جدار مصر الفولاذي.. لماذا؟!

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام حاصر الملأ من قريش المؤمنين بشِّعِب أبي طالب بمكة، واليوم يشدد أهلنا في مصر الحصار على أشقائنا في غزة هاشم، ولما تندمل بعد الجراح أو ترمم البيوت والمنازل والمؤسسات أو تشبع البطون أو تكتسي الأجساد، جراء العدوان الهمجي الصهيوني والحصار اليهودي الظالم.. فهل هناك وجه شبه بين ما يقوم به العدو الصهيوني وما تقوم به الشقيقة مصر؟!

قد يكون هناك فروق بين الحصارين.. فحصار الشِّعِب تضيق مساحته الجغرافية حتى لا يتجاوز بضع مئات من الأمتار.. وحصار غزة يتسع ليشمل قطاعاً تزيد حدوده عن ثلاثمائة كيلوا من الأمتار.. وفي هذا توسيع لنطاق الحصار المعاصر عن نطاق الحصار الآفل..والمحصورون في شِّعِب أبي طالب لم يتجاوزوا المائة أو المئتين، وفي قطاع غزة يتجاوزون المليون ونصفِ المليون من المحاصرين.

ورغم صنوف الحصار الاقتصادي، والاجتماعي والنفي في حصار قريش لمحمدٍ وصحبه، ومن دخل معهم، فحصارُ صهاينة اليوم يتجاوز هذه الأطر ليضيف حصاراً عسكرياً، يمطر الأرض بوابل القاذفات، ويُسقط بالقنابل والمتفجرات شيوخ ونساء وأطفال، لا حول لهم ولا قوة، وما نقموا منهم إلا أن يقولوا ربنا الله؟!

حصار الشِّعِب دوَّنه التاريخ، وروته كتب السيرة بمداد أسود، وسطرَّت أسماءَ المخططين والمنفذين له على أنهم (أكابر مجرميها) وشبهتهم (كمن هو في الظلمات ليس بخارج منها)، وكذلك التاريخ يشهد اليوم حصار غزة وسيكتب التاريخ مداد فصوله بحروف سوداء تعري وتكشف المخططين والمشاركين والمنفذين لهذا الحصار الظالم.

حصار الشِّعِب ورغم إحكامه، وتعليق وثيقته المقدسة - في نظر المجرمين- في جوف الكعبة، فقد اخترقته الشهامة العربية، ونُقضت صحيفته الآثمة بحمية جاهلية.. وكنا نتمنى على الإخوة في مصر أن ينقضوا اتفاقية كامب ديفيد الظالمة الجائرة بحمية عربية وشهامة إسلامية.. فمن المعيب أن يكون نفرٌ من قريش (ثلاثة عقلاء) أقدر على المبادرة من أبناء مصر أم الدنيا (ثمانون مليوناً)!!

وصدق الشاعر حين قال:

لو بعثنا واحداً من كل ألفٍ .. لمشى إلى القدس جيشٌ عرمرم

أم قدر أهل غزة وكل الفلسطينيين في الضفة وبلاد الشتات أن يعيشوا بين الجدران، وأن تبنى حولهم السدود والأسوار، وأن يكونوا مشتتين بين سجونٍ صغيرة، ومعتقلاتٍ كبيرة، وشتاتٍ كالضياع، وربما لم يشهد التاريخ يوماً أن شعباً بأكمله يعزل ويفصل عن محيطه والجوار، فقد تداعت الأمم، والأصدقاء والأخوة والأعداء.. على الشعب الفلسطيني، وتعاونوا في زمنِ سقوط الباستيلات، وانهيار الجدران والأسوار على بناءِ أسوارٍ جديدة تحجب عن غزة نور الشمس، وفضاء الكون، ومياه الجوف، وخيرات الأرض، فتضيّق الضيق، وتعزل المعزول، وتزيد في معاناة الصغير والكبير!!

مصر اليوم (بحجة السيادة الوطنية) تبني الجدار الثاني حول الفلسطينيين، وكانت إسرائيل قد سبقتها ببناء سور العزل والفصل حول الضفة الغربية، فكان كالأفعى التي تحيط بفريستها، فعزل الجدار الضفة الغربية عن بعضها، وفصلها عن محيطها، وصادر لغايته آلاف الدونمات، وخلع آلاف الأشجار، وتسبب في معاناةٍ مضاعفة للسكان. وقد يكون جدار الفصل الإسرائيلي جداراً سياسياً أكثر مما هو جدارٌ أمني، وقد تكون الحاجة إليه لأهدافٍ بعيدة عن الغايات الأمنية، وقد بنته إسرائيل التي احتلت أرضنا، وسلبت خيراتنا، وانتهكت مقدساتنا، وطردت أهلنا، فهو أمرٌ طبيعي ومتوقع من دولة الاحتلال الظالمة، وأي موقفٍ مخالف منها مستبعد وغير متوقع .

ولكن الجدار المصري ليس لغاياتٍ أمنية، وليس لحاجاتٍ دفاعية، فأهل غزة لا يهددون الأمن المصري، ولا يعبثون بالسيادة المصرية، ويحرصون على الأمن الوطني والقومي المصري حرصهم على أمنهم في غزة، ولا يسمح الفلسطينيون لأحدٍ أن يعرض أمن مصر للخطر، فأمن مصر هو أمن العرب، وأمن الفلسطينيين معاً، وهو أمن حركة حماس، وأمن المقاومين الفلسطينيين كلهم، ولكن الحقيقة أن جدار مصر الفولاذي هو جدار الجوع، وجدار الحصار والحرمان، جدار البؤس والمعاناة، جدار الشقاء والفناء والموت، جدار لا يكون بين الأشقاء، إنما يبنى بين الأعداء، ومصر شقيقة العرب الكبرى، وشقيقة فلسطين الحانية، التي نتوقع منها أن تربت على ظهور المحتاجين، وأن تمسح الدمعة من على عيون البائسين، وأن تمنح الجياع بعضاً من كسرة الخبز، وأن تبلسم جراح المصابين، وأن تكون سنداً لشعبٍ طلب نصرتهم، وتطلّع إلى مساندتهم، ورأى في مصر طوق النجاة له.

الفلسطينيون اليوم يبكون بمرارة كبيرة، يبكون بدموعٍ من الدم، فهذا الجدار الفولاذي مهما حاولت الحكومة المصرية تبرير أسبابه ودوافعه، هو جدارٌ قاسٍ ظالم، يقضي على كل معاني الأخوة، ويدمر كل الروابط الإنسانية، ويزيد الجفاء، ويخلق العداء، جدار يحرم الفلسطينيين من قوتهم وطعامهم، ومن بقية الكفاف الذي يقيم أودهم، ويحقق ثباتهم، ويمكنهم من الصبر والاحتمال والمقاومة، فهو ليس جداراً حديدياً فولاذياً، أو جداراً إسمنتياً، وإن كان طوله يتجاوز العشرة كيلومترات، وعمقه في الأرض يصل إلى ثلاثين متراً، بل هو جدارٌ من الكراهية، جدارٌ من الحقد الأعمى، جدارٌ بني لترضى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.