عهد الرئيس .. وعهد أبيه
الطاهر إبراهيم *
نحن والمعارضون من غير الإسلاميين في نبأ عجيب. فيوم أن زُعِم أننا كنا نعمل في الثمانينيات والتسعينيات لقيام حكم إسلامي في سورية قالوا أنتم إقصائيون. ويوم أصدرت جماعة الإخوان المسلمون "ميثاق الشرف" في3 أيار عام2001 ،وذكرت فيه أنها تدعو إلى حكومة تعاقدية ديمقراطية تداولية تعددية من خلال صناديق اقتراع شفافة، قبل البعض هذا الكلام وشكك فيه البعض الآخر، حتى بعد أن عقد مؤتمر "ميثاق الشرف الوطني" في لندن الذي جمع الإخوان مع يساريين وقوميين ومسيحيين وأكراد.
توالت السنوات، ودخل الإخوان في تجمع إعلان دمشق ثم في جبهة الخلاص الوطني، ثم علقوا نشاطهم المعارض ضد النظام السوري أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون ثاني من هذا العام 2009، يومئذ قال الأخوة المعارضون السوريون الآخرون: إن الإخوان أشقاهم البعد عن سورية، فبدؤوا يغازلون الرئيس بشار للعودة إلى سورية.
محدثي "أبو نضال" الذي كان يستعرض معي الأحداث، واجهني بقوله: "ما عدا مما بدا" وقد كان وبينكم وبين النظام السوري في عهد الرئيس حافظ أسد "ما صنع الحداد"؟ الآن صرتم أنتم مع النظام "خوش بوش" في عهد الرئيس بشار! ثم نظر محدثي نحوي محدقا بي، قائلا على طريقة الإعلامي "فيصل القاسم": كيف ترد؟ نظرت إلى محدثي، وقلت له: سأشرح لك الأمور بطريقتي، واستنتج أنت منها بعد ذلك ما تشاء وكما يحلو لك:
عهد الرئيس الراحل "حافظ أسد" حفل بتطورات دراماتيكية خطيرة أدخلت سورية في عهده في أحداث جسام. ودون الدخول في نفق: (من بدأ الصراع قبل الآخر؟النظام أم الإخوان؟)، فقد جرى اقتتال حقيقي لم تسلم منه منطقة في سورية إلا وسقط فيها قتلى. "حماة" مثلا سقط فيها عشرات آلاف القتلى. في أقل تقدير كان القتلى في مدينة حماة عام1982 خمسة عشر ألف حموي. ( انظر شهادة "روبرت فيسك" وكتاب الصراع على الشرق الأوسط لمؤلفه "باترك سيل" ). فهل حصل مثل ذلك في عهد الرئيس بشار؟
في عهد الراحل "حافظ أسد" امتلأت المعتقلات في سورية، وتم إنشاء معتقلات جديدة، حتى بلغ عدد المعتقلين السوريين في فترة من الفترات أكثر من أربعين ألف معتقل. وشكل سجن "تدمر" في عهد الراحل "أنموذجا" للمعتقل الكبير الذي زرع الرعب والخوف والإحباط في نفوس كل من يسمع باسمه. ولم يعرف التاريخ مثيلا له، حتى ولا سجن "الباستيل" معجزة القرون الوسطى، في القهر والتنكيل. وقد أمر الرئيس "بشار أسد" بإغلاق سجن تدمر سيء السمعة، وطويت صفحته نهائيا. فهل يستوي من يفتح المعتقلات ومن يغلقها؟
وفي أول تموز "يوليو" من عام 1980 أصدر الراحل "حافظ أسد" القانون /49/ الذي يحكم بالإعدام على كل من ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. وهذا القانون لم يصدر له مثيل في الجبروت وتقنين القتل على الهوية في أي دولة في العالم وفي أي عصر من العصور. وقد تمت محاكمة آلاف المعتقلين بموجب هذا القانون الإستئصالي.ونفذ حكم الذبح بهم في سجن تدمر بمعدل 125 شهيدا في الأسبوع، على ما ذكره المحامي "هيثم المالح" –فك الله أسره- في برنامج "بلا حدود" في قناة الجزيرة قبل خمس سنوات. (وللمفارقة فإن الراحل كان أثنى على الإخوان المسلمين في آذار من عام 1980في خطاب له –بعد مظاهرة مليونية خرجت في حلب في آذار 1980- أمام تجمع شبابي، فقال: إن الإخوان المسلمين ليسوا مع القتلة، وإن من حقهم علينا، بل من واجبهم أن يقدموا لنا النصح والمشورة وأن نسمع لهم...)
صحيح أن الرئيس بشار رفض حتى الآن شطب هذا القانون الإستئصالي من صفحة قوانين سورية، رغم مناشدة جمعيات حقوق الإنسان، باعتباره قانونا يتنافى مع كل قيم الإنسان، بل لا يجوز إطلاق اسم قانون عليه. إلا أن الرئيس بشار أسد أيضا لم ينفذ أي حكم للإعدام في عهده بموجب هذا القانون، بل كان يخفض الحكم إلى السجن 12 عاما.
وفي عهد الرئيس الراحل تم إطلاق يد الأجهزة الأمنية، فعاثت في سورية فسادا. اعتقل كل من اشتبه به أنه من الإخوان المسلمين. تمت مصادرة ممتلكات الذين هربوا خارج سورية، ومنع أقرباؤهم من مغادرة سورية، حجبت الوثائق والجوازات عن المنفيين وأولادهم خارج سورية، كما لم تقبل وكالة أحدهم لقريبه أمام الدوائر الرسمية بسورية ما لم تعتمدها أجهزة الأمن، وربما كان على أهله أن يدفعوا فدية كبيرة ليتجاوز هذا القيد.
بعد مناشدات معمقة لجماعات حقوق الإنسان استجاب الرئيس "بشار" لها، فأصدر توجيهاته للقنصليات السورية بمنح السوريين جوازات سفر دون النظر لوضعهم السياسي. صحيح أن المهجّرين سياسيا منحوا جوازات سفر لمدة سنتين، بينما جارهم غير المنفي في الاغتراب يمنح جواز سفر لمدة ست سنوات. لكن والحق يقال، فإن القنصليات تجدد صلاحية الجواز سنتين أخريين، ثانيةً.. ثم ثالثة. يبقى أن "الخير بكماله"، فلو منح جواز سفر لسنوات ست دفعة واحدة كان أفضل، بدلا من تجزئتها وتقسيمها وتشطيرها.
في عهد الراحل مرت على سورية سنوات عجاف، فُقِدت الأغذية من الأسواق بفعل فاعل. ينفق المواطن سحابة نهاره واقفا في الطابور ليأخذ خبز أولاده، أو علبة سمن صغيرة أو جالون زيت نباتي لقلي البطاطا والباذنجان، مع أن سورية هي أغنى دولة عربية بالزراعة وإنتاج الحبوب، والزيتون السوري مشهور، أقسم الله به في القرآن في سورة "التين".
يقال -والعهدة على من روى- أن عائدات النفط السوري لم يدخل منها دولار واحد في إيرادات الخزينة السورية في عهد الرئيس الراحل بل كانت تحول إلى بنوك سويسرا. ويوم استلم الرئيس "بشار" الحكم أصبحت عائدات النفط تشكل نصف إيرادات الخزينة، وزيدت رواتب العاملين في الدولة، حتى أنها تضاعفت عدة مرات. وأنشئت المشاريع الخدمية، فلم تبق قرية إلا وصلت بالقرى المجاورة بطرقات مزفتة، كما أنيرت بالكهرباء.
ورغم أن "دكاكين" النضال السوري (الإذاعة والتلفزيون وصحف البعث والثورة وتشرين)، كانت تهاجم أمريكا ليلا نهارا فقط، فقد أرسل الرئيس الراحل فرقة عسكرية كاملة بقيادة اللواء "علي حبيب" لتقاتل الجيش العراقي تحت راية واشنطن في حرب عام 1991.
بينما رفض الرئيس بشار إرسال وحدات سورية لتفكيك المقاومة العراقية التي أوقعت في الجيش الأمريكي خسائر فادحة، عندما طلب منه ذلك الرئيس "جورج بوش" على لسان وزير خارجيته "كولن باول"، عندما زار الأخير دمشق في أيار عام 2003 بعد احتلال العراق، ما تسبب بمشاكل للرئيس السوري مع الرئيس الأمريكي جورج بوش.
ومن قبل ذلك أدخل الرئيس الراحل حافظ أسد وحدات من الجيش السوري إلى لبنان لتقاتل الفصائل الفلسطينية التي كانت مشتبكة مع القوات اللبنانية بقيادة "بشير جميل". وتم التقنين –من خلال اتفاق الطائف- لبقاء الجيش السوري مهيمنا على لبنان بعد أن ضمنت دمشق رضى واشنطن بذلك.
وعندما أصدر مجلس الأمن القرار 1559 في صيف 2004 الذي تضمن خروج الوحدات السورية من لبنان. وبعد اغتيال الرئيس "رفيق الحريري" سحب الرئيس "بشار أسد" الجيش السوري من لبنان بضغط من واشنطن. صحيح أن الانسحاب لم يكن طوعيا، لكنه أفسح في المجال لعودة العلاقات الأخوية بدلا من عهد الوصاية. فلو أن ماجرى كان في عهد الرئيس الراحل لبذل كل ما تطلبه منه واشنطن في سبيل إبقاء الجيش السوري في لبنان.
أخذ محدثي "أبو نضال" نفسا طويلا. نظر نظرة ذات مغزى ثم قال: طالما أن عهد الرئيس بشار يناسبك إلى هذا الحد فلِمَ لا تعود إلى سورية إذن؟ قلت: يا صاحبي هل تظن الأمور صارت "سهيدة ومهيدة" في سورية؟ فهناك أجهزت الأمن التي نشأت قياداتها وترعرت في عهد الرئيس الراحل. وهي ما تزال تمسك بمخانق البلد. وربما يعجز الرئيس عن ترويض تلك القيادات. وسيبقى الأمر كذلك ما لم يلغ قانون الطوارئ، ويعاد للدستور احترامه وإلى القانون هيمنته على الوزارات ومرافق البلد، فيحكم سورية بدلا من محاكم أمن الدولة. لأنه لا يمكن للحرية والديمقراطية أن تتعايشا مع قوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية.
تبقى قضية هامة: فأنا أرفض العودة إلى وطني من البوابة الأمنية وأن أكتب اعترافا بأمور لم أعملها. أنا مواطن درجة أولى لا أ دفع رشوة من كرامتي كي أعود إلى وطني. فعندما يُعلن العفو العام ويتم شطب القوانين سيئة السمعة، وفي أولها قانون الطوارئ وقانون الذبح 49 لعام 1980، عندها أعلم أن وطني عاد سيدا حرا مستقلا، كما كان عندما طرد الشعب السوري جيش فرنسا من سورية في عام 1946. وما لم تتحرر سورية من صولة أجهزة الأمن، فلا حرية للمواطن ولا أمن على أرضه....
كلمة أخيرة أقولها: الوطن الذي لا تحفظ فيه كرامة أبنائه على أرضه، سوف يخسر حريته وينهزم في كل معاركه أمام أعدائه لأن أبناءه مهزومون من دواخلهم.
* كاتب سوري معارض يعيش في المنفى.