الاختصاص والتميّز في شخصيّة الأمة وسلوكها
د . فوّاز القاسم / سوريا
لقد ظل الرسول الكريم ( ص ) ومعه المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة المنوّرة ستة عشر ، أو سبعة عشر شهراً يصلّون إلى بيت المقدس ، ونفوسهم تتوق إلى الكعبة المشرّفة ، ثم أذن الله بتحويل قبلتهم إلى بيت الله الحرام ، فكان ذلك مدعاة للكثير من اللغط من قبل اليهود وأعوانهم من المنافقين ، فأنزل الله في ذلك :
(( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ )) (البقرة:144)
ومن وحي تلك الحادثة المتميّزة في السيرة المطهّرة ، ومن ظلال تلك الآيات البيّنات التي تنزلت لتوثيقها والتعليق عليها ، فإنني أود أن أقدم للأمة المسلمة الخواطر التالية :
لقد حرص المنهج القرآني العظيم على إعطاء الأمة المسلمة خصائص الأمة المستخلفة , وشخصيتها المستقلة .
المستقلة بقبلتها ; والمستقلة بشرائعها المصدقة لشرائع الديانات السماوية قبلها ، والمهيمنة عليها ; والمستقلة بمنهجها الجامع الشامل المتميز كذلك. وقبل كل شيء المستقلة بتصورها الخاص للوجود والحياة , ولحقيقة ارتباطها بربها ، ولوظيفتها في الأرض ; وما تقتضيه هذه الوظيفة من تكاليف في النفس والمال , وفي الشعور والسلوك , ومن بذل وتضحية , وتهيؤ للطاعة المطلقة للقيادة الإلهية , الممثلة في تعليمات القرآن الكريم , وتوجيهات النبي [ ص ] وتلقي ذلك كله بالاستسلام والرضى , وبالثقة واليقين .
إن الاختصاص والتميز ضروريان للأمة المسلمة : الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد ; والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة . والاختصاص والتميز في الأخلاق والسلوك والمعاملات ...
وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص . وقد يكون الأمر واضحا فيما يختص بالتصور والاعتقاد ; ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة . .
هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة .
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها , ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها . . ربما يبدو له أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئا من التعصب الضيق , أو شيئا من التعبد للشكليات ! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة , وإدراكا أعمق لطبيعة الفطرة , يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار .
إن في النفس الإنسانية ميلا فطريا - ناشئا من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب - إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة . فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ و لا تستقر حتى تتخذ لها شكلا ظاهرا تدركه الحواس ; وبذلك يتم التعبير عنها . يتم في الحس كما تم في النفس . فتهدأ حينئذ وتستريح ; وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغا كاملا ; وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن ; وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل ، وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان .
وعلى هذا الأساس الفطري أقام الإسلام شعائره التعبدية كلها . فهي لا تؤدي بمجرد النية , ولا بمجرد التوجه الروحي . ولكن هذا التوجه يتخذ له شكلا ظاهرا: قياما ، واتجاها إلى القبلة ، وتكبيرا ، وقراءة ، وركوعا وسجودا، في الصلاة . وإحراما من مكان معين ، ولباسا معينا ، وحركة، وسعيا ، ودعاء ، وتلبية ، ونحرا، وحلقا، في الحج .
ونية ، وامتناعا عن الطعام والشراب والمباشرة في الصوم . .
وهكذا في كل عبادة حركة , وفي كل حركة عبادة , ليؤلف بين ظاهر النفس وباطنها , وينسق بين طاقاتها , ويستجيب للفطرة جملة بطريقة تتفق مع تصوره الخاص .
ولقد علم الله أن الرغبة الفطرية في اتخاذ أشكال ظاهرة للقوى المضمرة هي التي حادت بالمنحرفين عن الطريق السليم . فجعلت جماعة من الناس ترمز للقوة الكبرى برموز محسوسة مجسمة من حجر وشجر , ومن نجوم وشمس وقمر , ومن حيوان وطير وشيء . . حين اعوزهم أن يجدوا متصرفا منسقا للتعبير الظاهر عن القوى الخفية . . فجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة بتلك الأشكال المعينة لشعائر العبادة , مع تجريد الذات الإلهية عن كل تصور حسي وكل تحيز لجهة . فيتوجه الفرد إلى قبلة حين يتوجه إلى الله بكليته . . بقلبه وحواسه وجوارحه . . فتتم الوحدة والاتساق بين كل قوى الإنسان في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان ; وإن يكن الإنسان يتخذ له قبلة من مكان !
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه . . فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد ; كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالامتياز والتفرد .
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم , التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة ، كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك سواء . ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات . وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات . كان نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة . وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم , وعقلية عن عقلية , وتصورا عن تصور , وضميرا عن ضمير , وخلقا عن خلق , واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:إن رسول الله [ ص ] قال:" إن اليهود والنصارى لا يصبغون , فخالفوهم " .
وقال رسول الله [ ص ] وقد خرج على جماعة فقاموا له:" لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً" .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا:عبد الله ورسوله " .
نهى عن تشبه في مظهر أو لباس . ونهى عن تشبه في حركة أو سلوك . ونهى عن تشبه في قول أو أدب . . لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور , ومنهجا في الحياة عن منهج , وسمة للجماعة عن سمة .
ثم هو نهي عن التلقي من غير الله ومنهجه الخاص الذي جاءت هذه الأمة لتحققه في الأرض .
ونهي عن الهزيمة النفسيّة الداخلية أمام أي قوم آخرين في الأرض . فالهزيمة الداخلية تجاه مجتمع معين هي التي تتدسس في النفس لتقلد هذا المجتمع المعين . والأمة المسلمة قامت لتكون في مكان القيادة للبشرية فينبغي لها أن تستمد تقاليدها - كما تستمد عقيدتها - من المصدر الذي اختارها للقيادة . . والمسلمون هم الأعلون . وهم الأمة الوسط . وهم خير أمة أخرجت للناس . فهم إذن يستمدون تصورهم ومنهجهم ، ويستمدون تقاليدهم ونظمهم من الله الخالق ، لا من البشر الضعفاء الذين جاءوا هم أصلاً ليرفعوهم ويعلّموهم ... !
ولقد ضمن الإسلام للبشرية أعلى أفق في التصور , وأقوم منهج في الحياة فهو يدعو البشرية كلها أن تفيء إليه . وما كان تعصبا أن يطلب الإسلام وحدة البشرية على أساسه هو لا على أي أساس آخر ; وعلى منهجه هو لا على أي منهج آخر ; وتحت رايته هو لا تحت أية راية أخرى .
فالذي يدعوك إلى الوحدة في الله , والوحدة في الأرفع من التصور , والوحدة في الأفضل من النظام , ويأبى أن يشتري الوحدة بالحيدة عن منهج الله , والتردي في مهاوي الجاهلية . . ليس متعصبا . أو هو متعصب ولكن للخير والحق والصلاح !
والأمة المسلمة التي تتجه إلى قبلة مميزة ، يجب أن تدرك معنى هذا الاتجاه . إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليها الأمة في الصلاة . فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز . رمز للتميز والاختصاص . تميز التصور , وتميز الشخصية , وتميز الهدف , وتميز الاهتمامات , وتميز الكيان .
والأمة المسلمة - اليوم - بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعا , وبين شتى الأهداف الجاهلية التي تستهدفها الأرض جميعا وبين شتى الاهتمامات الجاهلية التي تشغل بال الناس جميعا , وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعا . .
الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة ; والتميز بتصور خاص للوجود والحياة لا يتلبس بتصورات الجاهلية السائدة ; والتميز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور ; والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده , فتعرف بأنها الأمة الوسط التي أخرجها الله للناس لتحمل أمانة العقيدة وتراثها . .
إن هذه العقيدة منهج حياة كامل . وهذا المنهج هو الذي يميز الأمة المستخلفة الوارثة لتراث العقيدة , الشهيدة على الناس , المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى الله . . وتحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان , وفي الأهداف والاهتمامات وفي الراية والعلامة . وهو الذي يمنحها مكان القيادة الذي خلقت له , وأخرجت للناس من أجله . وهي بغير هذا المنهج ضائعة في الغمار , مبهمة الملامح , مجهولة السمات , مهما اتخذت لها من أزياء ودعوات وأعلام ...
وإن مما تتفتت الأكباد أسفاً له ، أن تغيب هذه المعاني العظيمة عن أمتنا المسلمة اليوم ، فتتحول تحت ضغط الهزيمة النفسيّة إزاء الأمم الأخرى ، وتحت ضغط الواقع المزري للعرب والمسلمين ، إلى أمة مقلّدة لليهود والصليبيين في كل جانب من جوانب حياتهم ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه ...!!!
ولقد كان الأمر يهون لو أننا قلّدناهم في الأمور الإيجابية : في العلم مثلاً ، والحلم ، والعدل ، والمساواة ، والديمقراطية ، والتداول السلمي للحكم، والنظافة ، والنظام ، وغيرها ...
فالحكمة ضالة المؤمن ، أنّى وجدها فهو أولى بها ...
ولكننا مع الأسف الشديد ، تركنا الإيجابيات ، وقلّدنا في السلبيات ...
أنظروا مثلاً إلى أخلاق حكامنا ، وانظروا إلى سلوكهم وتصرّفاتهم مع شعوبهم ... وانظروا من أين يستمدون الدساتير التي يحكمون بها أمتهم ...
انظروا إلى مظاهر أبنائنا وبناتنا ( المتفرنجين ) ، انظروا إلى شعورهم ( المخنّثة )، وانظروا إلى أخلاقهم ( المنحلّة ) ، وانظروا إلى سلوكهم ( الطائش )... وانظروا إلى مفردات لغتهم ( الهجينة ) ( باردون ، سورّي ، ميرسي ، ماتش ...إلخ )
انظروا مثلاً إلى أسماء شوارع عواصمنا ( شارع بارون مثلاً ) ..
وانظروا إلى أسماء ساحاتها وفنادقها ( ساحة ميريديان ) ( وفندق هلتون وفندق انتركونتيننتال ) ...
وانظروا إلى اللوحات التي تزيّن واجهات محلاتها (ستي مول ، وستي ماكس ، عسير ستي )...!!!
أنظروا إلى صرعات ( الكرة ) التي تثير الفتنة بين شعوبنا ، وتعطّل طاقات الملايين من أبنائنا ، والتي تحي فينا قماءات داحس والغبراء ...!!!
وانظروا إلى تقليعات ( الموضة ) و ( تسريحات الشعر ) وغيرها ، المستمدّة من راقصي وراقصات أمريكا وأوربا ... !!!
وهكذا تقريباً في كل مفردة من مفردات حياتنا ...!!!
وفي الوقت الذي تُذبح فيه أمتنا من الوريد إلى الوريد على أيدي العصابات الصهيونية والصليبية والصفوية ، في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والسودان والصومال وغيرها من البلاد العربية والإسلامية المنكوبة ...
وفي الوقت الذي يمعن فيه أعداؤنا في قتل أبنائنا ، وحصار شعبنا ، واغتيال قادتنا ، وسرقة خيراتنا ، وتدنيس مقدساتنا ، وانتهاك حرماتنا ... ويستعدّون في الليل والنهار لاجتياح مدننا ...
تكون الملايين من جماهير أمتنا مشغولة ( بكأس الأمم الإفريقية ) وخاصة ( مباراة مصر والجزائر ) أو ( مصر وأنغولا ) .!!!
يا عقلاء الأمة .. إن الذي يصلح لشعوب أمريكا وأوربا ، لا يصلح لشعوبنا العربية والإسلامية لأسباب كثيرة جداً ، من أهمها :
اختلاف العقائد والعادات والأخلاق ونمط الحياة ...إلخ
والأهم من ذلك كله ، اختلاف جدول الأولويات والأسبقيات في الأمة ...
فأمريكا وأوربا مثلاً ، يحق لها أن ترفه شعوبها بكرة القدم وغيرها ، بعد أن حقق لها حكامها كل ما يحلمون به ، ويطمحون إليه ، من : الحريّة والديمقراطية ، والرفاه الاجتماعي ، والعزّة ، والقوة ، وتحرير الأوطان ، والوحدة السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، والنقدية ، وغيرها ...
أما شعوبنا العربية والإسلامية ، فأولوياتها مختلفة تماماً ، فهي لا تزال في صراع مرير مع المحتل الغاصب في أغلب بلدانها ...
فضلاً عن صراعاتها المريرة مع : الظلم ، والقهر ، والدكتاتوريّة ، والتسلط ، والتوريث ، والتفقير ، والتجهيل ، والأميّة ، والتخلّف ، وعشرات العناوين غيرها ...
ولا يحق أبداً لأمة تغرق بكل هذا الكم الهائل من المشاكل والتحدّيات ، أن تتلهى بالسفاسف والقشور ...
كما لا يجوز لها مطلقاً أن تضيّع وقتها ووقت أبنائها باللعب والتقليد الأعمى ...
إنما الواجب الذي لا يجوز أن يغيب عن أهل الغيرة والمروءة والرشد ، أن تصل الليل بالنهار ، دأباً واجتهاداً ، وعملاً وإبداعاً ، ونضالاً وجهاداً ، للخروج من هذا المستنقع الآسن ، إلى قمم العزة والكرامة والمجد ...
(( وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكم ورسولُه والمؤمنون )) صدق الله العظيم