عندما يموت الشهداء
صلاح حميدة
بعد اغتيال خليل الوزير بداية انتفاضة الحجارة في ثمانينيات القرن الماضي، رأى بعض الشّبان في منطقتنا أن يأتوا بحجر ويحفروا عليه إسم خليل الوزير، والآية " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون" ووضعوه في ميدان البلدة بين الأزهار، بعد أيّام قدم ضابط احتلالي من ما كان يعرف حينها بالإدارة المدنية الاسرائيلية، واحتجز مجموعة من الشّبان وأحضر لهم مطرقة كبيرة، وطلب منهم تحطيم هذا الحجر الذي يخلّد ذكرى الرجل، الموقف الطّبيعي وقتها، كان الرّفض القاطع لتحطيم الحجر بالرّغم من أنّ كل هؤلاء تعرّضوا للضّرب المبرّح على يد جنود الاحتلال، وبالتّأكيد كانوا يتوقّعون ما هو أسوأ من الضّرب، فاضطر الضابط الاحتلالي أن يحطّم الحجر بنفسه، فتحطّم الحجر وبقيت معاني الشهادة حية.
من المعروف أنّ الشّهداء في أيّ مجتمع يحظون بالاحترام والتقدير الشّديدين، ويتم تكريمهم عبر العديد من الوسائل، من أهمها أن لا تذهب دماؤهم سدى، والمقصود هنا، ليس أن لا يتم الانتقام لهم فقط، بل أن لا يتم التفريط في القضايا التي آمنوا وضحّوا بدمائهم وأرواحهم ورفاهية عائلاتهم من أجلها، ولم يترددوا للحظة عن تنفيذ ما آمنوا واقتنعوا به.
أمّا تكريمهم وتكريم أهاليهم من بعدهم، فهذه أيضاً من القضايا التي تم إيلاؤها شعبياً وفصائلياً أهميّة كبيرة، ومنها الجنازات المهيبة، وما يرافقها من فعاليات وإحياء للذكرى، ورفع للصور، وتسمية الميادين والشّوارع والمؤسسات والأبناء بأسمائهم وغيرها.
يتساءل الكثيرون عن السبب في استماتة الاحتلال في منع دفن الشّهداء في جنازات ومسيرات؟ وعن إصراره على أن يتم دفنهم في ظلمة الليل وبعدد قليل من المشاركين لا يتجاوز العشرة؟ وعن اهتمام ضابط احتلالي كبير بأن يهدم حجراً عليه إسم شهيد في ميدان؟ وعن اعتقال أجساد الشّهداء في ما يعرف بمقابر الأرقام؟ مثلما جرى مع رموز كثيرة من الشعب الفلسطيني من مقاومين نفذوا عمليات نوعية أو دوّخوا أجهزة استخباراته؟.
بالتأكيد يعلم الاحتلال القيمة المعنوية لكل هذه القضايا الشّكلية في مظهرها، وهو يعلم أنّ هؤلاء الأبطال الشّهداء سيشكّلون قدوة للأجيال القادمة من بعدهم، بعد أن يروا كم الاحترام والاهتمام الذي يوليه الجمهور لهؤلاء الشّهداء ولأهاليهم من بعدهم. وبالتالي فهو يعلم تأثيرات هذه القضايا الشّكلية عملياً في تشكيل الوعي والثّقافة للجمهور الفلسطيني، وخاصة الأجيال القادمة، وهنا يكمن سر الحرب الشّرسة على أي شيء يذكّر الأجيال القادمة والجيل الحالي بهؤلاء الشّهداء وبأفعالهم البطولية، والقضايا التي استشهدوا من أجلها.
الشّهداء "أحياء عند ربهم يرزقون" هي الشّهادة والرّفعة والمنزلة الإلهية للشهداء، وللقضايا المحقة التي قتلوا من أجلها، وليس صدفةً أن يجعل الله الاهتمام والرّفعة للشّهداء قرآناً يتلى، وليس صدفةً أن يذكر الرسول عليه الصّلاة والسّلام قدر الشّهداء ومكانتهم في الجنة بين الأنبياء والصّديقين والصّالحين، وليس صدفة أن ينزل التراث والثّقافة الشّعبية - لكل شعوب الأرض - الشّهداء مكانتهم التي يستحقّون، وليس صدفةً أيضاً أن يلجأ أعداء الشعوب لبتر أي صلة لهؤلاء الشّهداء بالاجيال التي تليهم، أملاً بإحكام السّيطرة على العقل والثّقافة، بعد السّيطرة على الأرض وقهر الشّعب.
مرّت قبل فترة ذكرى استشهاد صلاح خلف ( أبو إيّاد) وتصادف حينها أنني كنت أقرأ كتاباً يحتوي محاضرات له، في فترات زمنية مختلفة، وللمصادفة أيضاً انّه تطرّق لهذا الموضوع أيضاً، وهو التخطيط والسّعي الحثيث للقوى الاستعمارية ومن يتحالف معها من الأنظمة العربية، لسلخ الفلسطيني عن ممارسة وعن ثقافة المقاومة التي هي سلوكه الفطري، ليصبح مسخاً معادياً لذاته ولقضيّته، وكان يؤكّد دائماً " أنا أتحدّث عن معلومات، لا عن تحليلات" وفي نفس الفترة أيضاً كتب الكاتب عبد الله عيسى مقالاً بعنوان ( الشّهيد أبو إيّاد يتململ في قبره) وتضمّن المقال نقداً لاذعاً للّجنة المركزية والمجلس الثوري الجديدين لحركة "فتح" لتمريرهما هذه الذّكرى بلا إحياء لها، ولا حتى ببيان للصّحافة، واعتبر الكاتب أنّ حركة "فتح" دفنت وأصدرت شهادة وفاتها في مؤتمرها السادس، خاصةً وأنّ أبوإيّاد يعتبر من أقطاب الثورة الفلسطينية، وأحد منظّريها، وهو من المؤسسين الأوائل لحركة "فتح".
أمّا المناضلة الفلسطينية الشهيدة دلال المغربي، التي كنا ونحن أطفال نتغنّي ببطولاتها وتضحياتها على مدار السّاعة، فقد سعِدَ كل فلسطيني وحر في العالم، عندما سمع أنَّ جثمانها سيطلق سراحه في صفقة تبادل الأسرى مع "حزب الله" ولكن تبيّن أن جثمانها بقي حبيس أرض فلسطين، وهذه ميّزة حباها الله لهذه الشّهيدة، التي خاضت غمار البحر لتعانق رمال فلسطين، هادفة لتحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب، فقدّر لجثمانها أن يكون حبيس أرض الوطن.
قبل فترة أثار الاحتلال احتجاجات واسعة بسبب سعي السّلطة في رام الله وبالتّعاون مع بلدية البيرة، لتخصيص ميدان في مدينة البيرة يخلّد إسم الشّهيدة الأسيرة دلال المغربي، تعالت أصوات كثيرة ترفض وقاحة الاحتلال فيما يخصّ هذه القضية التي تتعلق بتقدير الشّعب الفلسطيني لمناضليه، فيما تفخر الدّولة العبرية بمجرمي الحرب وتجعلهم قادتها، وتدافع عنهم في كل الميادين الدّولية - وشتّان بين مناضلي الحرية وبين مجرمي الحرب غلاة العنصرية - وكان الأمل أن لا تتم الاستجابة لهذا المطلب، وكان سيتم افتتاح الميدان في الحادي عشر من آذار من هذا العام، وهي تصادف ذكرى استشهاد الشهيدة دلال. قامت بلدية البيرة بتجهيز كل شيء، وبقي الافتتاح فقط، الفاجعة كانت أنّ كل شيء ألغي بطلب أمريكي - إسرائيلي، وكأنّ شيئاً لم يكن؟!.
تمّ الالغاء في سياق تبريرات متعددة، بعضها ما وصف الموانع بأنّها فنّية!، وبعضها ما عزاها لتدخل وتهديدات الاحتلال!، ولكن المنطق والواقع يقولان أنّ الالغاء تم، وأنّه كان من الأفضل، أن يفتتح الميدان، وليأتي بعدها جيش الاحتلال، ويحطّمه بمطرقته وجرّافاته، بدلاً من أن نفعل ذلك بأنفسنا، اختياراً أو إجباراً.
ليس خافياً على أحد أنّ المقاومة وثقافتها وعقول الأجيال الفلسطينية، وكل ما يتعلّق بالحقوق والثّوابت الفلسطينية، يتعرّض لهجمة شرسة لا مثيل لها على مدار السّاعة، وأنّ هناك جريمة تتم فصولها في وضح النّهار لتجريد الشّعب الفلسطيني من كافة القيم والثوابت التي تربّى عليها وتشرّبها عبر قرن من الصّراع على أرضه. نقطة الخلل الرئيسية التي وقع فيها الفلسطينيون، والتي تدفعهم دفعاً نحو الانزلاق يومياً في واد سحيق ليس له قرار، هي ما يتم من حديث عن دولة ومؤسسات، وعن سلام ومحادثات، وعن حلول ترقيعية ومساومات، أوقعت الشّعب الفلسطيني في مأزق ( أللا ثورة واللا دولة) وما يجري الآن من تمييع للقضية وتصفية حقيقية لها، سيوصلنا حتماً إلى فقدان الثورة والدولة، وربّما سيصبح بعض شبابنا جنوداً في خدمة الاحتلال، و بعض مثقّفينا منظّرين للصّهيونية، و بعض سياسيينا أدوات في خدمة الدّبلوماسية الاحتلالية في المحافل الدّولية، وربّما سيكون طبيعياً أن يصدم من نذر نفسه لخدمة قضايانا والدّفاع عن حقوقنا، بردّ المعروف له ( ضرب كفوف) كما يقول المثل الشّائع.
الخلل يكمن بوجود هذه السّلطة، فهي جالبة المصائب على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، فمنذ تأسيسها لم ولن تجلب لنا غير المال المسموم، ولم ولن نصيب إلا تراجعاً خلفه تراجع ما دامت موجودة، فهي تبتلع المؤسسات والتاريخ والثّقافة والحياة والحقوق والشّهداء الفلسطينيين وكل شيء جميل في حياتنا، كما أعتقد أنّ خطاباً واضحاً تجاه وجود وأهمّية إزالة هذه السّلطة من الوجود هو المطلوب، وهو الضّرورة القصوى، كما أعتقد أنّ الحديث عن تفاصيل مثل انتخاباتها وغير ذلك لا أهمّية لها البتة والأصل ألا تكون موضع نقاش، فالإطار المطلوب أن يجمع الفلسطينيين هو فقط إطار لا تحتويه السّلطة، ولا يحتويه الاحتلال، إطار له مهمة واضحة ووحيدة، وهي التّحرر من الاحتلال، والشّكل الآخر للهياكل يجب أن يكون في مجال الخدمات البلدية ومؤسسات المجتمع المدني فقط.
قد يقول قائل، وهل نملك حل هذه السلطة ( الكعكة المسمومة) ؟ بالتّأكيد من بيدهم حلها لا يمكن أن يقبلوا حلها، فهي صممت لكي تخدم مصالح فئة معيّنة من الفلسطينيين، ولكن يجب أن يكون الخطاب الجماعي الفلسطيني متجه للمطالبه بحلها، وهذا هو مفصل التّلاقي والفراق بيننا كفلسطينيين، أمّا الهياكل الضرورية للخدمة الاجتماعية فبالامكان إيجاد حلول خلاقة لها ولموظّفيها، ولن تكون عائقاً، فالثّوابت والحقوق الوطنية أهم بكثير من لقمة خبز مغمّسة بالذّل و العار، تفرض على الفلسطيني مقاتلة ذاته وقتل كل قيمة مضيئة فيها، من أجل دريهمات معدودة.
إذاً يجب أن يقف الفلسطينيون – بحق – وقفة مراجعة وتقييم لكل ما جرى سابقاً، ويجب المقارنة بين ما قتل من أجل الشّهداء وبين ما يفعله بعضنا على أرض الواقع، فالشّهداء أحياء ما دمنا نحمل همّ القضية التي استشهدوا من أجلها، وما دمنا ننزلهم منازلهم التي يستحقّون، وفي الوقت الذي تصبح فيه القضايا التي قتل الشهداء دفاعاً عنها حملاً ثقيلاً نسعى للتّخلص والمتاجرة به، ويصبح إنزالهم منازلهم التي يستحقّون مناسبة للنّسيان والهروب والتّنصل، حينها فقط بإمكاننا القول أن الشّهداء فارقوا الحياة، بل سنكون نحن كشعب وقضية قد فارقنا الحياة، وأعلنّا موتنا كبشر، ودخلنا عالم الأنعام.