العابثون وتمزيق نسيج الأمة
د. علي محمد فخرو
في مسارح العبث الكروي العربي، وآخرها مسرحية المباريات المصرية الجزائرية عبر أسبوع من الهرج والمرج الممل، تقف ثلاث جهات في قفص الاتهام، ولا تستطيع أي جهة التملص من مسؤولياتها.
هناك أولاً سعي منظم لحرف وبعثرة انتباه الجماهير من قضاياه الحياتية الأساسية اليومية إلى مختلف النشاطات الهامشية. وبذلك يتلهى الناس بنشاطات من مثل الرياضة، وبشعارات من مثل بلدي (ويُسميه) أولاً، وبتفاخرات إنجازية وهمية. عند ذاك ينسى الناس المظالم اللاحقة بهم وحقوقهم المسلوبة وقبضات الاستبداد التي تحكم كل جوانب حياتهم، ويحصل المسؤولون على هدنة مجانية ينصرف الناس فيها عن المُسائلة أو الاحتجاج أو حتى التأفف. وفي هذا الجو تُصبح المحرمات حلالاً؛ فمهاجمة المسؤولين الأشقاء أمر مقبول والاستهزاء بالشعوب الشقيقة هو من قبيل حرية الرأي. وفجأة تتسع مجالات الحرية والتعبير طالما أنها تشتم وتجرح وتثير الآخر!
ثانياً، هناك الإعلام العربي الذي أصبح في جزءٍ منه مطية يركبها السياسيون الانتهازيون في الحكومات وفي المجتمعات بهدف تشويه السياسة من خلال المبالغة في إعلاء شأن القطرية، والدين من خلال التلاعب بالخلافات المذهبية، والثقافة من خلال التسطيح والمماحكات الإيديولوجية، والاقتصاد من خلال نشر ثقافة الاستهلاك النهم، والترويح من خلال جعله سلعة من السلع التي تُباع وتُشترى. والواقع أن جزءاً من الإعلام العربي يُساهم، بقصدٍ أو من دون قصد، في شخصنة كل الخلافات وفي تمزيق نسيج هذه الأمة القومي وفي إدخال الأجيال الحالية في متاهات لا حصر لها ولا عد، مما سيقلب هذا الجيل إلى أن يكون غير ملتزم بقضية جدية وغير مرتبط بأهداف كبرى.
هناك ثالثاً المواطنون العرب العاديون. إنهم سمحوا ويسمحون لأن يُساقوا كالأغنام إلى حتفها. وإلا، كيف تتحمس الملايين للعبة كرة وتقلبها إلى رمز يُعبر عن مكانة الدولة التي فيها يعيشون في حين أن القاصي والداني يعلم بأن هذه الدول هي في مؤخرة ركب دول العالم، ولن يرفع من مكانتها الحضارية وصول فريق كرة قدم إلى (المونديال)، خصوصاً أن كل الذين وصلوا من قبل خرجوا من منافسات (المونديال) خلال يومين من بدئها مهزومين!؟
والذي شاهد جماهير مشاهدي الكرة وهم يرقصون لا يستطيع إلا أن يتذكر ظاهرة الهيستيريا الجماعية التي اجتاحت أوروبا في القرون الوسطى عندما كان الملايين يرقصون ليل نهار حتى يسقطوا من الإعياء من دون سبب غير تقليد الآخرين ومجاراتهم.
الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح هي: لو أن الحكومات آمنت بأن الروابط القومية تعلو على الكبرياء القطرية الفارغة، ولو أن المنابر الإعلامية العربية كانت تعمل بمهنية رفيعة وبالتزام تجاه ثقافة التجميع القومي وليس التفريق القطري، ولو أن الشعوب كانت مشحونة بمشاعر الحب لوطنها الكبير ولأمتها الواحدة، لو أن كل ذلك وجد، هل كان باستطاعة قضية هامشية كلعبة كرة القدم أن تفعل ما فعلته من إمعان في تمزيق هذه الأمة وإدخالها في جحيم الصراعات العبثية؟
أما السؤال الآخر فهو: ألم يحن الوقت لمراجعة نظرتنا الكلية لموضوع الرياضة البدنية؟ هل الأهم هو إيجاد الفرص ليُمارس أكبر عدد من المواطنين نشاطاً رياضياً مفيداً لأجسامهم وعقولهم وأرواحهم، أم أن الأهم هو تربية فرق رياضية قادرة على التنافس ضد الآخرين، وأن كل ما يُطلب من جمهور المواطنين هو التفرج لتلك الفرق وتشجيعها؟
نحن نُدرك أن العالم كله قد سمح لنفسه بأن يدخل في جنون المنافسات الرياضية، وخلق قوى ومؤسسات كبرى مستفيدة. والوطن العربي، الذي يُقلد الآخرين في كل شيء، لن يُقاوم إغراء تقليد الآخرين في الرياضة. وإذا كنا سندخل هذا الجحيم العبثي مع الآخرين، ألا نستطيع إبعاد نار هذا الجحيم عن الساحة القومية حتى لا نضيف إلى مأساة التجزئة والتشرذم في هذه الأمة مآسي جديدة؟
أسئلة نطرحها على الحكومات وعلى الإعلام وعلى الجمهور في كل الأرض العربية.