظام قد حَكَمَ عليهم بالإعدام، واستنكرتها جماعة الإخوان المسلمين رسمياً، وأعلنت استنكارها ذلك على الملأ.. فهل كانت تلك العملية المجزرة.. إلا ردّ فعلٍ عنيفٍ على تجميع أبناء الطائفة العلوية بما تفوق نسبته الثمانين بالمئة في دورةٍ عسكريةٍ واحدة؟!.. بينما حُرِمَ أبناء الأكثرية الكاثرة منها، لا لشيء، إلا لأنهم أبناء الأكثرية الكاثرة!.. فمن هو المسؤول الأول والأخير عن تأجيج نيران الطائفية؟!.. وهل الحركة الإسلامية مسؤولة عن كل ردّات الفعل غير المسؤولة، التي ارتكبها مواطنون اضطُهِدوا وصودِرَت حقوقهم الأساسية في وطنهم، وسُلِبَ منهم دورهم الوطنيّ، بل وثُلِمَت أعراضُ بعضهم.. بنهجٍ طائفيٍ قمعيٍ مرسومٍ سار -وما يزال يسير عليه- النظام الأسديّ الحاكم؟!.. فلماذا يلتفّ بعض الناس على الحقائق على الرغم من وضوحها الشديد؟!..

إنه مما لا ينقضي له عجب، أنّ الذين ما يزالون يبرِّرون سيطرة النظام الطائفيّ على مفاصل الحياة السورية، التي سلبها من الشعب السوريّ بالقوّة والطغيان والقمع الوحشيّ.. أنّ هؤلاء الغارقين في طائفيّتهم.. يُنَصِّبون أنفسهم أوصياء على كل أمرٍ وقضية، وينفخون في (كِير) الفتنة إلى أبعد مدىً ممكن، ويُحَذِّرون ويتوعّدون، ويقطعون ويمنعون، ثم يتّهمون أبناء الحركة الإسلامية بأنهم طائفيون!.. فعيونهم (الثاقبة) تستطيع اصطياد كلمةٍ في مقالةٍ إشكاليةٍ من بين أطنان ما يُنشَر كل ساعة، لكنها تَعمى عن أن ترى النظام وظلمه وعسفه وتواطؤه وجرائمه وتسلّطه.. وطائفيّته التي يمارسها بأبشع صورها منذ عشرات السنين على مساحة الوطن السوريّ كله، فماذا وراء الأكمة؟!.. وما السرّ في كل ذلك؟!..

لو كان الإخوان المسلمون طائفيين استئصاليين يحاسبون الناس على الهوية -كما يزعم الطائفيون الحقيقيون- .. لما شاركوا في بناء الوطن مع غيرهم من أبناء الطوائف، ولما تعايشوا معهم منذ تاريخ نشأتهم عشرات السنين، ولما بقيت سورية المسلمة ذات الأكثرية الساحقة على مرّ التاريخ.. بلداً مركّباً هذه التركيبة الفسيفسائية اللافتة، وأماً رؤوماً لكل الأقليات، تعترف بكامل حقوقهم في الحياة والحرية والمشاركة والحقوق والواجبات!.. فأي جنايةٍ تُقتَرَف بحق الوطن وحق أبنائه، عندما يتحايل بعض الناس على الحقيقة، فيقلبون الحق إلى باطل، ويجعلون من الباطل حقاً، ثم يُجَرِّمون الضحيةَ، ويُبرِّؤون الجاني؟!..

*     *     *

لقد سيطر الطائفيون على كل مفاصل الدولة والحياة والقوّة في سورية، عسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وقاموا بتشكيل الميليشيات الطائفية المتعدّدة المعروفة لكل مواطنٍ سوريّ، بل أسّسوا جيوشاً طائفيةً مُسلَّحةً بأحدث الأسلحة التي حُرِمَ من بعضها الجيشُ السوريّ الوطنيّ نفسه، وفوق ذلك كله.. استقوى النظام الطائفيّ والطائفيون بحلفٍ طائفيٍ مشبوهٍ أحكموا عُقَدَه وما يزالون يُحكمونها على أرض سورية، باستقدام قطعان المحتلّين الطائفيين الإيرانيين وأنصارهم، القادمين إلينا بكل حقدهم وأطماعهم وضلالهم وفسادهم وقواهم الميليشياوية والأمنية، وأُطلِق العنان لأضخم حملةٍ تبشيريةٍ طائفيةٍ سرطانيةٍ استعمارية، يحميها الطائفيون والنظام الطائفيّ ويرعونها ويغذّونها على حساب سورية وأكثريّتها الكاثرة.. فمن الذي يحتاج إلى تطمينٍ وتأكيداتٍ متكرّرةٍ على التطمين؟!.. همسة لا تخلو من المرارة، نهمسها في آذان الإخوة الأفاضل، الذين ما يزالون ينظرون إلى القضية الوطنية -التي نحمل عبئها منذ عشرات السنين- بعين الريبة والشك والتوجّس والتردّد، وهي الأمور التي زرعها النظام الطائفيّ الحاكم في قلوبهم وقلوب أبناء الطائفة، ضمن لعبةٍ مكشوفة، لتثبيت نفسه وترسيخ وجوده، بتوريط الطائفة كلها في حماية طغيانه واستبداده وباطله وخياناته، وحشرها في موقع المواجهة مع الشعب السوريّ كله؟!..

لا نجد أنفسنا أننا بحاجةٍ لتأكيد ما أكّدناه مراراً، وما يؤكّد عليه نهجنا منذ ولادة الحركة الإسلامية السورية، وما أعلنّاه بكل وضوحٍ في مشروعنا السياسيّ وفي وثائق أخرى نشرناها في مشارق الأرض ومغاربها.. بأننا من مبدأ التزامنا بإسلامنا العظيم، الذي يأمرنا بقبول التعدّدية الدينية، ومن واقع اعترافنا بالواقع الديموغرافيّ التعدّديّ السوريّ.. لا نقبل أن نحكمَ على أجيالٍ بجريرة جيلٍ سبقها، أو أن نحكم على طائفةٍ أو فئةٍ بوزر مَن سبقوهم من بني جلدتهم (.. وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الأنعام: من الآية 164).. وبالتالي سيبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه إلى يوم الدّين، لمن يرغب في سلوك طريقٍ صحيحٍ قويم، يُفَاصِل فيه المجرمين الطائفيين الحقيقيّين السابقين والحاليّين، ويُفاصِل أخطاءهم وجرائمهم وانتهاكاتهم وعنصريّتهم، ويضع يده وإمكاناته في المسارات الوطنية المخلصة للتغيير المنشود، لإنقاذ سورية وتحريرها من هذا البلاء الطائفيّ، الذي ينفخ في (كِيره) نظامٌ حاكمٌ طائفيّ شديد الفساد، يحتلّ سورية من بابها إلى محرابها، ويشوّه وجهها الوطنيّ المتآلف المشرق، الذي طالما رسم معالِمَه تعاضدُ أبنائها على اختلاف منابتهم ومشاربهم واتجاهاتهم.. كل أبنائها بلا استثناء.

               

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام