أسير السياسة
صلاح حميدة
منذ أسره وحتى اليوم، لمع إسم الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليت في كافة المحافل السياسية والدبلوماسية والاعلامية وحتى الشعبية، ولا تكاد تجد من يجهل إسم وصورة هذا الجندي الأسير في العالم، فقد تداعى الرؤساء وأجهزة الاستخبارات والوسطاء وكلهم يريد الاطمئنان على صحته وضمان عودته لأهله سالماً معافى.
لم أسمع عن جندي أسير حظي بمثل هذا الاهتمام من الساسة بهذا القدر من قبل، كما أن الكثيرين يتساءلون عن سر الاهتمام الكبير بجندي منخفض الرتبة، وأنسنة قضيته، بينما يتم المرور على معاناة وذلة الأسر لآلاف الأسرى والمعتقلين العرب والفلسطينيين، ويتم شطب وتجاهل معاناة عائلات هؤلاء الأسرى وكأنهم ليسوا من جنس البشر.
الغريب أن كل هذا الاهتمام بتحرير هذا الجندي، لم يصل إلى نتيجة، كما أن كل الجهود الدبلوماسية التي لم تنقطع يوماً، باءت بالفشل، ولم تصل قصة أسره إلى نهايتها، وفي ظل انعدام الفرص الأمنية- أو تقلصها- لتحريره حياً أو ميتاً، بقيت قضيته عرضة للعبث الدبلوماسي والتصيّد الاعلامي، والترصّد الأمني، والمفاوضات الجادة وغير الجادة التي تصل دوماً إلى طريق مسدود في نهاية كل جولة تفاوضية.
فهل هناك من لا يريد أن يتحرر هذا الجندي؟ بالتأكيد كل من يسعون للتفاوض مع آسريه، يريدون تحريره، كما أن آسريه يريدون حرية أحبابهم، وأحباب ما يقارب الألف من الأسر الفلسطينية، التي فقد الكثير من أفرادها الأمل بعودة فلذة أكبادهم حياً إلى البيت بعد مكوثه في السجن سنين عديدة، إذاً يوجد شبه إجماع على أن حرية هذا الأسير مرتبطة بحرية مئات الأسرى مكثوا في السجن ما بين ربع قرن إلى بضع سنين، ولكن ما الذي يحول بين حرية هؤلاء وهذا؟.
تفيد الكثير من التسريبات الاعلامية من المطّلعين على تفاصيل التفاوض، إلى أن هناك من يفسد التفاوض حول صفقة تبادل الأسرى بين الجانبين في آخر لحظة، وتفيد تلك التسريبات إلى أن هناك العديد من الأطراف التي تفسد تلك المفاوضات وتمنعها من الوصول إلى نهايتها، وتحيل تلك الأطراف ذلك الفشل المزمن الذي يلاحق هذه المفاوضات إلى العد الأسباب، وتجمع تلك المصادر على أن السبب الرئيسي في استمرار أسر هذا الجندي هي السياسة.
فالدولة العبرية تعتبر منذ انشائها أن الفرد مقدس، ولا بد من دفع ثمن حريته ورفاهيته مهما كانت، حتى يبقى هذا الفرد مخلصاً لتلك الدولة، وهذا ديدن كل المجتمعات الاستيطانية، وخاصة في الدولة العبرية، التي أثبتت الصفقات السابقة لتبادل الأسرى معها أنها مستعدة لدفع ثمن حرية أسراها، وأن المزاودات الداخلية الحزبية والاعلامية لا تلبث أن تنتهي عندما تحين ساعة التبادل، ساعة الحقيقة، ولكن من الثابت أن جميع الصفقات كانت تتم في مناطق خارج حدود الدولة العبرية، وليس داخلها، وأن الدولة العبرية كانت لا تتوانى عن تنفيذ عمليات تحرير الأسرى إن كان ذلك ممكناً، حتى ولو كان الثمن قتل الأسرى أو محرريهم، مثلما حدث في عنتيبي، أو مثلما حدث مع عملية تحرير الجندي نحشون فاكسمان عام 1994م، كما أن الثابت أن كل عمليات أسر جنود كنسيم طوليدانو وايلان سعدون وغيرهم في الكثير من عمليات الأسر التي قامت بها حركة حماس وذراعها العسكري منذ نشأتها وحتى اليوم، كانت الدولة العبرية ترفض التفاوض مع ما تعتبر أنه أسر داخل مجالها الحيوي، والذي من الممكن فيه الوصول للجندي الأسير بلا دفع لأي ثمن، فالدولة العبرية تعتبر أن قطاع غزة داخل مجالها الحيوي، ليس كلبنان ولا غير لبنان، ودفع ثمن حرية هذا الأسير يعتبر سابقة تسجل في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني على أرض فلسطين، فإضافة للمعضلة الاستراتيجية التي نشأت بعد انتفاضة الأقصى، وتفكيك مستوطنات الاحتلال في طاع غزة، والصمود البطولي في ما أطلق عليه ( حرب الفرقان) وقدرة المقاومة الفلسطينية في القطاع على مراكمة الانجازات وبناء مشروع مقاوم على أرض فلسطين قابل للحياة، ولم يستطع الاحتلال وكل من يعادي المقاومة الفلسطينية استئصاله، ستشكل عملية تبادل الأسرى مع هذا المشروع المقاوم أكبر داعم لهذا المشروع في بطن الدولة العبرية، وسيشكل غرساً لمسمار آخر في نعش التراجع الاستراتيجي للمشروع الاستيطاني الاستعماري على أرض فلسطين، ولذلك يقف الساسة في الدولة العبرية أمام معضلة كبيرة، تتجسد بعجزهم ليس عن دفع الثمن الآني لحرية الأسير بتحرير ما يقارب الألف أسير فلسطيني، ولكن عجزهم وترددهم ويقينهم بمخاطر الصفقة على مستقبل هذه الدولة التي بدأت بالتراجع، ويتقدم مشروع مقاومتها على الأرض خطوات.
أما دول الاقليم التي تعادي منهج مقاومة الاحتلال، وتعتبر نفسها في تناقض استراتيجي مع مشروع المقاومة، وتنخرط في تحالف استراتيجي يهدف للقضاء على تلك المقاومة، فهي أيضاً تنظر للموضوع من باب سياسي استراتيجي، لا مدخل إنساني يتعلق بحرية ألف من آلاف الأسرى الذين قضوا في السجون من عمرهم سنين عديدة، وأكلت قيود السجان من أجسادهم وأنهكتهم الأمراض والتنقلات والعزل والتعذيب والأمراض التي لا يعالجون منها، وبلغ بعضهم من العمر عتيّا، بل تعتبر هذه الأطراف أن تنفيذ هذه الصفقة عبارة عن دعم كبير للمشروع الذي يستميتون في مقاتلته، ويعتبرون أن هذا المشروع هو البديل الأقوى لمشروعهم المتحالف مع الاحتلال، وأن تنفيذ التبادل بالطريقة المطلوبة من المقاومة الفلسطينية، سيشكل بداية النهاية لهؤلاء، وبالرغم من بعض التصريحات من بعض هؤلاء التي تظهر غير ما تبطن، إلا أن هؤلاء يعتبرون من أهم المعرقلين لصفقة التبادل.
أما ما يطلق عليها بالمجتمع الدولي، والذي ينخرط في الحرب على مشروع المقاومة في فلسطين، ويعمل على حصاره وحربه، ويرفض القبول بتمثيله للشعب الفلسطيني، ويسعى لإقصائه عن الساحة بكافة الوسائل السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، فهذا الطرف يرفض سراً وعلانية أي خطوة يمكن أن تفضي لنصر عملي أو معنوي لمشروع المقاومة في فلسطين، ولذلك يجتهد هؤلاء جميعاً لتعطيل هذه الصفقة، ولا أعتقد أن أياً من هؤلاء يبذل جهوداً حقيقية لتحقيق صفقة التبادل، ولكنه يسعى لجهود حقيقية لتحرير الجندي الأسير فقط، وحتى ( صفقة الشريط) مقابل الأسيرات ما كانت إلا عنصر تكتيكي لدراسة الشريط ومعرفة مصير الجندي، ويرى عدد من المهتمين أن المقاومة الفلسطينية ما كان يجب أن تقبل بذلك، وأنه كان عليها أن تعتمد استراتيجية حزب الله في التفاوض، وأن مصير الجندي يعرفه المهتمون يوم الافراج عنه فقط، فالآن هم مطمئنون أنه على قيد الحياة. كما يرى الكثيرون أن هذه الدول تنشط في قطاع غزة عبر مؤسسات واجهة لاستخباراتها،للتجنيد والبحث عن الجندي الأسير عبر الكثير من الوسائل، وأن تكثيف حضورها لقطاع غزة ليس حباً في الفلسطينيين، ولكنه غرس لعناصر جديدة لأجهزة مخابرات تلك الدول، عبر تجنيد الفقراء والمعوزين والراغبين بالامتيازات، وقد لفت أحد الكتاب من قطاع غزة النظر إلى أن مؤسسة أممية في قطاع غزة، تحتوي على مؤسسة استخباراتية كاملة مع أجهزة وتقنيات متقدمة، وأن لها أجندات استخبارية غير تلك التي يعلن عنها أنها إنسانية، فهذه المؤسسة، تدخل بالمساعدات التي تقدمها كل بيت فلسطيني هناك.
يتهم الطرف الفلسطيني المخاصم لحركة حماس بأنه أحد الأطراف المعطلة لصفقة التبادل، وتساق العديد من الحجج حول ذلك، ويقال أن هذا الطرف يعتبر متضرراً من تنفيذ هذه الصفقة، وتنقل وسائل إعلامية متعددة استياء أطراف معينة من ( قرب) تنفيذ الصفقة، كما أن لهذا الطرف العديد من التصريحات التي كانت ضد أسر الجندي، بل الدعوة لتسليمه للاحتلال، واعتبار أن أسره أدى لدفع الشعب الفلسطيني أثمان كبيرة، وبمنطق المناكفة والخيارات الاستراتيجية التي ترفض الانتفاضة المسلحة، يعتبر بعض المحللين أن أصحاب هذا المنهج سيعتبرون أن إنجاز الصفقة سيكون ضربة استراتيجية لمشروعهم وخياراتهم ومنطهم الذي لم يفضي للإفراج عن زبدة الأسرى، الذين لم يفضي ذلك المنهج السياسي للإفراج عنهم. طبعاً هنا لا بد من الذكر أن بعض المصادر الفلسطينية المحسوبة على هذا المنهج، نفت للجزيرة سعيها لتعطيل صفقة التبادل.
بالرغم من أن أصحاب هذا المنهج السياسي الفلسطيني يعتبرون حليفاً استراتيجياً لدول الاقليم وما يعرف بالمجتمع الدولي المتحالف مع المشروع الاستيطاني في فلسطين، إلا أن بعض المحللين لا يعتبرون أن أصحاب هذا المنهج في وضع يستطيعون فيه التأثير على السياسة الاسرائيلية فيما يخص شاليط، وأن أي تأثير حقيقي يعود بشكل رئيس إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود هذا الكل الدولي والاقليمي والمحلي ضد مشروع المقاومة في المنطقة، ويعتبر هؤلاء أن المصلحة الأمريكية ترفض أن تتم صفقة التبادل، وترفض أي إنجاز يعزز صورة المقاومة في المشهد السياسي الفلسطيني، كما أنها ترفض أي تقارب ومصالحة فلسطينية، وهو ما أفادت به مصادر سياسية وإعلامية في الوقت الحالي.
بناءً على ما سبق، تعتبر السياسة هي الآسر الحقيقي للجندي شاليت، فالسياسة ترفض إطلاق سراحه، واالنجاز السياسي بعد الانساني هو ما يدفع المقاومة الفلسطينية للمحاولات الحثية لإبرام صفقة التبادل، وبالرغم من السخونة والبرودة والتلميحات والتصريحات، و (جدّية) الوسيط الالماني و (عدم جّدية) الوسيط العربي، فوالد شاليط (غير مطمئن)؟! والطيران الاسرائيلي يحلق بكثافة فوق أجواء غزة، والفبركات الاعلامية تتزايد، والعيون والآذان تترقب كل شاردة وواردة من وفي القطاع المحاصر، فهل نحن مقبلون على صفقة تبادل للأسرى، أم أننا مقبلون على مغامرة لمحاولة تحرير أسير السياسة؟.