اعتقالات الإخوان .. الذريعة والفجيعة
أ.د. حلمي محمد القاعود
مسلسل عبثي لا يتوقف ولا ينتهى ! السلطة البوليسية الفاشية تخرج كل أسبوع أو أسابيع بنبأ القبض على خلية تنظيمية من خلايا جماعة الإخوان المسلمين ، يصاحب عملية القبض تفتيش ومصادرة واستباحة لبيوت المقبوض عليهم ، والقاسم المشترك فى أحراز الجريمة : أجهزة كمبيوتر وكتب وملفات . أضيف إليها مؤخراً أموال ومشغولات ذهبية !
الذريعة التى تعلن بموجبها حلقات مسلسل القبض هى الانتماء إلى جماعة محظورة ، والاجتماع فى أحد الأوكار ( بيوت الأعضاء ) بغرض قلب نظام الحكم ، ولو كان الاجتماع لحضور " عقيقة " بمناسبة ولادة ابن أو حفيد!
والشعب المصري المستكين يكتفي بزفرات تنبعث من صدره تعبيرا عن استكانة غريبة ، مع تخرّصات تفسر المسألة بأنها، تغطية حكومية على الفشل الذريع في السياسة الداخلية والسياسة الخارجية ، أو التغطية على ارتفاع الأسعار المجنون الذي يلتهم كل المدّخرات والأحلام، أو التغطية على التعذيب المنهجي الذي يمارسه النظام ضد المواطنين البسطاء في مراكز الشرطة وأقسامها ، وضد المعارضين السياسيين في السجون والمعتقلات ، أو التغطية على أزمة القمح التى جعلت مصر تتسول رغيف الخبز من شتى دول العالم بالدفع الفورى ، ولا تجده ، لدرجة أن دولا عربية صغرى تفسخ العقود وتتراجع عن البيع .. ناهيك عن الإخفاق الذريع أمام دول حوض النيل فضلا عن الغزاة النازيين اليهود وسادتهم في البيت الأبيض !
الفجيعة تكمن فى الاستباحة التى تُفرّق بين الأب وأبنائه وأهله وأصحابه ، دون ذنب أو جريرة ، اللهم إلا أن يقول : ربى الله وليس أمريكا أو اليهود ! ثم يبقى المقبوض عليه شهوراً أو سنوات ، بعد أن يُحاكم أمام محكمة عسكرية ، ليست هى القاضى الطبيعى ، لا يقبل حكمها نقضاً ولا استئنافاً ، وبالطبع فلا حرمة لأحد من الضحايا ، يستوى فى ذلك أستاذ الجامعة والعامل البسيط !
والفجيعة تتجلى إذا عرفنا أن الفكر لا يقهره السجن ولا التعذيب ولا القتل . فالذى يدخل السجن بسبب عقيدته وإيمانه ، لا يمكن أن يغيرهما تحت أى ضغط من الضغوط ، بل إن السجون تزيد صاحبها إصرارًا على ما يؤمن به ويعتقد فيه ، حتى ولو كان هذا الإيمان أو ذلك الاعتقاد مخالفاً للمنطق والعقل والواقع . فما بالك إذا كان مطابقا؟
لقد أخذت السلطة الفاشية منذ عشرات السنين على عاتقها اغتيال قادة الإخوان وإعدامهم بالتآمر أو المحاكمات العسكرية الاستثنائية أو التعذيب ، ومع ذلك ؛ فإن الجماعة ما زالت باقية ، وتتمدد داخل الوطن وخارجه ، والمفارقة أن الأجيال الجديدة أكثر إقبالا على الانضواء تحت لوائها ، وتحمّل المحن التى تفرض عليها ، والصبر على الشدائد التى تأتى من قبل النظام الفاشى !
إن السلطة تجند إعلامها وصحافتها وثقافتها بصورة مستمرة لشنّ الحملات الضارية على الجماعة وأفكارها ، واتهامها بشتى التهم التى تضعها فى خانة الشيطان الأكبر ، والخطر الأول على البلاد ن ومع ذلك ، فإن الناس يتعاطفون معها ، ويؤيدونها فى الانتخابات التشريعية والنقابية والمهنية وقد وصل إلى مجلس الشعب 2005م أكبر عدد من نواب الإخوان في تاريخها ، ولولا الإرهاب والعنف والتزوير من جانب السلطة لحصدت الجماعة أكثر من 120 ألف نائبا من بين 150 رشّحتهم فى هذه الانتخابات ، وهو ما أدى إلى تعديلات دستورية معيبة ، هدفها الأول تخليص العملية الانتخابية من عدالة القضاء ليتم التزوير العلنى بالطريقة التى تريدها السلطة الفاشية ، وتمنع وصول الإخوان إلى المجالس النيابية، وتأتي بمن تريده ليكون نائباً حكوميا قلباً وقالباً ، ليس من بين من ترشحه الحكومة أو يعارضها ، ولكن بين مرشحى الحكومة أنفسهم ، ولعل أبرز الأمثلة وأقربها على ذلك ، ما جرى فى دائرة شبراخيت التى جرت فيها انتخابات تشريعية على مقعد النائب " عماد الجلدة " المتهم بالرشوة ، حيث ترشح حوالى سبعة مرشحين ، ينتمون إلى الحزب الوطنى ، ولكن السلطة الفاشية حسمت المعركة فى الساعة العاشرة صباحاً ، وتم إغلاق الصناديق لصالح مرشح واحد أرادته هذه السلطة ، وأنجحته قبل أذان الظهر يوم التصويت على المرشحين ، مما أدى إلى انسحاب المرشحين الآخرين ، وظهر أحدهم – وهو والد " عماد الجلدة " على شاشة إحدى القنوات الخاصة – ليقول : إننى انسحبت وكفى ، ولا تسألونى عن السبب .. وبلا شك فالرجل كان يضع فى حسبانه مصلحة ابنه السجين ، وما يمكن أن يجرى له لو تكلم عن التزوير السافر ، ولكن المرشحين الاخرين كفوه ذلك ، وتكلموا عما جرى من السلطة ، وتحويل الانتخابات إلى مجرّد تمثيلية ديمقراطية ، لا نظير لها فى دول العالم !
بالطبع لم تحاول السلطة الفاشية أن تسأل نفسها هذا السؤال البسيط الذى يفترض أنه يجرى على ذهن كل من يتعاطى السياسة أو الفكر أو يتأمل الواقع :
- لماذا بقيت هذه الجماعة ( الإخوان المسلمون ) مع كل الضربات والحصار والملاحقة والتعذيب والإعدام؟
إن أية حكومة تبحث عن مصلحة وطنها بحثاً حقيقيا يتجاوز عملية الاحتفاظ بالكراسى والثروة ، لابد أن تطرح السؤال السابق ، وتحاول الإجابة عنه إجابة علمية ، ولا تنخدع بما يقوله المرتزقة وأصحاب المصالح واليسار المتأمرك الفاشل ، حول الإخوان من أكاذيب وترهات لدرجة أن المقالات والموضوعات التى تنشرها الصحف الحكومية واليسارية والعلمانية وصحف بير السلم التى يصدرها بعض المرتزقة ، تبدأ بمقولة : إننى أختلف مع الإخوان قلبا وقالباً ولا أؤمن بفكرهم ولا بجماعتهم ، ثم يتوالى عرض المقال أو الموضوع الذى يهدف صاحبه فى الغالب إلى مصلحة خاصة أو منفعة حزبية .. وقد رأينا من تخصص فى تجريح الإخوان وتشويههم فى صحف حزبية رخيصة نظير فتات تلقيه السلطة البوليسية الفاشية إليه ، حتى صار الكادر الحزبى الرخيص مليونيرا ، بعد أن جاء من أحد الأحياء المتواضعة فى إحدى مدن الأقاليم !
إن منطق " المواطنة " الذى اكتشفته السلطة مؤخرا ، وتلح عليه عبر أجهزة دعايتها ، يفترض أنه يحترم آدمية " الإخوان المسلمين " ، الذين منحوا النظام الشرعية أمام العالم حين شاركوا فى انتخابات 2005م التشريعية ، وشكلوا كتلة المعارضة الرئيسية . ولا يقولنّ أحد إنهم مستقلون ، أو دخلوا الانتخابات تحت لا فتة المستقلين ، فالسلطة من أعلى مستوياتها إلى أدناها تعلم أنهم ينتسبون إلى الإخوان ، وأنهم يرفعون شعار " الإسلام هو الحل " وأنهم يدعون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية نظاماً للمجتمع ، يحقق العدل والرخاء والمساواة والإتقان والإجادة وحفظ كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو دينه أو طبقته أو انتمائه .
والحكومات الصالحة فى العالم تنهض بوطنها عن طريق " التوافق " بين القوى الحية فى المجتمع ، وتضع خطوطا عريضة تتفق عليها هذه القوى وتلتزم بها . إن من ينظر مثلاً إلى طبيعة النظام فى الكيان العدوانى اليهودى الذى أقامه الغزاة اليهود فى فلسطين المحتلة ، يجد توافقاً بين العناصر المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، لذا لم يسمع العالم عن محاولة انقلاب واحدة هناك ، ولكن واقعنا المصرى حافل بالغرائب والعجائب فى مجال الإعلان عن محاولات قلب نظام الحكم .. وليت أحد الباحثين يُخبرنا بعددها من خلال القضايا التى قدمت إلى القضاء العسكرى أو القضاء المدنى ، وكلها قضايا مضحكة مبكية .. لأن النظام الذى يزعجه أو يهدده اجتماع عشرين رجلا فى " عقيقة " أو " عزومة " أو حتى فى اجتماع تنظيمى – كما يدعون – هو نظام هش يحتاج إلى أدوية تعالج هشاشة عظامه ، وتجعل أجهزته الأمنية تتفرغ لمعالجة الأمن الحقيقى ، وملاحقة القتلة الكبار واللصوص الكبار والمنحرفين الكبار .. والله غالب على أمره.