هل الواقع العربي الراهن هو محصّلة لهزيمة عام 1967؟
هل الواقع العربي الراهن
هو محصّلة لهزيمة عام 1967؟
صبحي غندور*
لا أعلم لِمَ يحلو لبعض العرب إرجاع أسباب سلبيات أوضاعهم العربية الراهنة إلى هزيمة عام 1967، رغم مرور أربعين عاماً على حدوثها، ولا يعودون بها (أي أوضاعهم) إلى أسبابها الحقيقية التي كانت مزيجاً من اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل و"حروب" مع غير إسرائيل!!
فالواقع العربي الراهن ليس هو محصّلة لهزيمة عام 1967 بل أنه ثمار لتدهور هرمي عاشته المنطقة العربية منذ اختار أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي الذي وضعه وأشرف على تنفيذه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
إن مشروع كيسنجر مع مصر/السادات كان حلقة في سلسلة مترابطة أولها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية كلّها، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية وتوريط أكثر من طرف عربي فيها لسنوات عديدة.
إنّ الحقبة السياسية بعد حرب 73 (وليست النتائج السياسية لحرب العام 1967) كانت هي الأخطر بالنسبة لنا كعرب، لأنها أوجدت بذوراً لكل ما نعانيه الآن.
لقد كانت حرب 73 درساً لأميركا وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 67، والقوة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها، والصداقة الخاصة مع حكومات.. هي عناصر لم تكن كافية لضمان المصالح الأميركية في المنطقة، ممّا دفع بأميركا إلى إعادة حساباتها في ظل إدارة هنري كسينجر للسياسة الأميركية الخارجية.
فإذا بالمنطقة العربية تنتقل من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973 بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، والتي أحدثت تأثيرات كبيرة دولياً بشكل عام، وعلى دول إفريقيا والعالم الثالث خصوصاً، حيث سحب معظمها الاعتراف بإسرائيل، ثم القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية.. من هذه الإيجابيات الدولية.. ومن حال التضامن العربي الفعال.. إلى:
· إغتيال الملك فيصل الذي قاد قرار حظر النفط وأقسم على الصلاة في القدس..
· إشعال الحرب اللبنانية التي تورطت فيها أيضاً سوريا والمنظمات الفلسطينية كلّها وأطراف عربية عديدة..
· حرب الصحراء المغربية وآثارها على المغرب والجزائر..
· توقيع مصر لإتفاقيات كامب ديفيد وتأزّم علاقتها مع العرب كلّهم، ثم عزل دور مصر عربياً وإفريقياً وإسلامياً.
· حرب عراقية-إيرانية طوال الثمانينات، عطّلت واستنزفت طاقات وقدرات دول منطقة الخليج كلّها، وحافظت على تدهور أسعار النفط وإلغاء دوره كسلاح في يد العرب!
· الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان (عام 1978) ثم الغزو الإسرائيلي لمعظم لبنان عام 1982، وتعرّض بيروت - كأول عاصمة عربية- للاحتلال الإسرائيلي.
***
فكانت آثار تلك المرحلة ليست فقط في تعطيل دور مصر العربي بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره.
وإذا كان أنور السادات قد دفع بمصر في أواخر السبعينات إلى سلامٍ منفرد وناقص ما كان يجب أن يقوم به وأدّى بذلك إلى اختلالٍ وتدهور في الوضع العربي.. فإنّ صدام حسين أيضاً دفع بالعراق في الثمانينات ومطلع التسعينات إلى حروبٍ ما كانت يجب أن تحصل، وما كان ممكناً أن يقوم بها لولا الاختلال الذي حصل في الجسم العربي نتيجة سياسة أنور السادات وغياب دور مصر الفاعل.
أيضاً، لولا هذه السياسات الخاطئة في "السلم والحرب" من قبل قيادتيْ مصر والعراق لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير وهدر وتدمير لإمكانات عربية كثيرة وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخل والوجود العسكري الأجنبي، خاصة بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. ممّا سبب لاحقاً بتراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جلياً في اتفاق أوسلو الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأن خاص بقيادة منظمة التحرير - وليس حتى بالشعب الفلسطيني كلّه - فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعف وضع المقاومة المسلحة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت "منظمة التحرير" مسؤولة عن تأمين أمن إسرائيل! .. إضافة طبعاً لتبرير أنواع العلاقات كلّها والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة الدول الأفريقية والأسيوية.
***
وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكل عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كل بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي. كذلك اتسمت تلك المرحلة بتصاعد التيار الإسلامي السياسي، دون وضوحٍ في رؤيته وفكره وبرنامج عمله السياسي البديل، وفي مناخات تشجّع على العنف المسلح للتغيير الداخلي وعلى فرزٍ وانقسامات داخل المجتمع الواحد، كما ظهر في تفاعلات الحرب اللبنانية وآثارها العربية.
كذلك تراجع دور الجامعة العربية وأنواع العمل العربي المشترك، ووقعت الحكومات العربية كلّها في مأزق "عملية السلام" مع إسرائيل: عجز عن الحرب معها.. وتعجيز إسرائيلي في شروط السلام!
***
أما عن هزيمة عام 1967، فقد أعلن جمال عبد الناصر تحمّله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كل مناصبه الرسمية، ولم يعد عن هذه الإستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت معظم البلاد العربية. ثم كانت هذه الهزيمة سبباً مهماً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية حيث وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدو الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولوية أعطاها ناصر لإستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن والتصالح مع الدول العربية كلها والسعي لتوظيف كل طاقات الامّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلة.
وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث الّتي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر. فقد أدرك عبد الناصر ومعه كل أبناء الأمّة العربية أنَّ التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت 6 سنوات (من 1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها، ولو إلى حين!.
لكن هذه الدروس الهامة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وهاهي الأمّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الإنقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها ويدفع بالوضع العربي كله نحو مزيد من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.
لقد تساقطت جميع الأولويّات التي بناها جمال عبد الناصر ردّاً على هزيمة عام 67، فإذا بالأرض العربية بعد غيابه تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي وكذلك الصراعات المحليّة المسلّحة بأسماء دينيّة أو طائفيّة أو عنصريّة، وتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لمطلب السيطرة الخارجية والصهيونية.
***
إن الإرادة الشعبية العربية في يومي 9 و10 حزيران/يونيو 1967 كانت وراء تراجع جمال عبد الناصر عن قراره بالاستقالة، الذي أعلن فيه تحمّل المسؤولية الكاملة عن هزيمة حرب 67، وكانت هذه الإرادة الشعبية العربية وراء كل الإجراءات التي اتخذها ناصر بعد ذلك لمواجهة نتائج الهزيمة والتهيئة لنصر تشرين/أكتوبر 1973…
إن الإرادة الشعبية اللبنانية الرافضة للاحتلال الإسرائيلي كانت هي أيضاً وراء ظاهرة المقاومة اللبنانية رغم كل سلبيات الواقع العربي آنذاك – واللبناني تحديداً في ظلِّ حرب أهلية مدمرة - حيث نمت هذه المقاومة وتصاعدت على مدار عشرين عاماً تقريباً ثم حققت الانتصار الساحق على العدو الإسرائيلي…
والإرادة الشعبية الفلسطينية الرافضة للاحتلال، تحاول أن تتجاوز كل سلبيات الواقع الفلسطيني، وهي تصمد وتستمر في انتفاضتها رغم مرارة وسلبيات الواقع الراهن، وستحقق أهدافها طالما أنّ هناك نبضاً حياً حتى ولو في جسم شاب فلسطيني واحد.