الغاية والدستور والزعيم والسبيل
الغاية والدستور والزعيم والسبيل
أ.د/
جابر قميحةإن الحملات الضارية التي شُنت وما زالت تشن في وسائل الإعلام – من صحف وقنوات تلفازية – على الإخوان وفكرهم ومرشدهم وشعارهم وبرنامجهم ومنهجهم في المشاركات السياسية والاجتماعية ليست جديدة , ولم تنشأ من عدم أو فراغ , بل هي من عمر دعوة الإخوان التي نشأت سنة 1928 , مع اختلاف في الوسائل والدرجة , ومع توافرالقاسم المشترك بينها جميعا : من افتراءات , وأكاذيب , وتضليل , ومغالطات .
وقد يكون من النافع – على سبيل الإبانة والتوضيح والتوثيق – أن نعود بالقارئ إلى بضع سنين مضت ؛ ليكون لنا وقفات مع واحد من أشهر الكتاب العلمانيين في مصر والشرق العربي :
في صحيفة الأهرام الصادرة في 2/6/1999
شن السيد أحمد عبد المعطي حجازي
هجومًا ضاريا علي الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله-
مدعيا أن الكتاب الذي كتبه
الشيخ كشك عن «نجيب محفوظ» فيه دعوة لاغتيال نجيب محفوظ,
استجاب لها ولباها -كما يقول
حجازي- «بعض القردة المتوحشين, وانهالوا علي عنق
الكاتب بالخناجر والمُدي..»
ويمضي فيصف الشيخ كشك بأنه «واعظ محدود الثقافة, لا
علاقة له بدراسة الأدب» وبأنه «واعظ نصف أمي», ويتساءل ساخرًا: «لماذا لا يعين
الشيخ كشك أستاذًا في جامعة المنصورة, أو في جامعة
القاهرة?.. وهل نحن علي يقين من
أن الشيخ كشك لم يعين أستاذًا
في الجامعة? بل أنا علي يقين من أن عشرات من الشيخ
كشك يعملون أساتذة وعمداء ورؤساء جامعات".
في ميزان الحق
وما ذكره حجازي
يرفضه الحق, وينقضه الواقع, فالذين اعتدوا علي نجيب
محفوظ لم يقرأ واحد منهم كتاب
الشيخ كشك , بل لم يسمع به ,
وهذا ما أثبتته التحقيقات.
والشيخ كان من حفظة القرآن
المتعمقين في معانيه وأسراره,
وكان ذا ثقافة موسوعية واسعة, ووهبه الله حنجرة قوية
الأسر والتأثير, وكنت أتمني أن يقرأ حجازي كتاب «النبي والفرعون» للكاتب العالمي
الشهير «جيلز كيبل», وقد كتب فيه فصلا عن الشيخ كشك
من عشرين صفحة جاء فيه «..انهم
يستمعون لكشك في القاهرة, وفي
الدار البيضاء, وفي حي المغاربة في مارسيليا.. فهو
نجم الدعوة الإسلامية, وقد كان لكشك بالطبع مقلدوه, ولكن لم يتوافر لأحدهم أحباله
الصوتية التي لا تضاهي, أو ثقافته الإسلامية
الواسعة, أو قدرته غير العادية علي
الارتجال , أو روحه الجسور في
نقده للأنظمة الظالمة, وللدكتاتورية العسكرية, ولمعاهدة
السلام مع إسرائيل "
هذه سطور من شهادة كاتب غربي غير مسلم لرجل اتهمه حجازي
بالأمية والتعصب, وضيق الأفق..
الخ. وفي مدينة إسلام أباد -عاصمة باكستان- في أحد
أيام شهر مارس سنة 1987 رأيت في سوق من أسواق المدينة «أيوب ماركت» قرابة عشرة من
الباكستانيين يستمعون لخطبة مسجلة من خطب الشيخ
كشك, فسألت أحدهم: هل فيكم من يعرف
اللغة العربية? فأجاب لا..
ولكننا نجد في نبرات صوته ما يهزنا, ويجدد إيماننا. قلت
بيني وبين نفسي: سبحان الله!! هذا شأن الكلمة المؤمنة إذا خرجت من القلب هزت
المشاعر وشغاف القلوب, أما الكلمة تخرج عابرة من
اللسان, فلا تتجاوز
الآذان.
استعلاء مرفوض
والسيد حجازي في هجومه علي من لا يعجبه يتحدث للأسف
بتعال, وشعور بالفوقية يرفضه الذوق والعقل والمنطق, فهو -في أهرام 7/11/1999-
يتحدث عن أحد أساتذة الجامعة الفضلاء بقوله: "... ومع ذلك فقد قرأت لشخص يسمي نفسه
الدكتور عبد الرءوف أبو السعد, المدرس في جامعة
المنصورة مقالة
".
ويصف الأستاذ
الدكتور السيد أحمد فرج بأنه «عدو للعقل» . ويقول
حجازي عن كتب هذا العالم الجليل :
وله شيء يسميه «جذور العلمانية»
وشيء يسميه: «المؤامرة علي المرأة المسلمة»,
وشيء آخر يسميه «أدب نجيب محفوظ..» . وأعتقد أن أي كاتب يحترم نفسه, وقلمه لا يهبط
إلي هذا المستوي , وأقول إننا نرفض مثلا.. أن يكتب
إنسان ما «..ولقد قرأت قصيدة لشخص
يسمي نفسه أحمد عبد المعطي
حجازي, له شيء اسمه «لم يبق إلا الاعتراف», وشيء آخر
اسمه «أوروبس» , وشيء ثالث اسمه
«مرثية للعمر الجميل», وهو يسمي هذه الأشياء
شعرًا.
وذنب الدكتور السيد أحمد فرج أنه أصدر كتابا فيه نقد موضوعي مرّ لنجيب
محفوظ, وهو نقد معلل مبرر, يثور حجازي ويري فيه كتابا ساقطا, وتحريضا ضمنيا علي قتل
نجيب محفوظ, ويري فيه تدميرا للفكر السوي , وتوجيها
للطلاب الذين يدرس الأستاذ لهم
الكتاب إلي التطرف.
وتصدي الدكتور أحمد أمين حمزة رئيس جامعة المنصورة «لتطرف»
السيد حجازي فكتب في الأهرام
الصادر يوم 23/6/1999, وصرح بأن كتاب الدكتور فرج لا
يدرس للطلاب, بل إن مكتبة الجامعة ومكتبات الكليات ليس فيها نسخة واحدة من الكتاب
«وأن
الدستور كفل لكل مواطن أن يعبر عن رأيه كما يشاء. ومن حق أستاذ الجامعة أن
يعبر في الكتاب المشار إليه عن موقفه الفكري الشخصي
عن أدب نجيب محفوظ.
وفي حدة
متفجرة لم يكتف حجازي «بتجريم» الدكتور فرج, وتجريم
كتابه عن نجيب محفوظ , بل
"
جرّم" الأساتذة الذين منحوه درجة الدكتوراة, ورقوه إلي درجة أستاذ, فيقول في أهرام
2/6/1999
بالحرف الواحد " الذين منحوا هذا الدكتور درجة الدكتوراة شركاؤه, والذين
رقوه إلي درجة أستاذ مشيدين بكتابه عن نجيب محفوظ
هم أيضا شركاؤه, ينتمون هم أيضا
إلي المستوي نفسه, أو بالأحري
إلي المنظمة المتطرفة نفسها التي تسيطر علي
جامعاتنا".
وبهذا الاستعلاء النرجسي يضع حجازي نفسه في مستوي أعلي من مستوي
أساتذة الجامعات, علما وفكرا وتقديرا وولاء للوطن. وفي الوقت الذي كان حجازي يهاجم
بضراوة الإسلاميين, ويجرّم رؤيتهم في الأدب والنقد
والسياسة والمجتمع نراه يغض
النظر عن «جريمة» ترتكب في كلية
التربية بجامعة القاهرة فرع الفيوم, إذ كان الطلاب
في السنة الثانية بقسم اللغة الإنجليزية - في مادة الدراما- يدرسون مسرحية «تاجر
البندقية» «لشكسبير», وقد صدّرتٍ المسرحية بمقدمة
طويلة تدافع عن اليهود, وتنتصر
لهم, وتحط من شأن العرب
والمسلمين, ومما جاء في هذه المقدمة بالحرف الواحد "..ولكن
اليهود قد أصبحوا الآن ضحايا الاضطهاد الذي تمارسه ضدهم الشعوب الإسلامية في الشرق
الاوسط, ولقد أصبحت دولة إسرائيل التي أقيمت لضمان
بقاء الشعب اليهودي واستقلاله-
كريهة في عيون مسلمي دول الشرق
الأوسط, وهذا الصراع بين اليهود والمسلمين ما زال
قائما.. واليهود في الحقيقة أمة من النجباء, من بينهم العباقرة في كل مناحي
الحياة.. وقد أثبتوا أنهم رجال حرب يحاربون بشجاعة,
وبلا تقاعس ضد الدول الإسلامية العربية التي تحيط بإسرائيل
".
أين كنت يا حجازي?
يقول الأستاذ محمد سلماوي ".
.إن
هذه الصفحة الواحدة من مقدمة الكتاب تتضمن جميع عناصر الدعاية الصهيونية في
كبسولة واحدة ليتجرعها الطالب المصري, بعد أن تجرعتها أجيال متعاقبة في دول الغرب
في غيبة من أي محاولة تصحيح عربية.." (الأهرام
21/6/1999(.
إنه منشور صهيوني
-كما
يسميه الأستاذ سلماوي- يدرسه طلابنا في الجامعة علي وجه اليقين, وهذا ما
أعاد الأستاذ سلماوي تأكيده
بأدلة مادية تحت يده. (انظر الأهرام 12/7/1999(.
ومع
ذلك لم ينل هذا المنشور الصهيوني «نظرة نقدية»
حجازية واحدة, لأن الأخطر منه -في
نظر حجازي- علي الدين والشباب
والوطن والسلام الاجتماعي ما كتبه إرهابي اسمه
الدكتور السيد فرج في نقد نجيب
محفوظ , وكذلك ما كتبه وخطب به «واعظ» -نصف أمي في
نظر حجازي- اسمه الشيخ عبد الحميد كشك. وبلغ التطرف بحجازي أن يطلب من المسئولين
حرمان الدكتور فرج من التدريس بالجامعة لأنه أخطر
علي الطلاب من كتابه (الأهرام
(7/7/1999
وكان من حيثيات هذه الدعوة ما قرأه حجازي للدكتور فرج في بعض كتبه من أن
"الدين هو الرابطة المقدمة علي أية
رابطة أخري, فالدين -في نظر السيد فرج- ليس مجرد
اعتقاد أو علاقة بين الإنسان وخالقه, وإنما هو أيضا
قومية وجنسية".
مع أن
الدكتور فرج «لم يعبر عن رؤية
خاصة» عندما عبر عن طبيعة هذا الدين الذي أكرمنا الله
به, وليس ذلك شعارا حزبيا أو فئويا, فالإسلام عبادة وقيادة, وجنس ووطن, وقومية,
ونسب, وعلم, وجهاد, وهو ما أكده الغربيون العدول ممن كتبوا عن الإسلام, وهو ما عبر
عنه عربي بدوي «أمي» إذ قال -حينما سئل عن نسبه:
أبي الإسلامُ لا أبا لي سواهُ
إذا افتخروا بقيس أو تميم
الدعوة إلي تعرية النساء
ولا ننسي أن السيد
حجازي بكي بكاء مرا, وهاج هياجا
شديدا للنكبة التي نزلت بالفن لأن وزيرًا مسئولا
حرّم «الموديلات العارية» في كليات الفنون. والموديلات العارية: نساء يستأجرن
ويجلسن, ويقفن, أو يضطجعن- تبعا للوضع المطلوب-
عاريات تماما ليرسمهن الطلاب
والأساتذة. ووصف حجازي الوزير
الذي أصدر قرار المنع بالاستبداد وضيق الأفق وقال
بالحرف الواحد «نريد حقا أن
نحرر عقولنا من الخرافة, ونعالج نفوسنا من الخوف,
ونعامل أجسادنا بما هي جديرة به
من اعتزاز واحترام?» الأهرام 16/6/1999.
وأقول:
لماذا لم يوسع السيد حجازي «الدائرة», ويدعو إلي توظيف موديلات «رجالي», وفي هذه
الحال ندعوه إلي ما دعا إليه من ضرورة «الاعتزاز
بالجسد واحترامه» وذلك لا يكون من
وجهة نظره إلا بالتعرية.
صوت كاتب نظيف
ولا أجد في هذا المقام أبلغ وأدق مما
كتبه الأستاذ الشريف النبيل
فهمي هويدي تحت عنوان «لكي نتجنب مصير الهنود الحمر» إذ
يقول في مقاله الطويل «..إنها فكرة غير إنسانية تبتذل جسد المرأة وتهينه. بالمناسبة
هل يقبل المدافعون عن رسم الجسد العاري أن تقف
أمهاتهم أو زوجاتهم, أو بناتهم هذا
الموقف أمام الطلاب وغيرهم من
هواة الفن?!.. وهؤلاء المشغولون بالدفاع عن رسم الجسد
العاري, لم نجد لهم دورًا, ولا باعًا في الدفاع عن الأمة العارية المكشوفة حضاريًا,
والتي لا تكاد تجد ما يستر عوراتها في سباق التقدم» الاهرام 6/7/1999.
* * *
هذه بعض «الحجازيات» أو بعض الخطوط في تضاريسه الفكرية والأخلاقية والعقدية.
ومن حق القارئ أن يوجه إليّ
سؤالين: الأول: لماذا أثير هذه الوقائع التي مضي عليها
قرابة ست سنوات?.
والثاني: ما علاقة كل ما ذكرتُه آنفا بعنوان المقال? وأقول:
آمل أن يجد القارئ الإجابة في
السطور الآتية :
من الكلمة إلي البندقية?!!
. وقلنا: ربما اكتسب حجازي بعدها لمحات من الاتزان,
ونقاء السريرة, ونور البصيرة, ولكن حقَّ فيه المثل المشهور "الطبع يغلب التطبع".
فاندفع بعدد من المقالات, كان منها ومن أضراها مقاله في الأهرام بتاريخ 14/5/2003,
وعنوانه "من الكلمة إلي القنبلة". والمقال يتمتع بالسطحية والأخطاء والمغالطات, ولم
يكن في نيتي الرد عليه لسببين:
الأول: أن أقلامنا - نحن الإسلاميين - أمامها من
مشكلات الأمة, وما نزل - وينزل - بها من النكبات, ما يكفيها, وما هو في حاجة إلي
مدادها.
والثاني: أن المحاور التي عالجها مقال حجازي تمثل افتراءات, واهتراءات
فكرية لا جديد فيها, وفي المكتبة العربية والإسلامية ما تكفل بإسقاطها, ونقضها
,
ولم يعد لها مكان إلا عند غير الأسوياء فكرًا وعقيدة.
ولكني عدلت عن عزمي, وآثرت
الرد استجابة لعدد من رسائل
القراء. ولأن السكوت عن مثل هذا السقوط الفكري والعقدي,
يدفع صاحبنا وأمثاله إلي
استمراء هذا النهج الذي قد يستجيب له, ويتفاعل معه كثير من
البسطاء, وذوي النوايا الطيبة.
جماعات... لا جماعة
يبني السيد حجازي مضمون
مقاله كله علي أساس غالط لا
وجود له إلا في خياله وهو أن الجماعات الإسلامية " شيء
"
واحد, فهي كلها يحكمها ويسيرها التطرف. وهو ادعاء ينقضه الواقع, وينقضه العدول من
المسئولين, وكبار رجال الأمن, وينقضه أصحاب الأقلام
"النظيفة" الذين كتبوا عن هذه
الجماعات, فبعض هذه الجماعات ينهج نهج التطرف والعنف, ولسنا في مجال البحث عن
الأسباب والدوافع, ومنها نظم الحكم القمعي
الدكتاتوري في أغلب البلاد
العربية.
أما جماعة "الإخوان المسلمين" - وهي أوسع الجماعات انتشارًا علي
المستوي المصري والعربي والعالمي - فهي تتسم
بالاعتدال, والوسطية, وترفض العنف
والإرهاب في معالجة الأمور, وهي
حقيقة فصَّلها من كتبوا عن الجماعة بعقليات منزهة
عن الهوي. كالدكتور إسحاق موسي الحسيني, وعشرات من الأطروحات الجامعية في الماجستير
والدكتوراه. وبسبب اعتدال الجماعة, رأينا بعض رءوس
الجماعات المتطرفة يرمون الإخوان
بالكفر والمروق.
فالساحة إذن فيها جماعات متعددة, لا جماعة واحدة, ولكن مضمون
"المقال
الحجازي" لا يتناول إلا جماعة الإخوان, ويصفها بالتطرف, ويري في شعاراتها
مشكلة من المشكلات "التي تحاصرنا من كل الجهات,
وتفرض علينا البقاء في عصور الجهالة
والخرافة, والقهر والمسغبة".
نعم: اللّه غايتنا
ويقف حجازي أمام شرائح الهتاف
أو الشعار الإخواني ويعبر عن
رؤيته الغريبة بادئًا بـ"اللّه غايتنا" مستشهدًا ببيت
من الشعر لعمر الخيام, وبجملة يوسف وهبي المشهورة "ياللهول"!. وهو كلام لا يستحق أن
نقف أمامه. والأغرب منه أن يتهم
الإخوان بأنهم يخلطون خلطًا ذريعًا بين واجباتهم
الدينية, وواجباتهم الدنيوية.. ويزعمون أنهم يتحدثون باسم اللّه حرصًا علي اغتصاب
السلطة. ولا يقنعون باغتصاب السلطة وحدها, بل
يتجاوزونها لاغتصاب الأرواح, واغتيال
الخصوم.. إلخ.
وكلها اتهامات تظهر حجازي وكأنه يعيش في كوكب "آخر غير الأرض".
فأداء الإخوان في مجلس الشعب, وفي كل المواقع الاجتماعية من مدارس, وشركات, ووظائف
عامة تشهد لهم بالأمانة والتفوق, والحرص علي مصلحة الأمة, قاصدين بذلك وجه اللّه
"غايتهم",
ولسان حال كل منهم يقول: (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب
العالمين). وأين "اغتصابهم للسلطة"? . يا سيد حجازي
إن وطننا الحبيب مصر يعيش أكثر من
نصف قرن في ظل "سلطة مغتصبة" لا مكان للديمقراطية في قاموسها.. فكيف أغفلت هذه
الحقيقة يا سيد حجازي?!!
نعم القرآن دستورنا
ويحمل حجازي علي هذا الهتاف
أيضًا, ويري أن القرآن شريعة
دينية وأخلاقية, ويجب أن يظل بشيرًا ونذيرًا, وداعيًا
إلي اللّه بإذنه وسراجًا منيرًا.."..
وهنا تتسع دائرة الأخطاء الحجازية ومن
أهمها:
-1 -
أنه - بالمفهوم الوضعي - يخلط بين الدستور والقانون ويستخدم الكلمتين
بمفهوم واحد, مع أن الراسبين في الفرقة الأولي من كلية الحقوق يعرفون الفارق
بينهما: فالنص مثلاً علي أن النظام الجمهوري هو
نظام الحكم, وعلي حق المواطن في
حرية العقيدة, وحرية العمل..
إلخ من النصوص الدستورية, وهي تمثل ما يمكن أن نسميه
بالثوابت, أما القوانين واللوائح, فتكون مفصلة معبرة عن واقع الأمة, وتخضع للتغيير
والحذف والإضافة بحيث لا يصطدم ذلك بنص من نصوص
الدستور.
-2 -
أنه يسوي بين
القرآن والكتب السماوية السابقة عليه, وهي تسوية
ظالمة, لأن الكتب السابقة نزلت
لجماعات محددة, في مرحلة معينة.
أما القرآن فهو الكتاب الخاتم الذي نزل للناس كافة
عربيهم وعجميهم في كل زمان ومكان, لذلك جاء شاملاً يلبي حاجات الإنسان, ويرسم منهج
الحياة المثلي في مجال العبادات والسياسة
والمعاملات والسلم والحرب.. كل أولئك في
قواعد كلية تاركًا التفصيلات,
ومفردات التطبيق للأجيال والمجتمعات المختلفة, وهذا
دليل علي مرونة الإسلام وخلوده, وعالميته.
ولننظر إلي "الشوري" مثلاً فهي قاعدة
قرآنية (وشاورهم في الأمر),
و(أمرهم شوري بينهم), وهي قاعدة عامة فرسول اللّه صلي
اللّه عليه وسلم يقول: "ما خاب من استشار", وهي - بصفة أخص - قاعدة سياسية في
الحكم, أما الصورة العملية لهذه القاعدة
"الدستورية" فمتروكة - في تنظيمها
-
للقوانين المفصلة التي تختلف باختلاف الدول: فقد يكون التمثيل النيابي في مجلس, أو
مجلسين. المهم أن تكون الشوري حقيقية بلا ادعاء, أو تزييف أو تزوير.
ولننظر إلي
قاعدة اقتصادية قرآنية وهي "الإثبات بالكتابة في
قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً
فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ
بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ
أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا
يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ
كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ
اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا
بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَلَّا تَكْتُبُوهَا
وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا
شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيم} [البقرة: 282] وهي أطول
آية في القرآن الكريم كله,
ويحمل نص الآية - كما ذكر الشهيد عبد القادر عودة
-
عددًا من المبادئ التشريعية, والنظريات الفقهية من أهمها:
أ - نظرية الإثبات
بالكتابة.
ب - نظرية إثبات الدين التجاري.
جـ- نظرية حق الملتزم في إملاء
العقد.
د - نظرية تحريم الامتناع عن تحمل الشهادات.
ومن مزايا الأسلوب
القرآني أنه يربط هذه "الأوامر"
الدنيوية بالحس الديني, فنقرأ في سياق الآية(
وّلًيّتَّق الله َ رّبَّه) وقوله تعالي:
(واتقوا
اللّه), فتقوي اللّه هي أقوي
الضمانات للحفاظ علي حقوق
الآخرين, وليرجع حجازي إلي كتاب التشريع الجنائي الإسلامي
للشهيد عبد القادر عودة (م (1) ص 36 – 55 )
نعم: الرسول زعيمنا
والإخوان يهتفون
"الرسول
زعيمنا" أو "الرسول قدوتنا" , وتري حجازي يرفض أيضًا هذا الهتاف مكررًا
كلامًا مستهلكًا ردده من قبل علي عبد الرازق,
وتبناه سعيد العشماوي, ويقع حجازي
أيضًا في خطأ التسوية بين محمد
صلي اللّه عليه وسلم - في طبيعة الرسالة وطوابع
الشخصية والأنبياء السابقين,
وهم علي حد قوله "لم يكونوا زعماء سياسيين" , ويقول "فما
دامت الزعامة المقصودة زعامة سياسية, فالرسول لن يكون زعيمهم أبدًا". ثم يري أن
مواضعاتنا السياسية والاجتماعية حاليًا لا تتسع
لمثل هذه الزعامة, ولمثل دولة
الرسول. وهنا أري "علي عبد
الرازق" يكتب بقلم السيد أحمد حجازي. وقد نقضتُ بتفصيل
هذا المنطق الغامط المغالط في كتابي المتواضع "المعارضة في الإسلام بين النظرية
والتطبيق". وما رأي السيد حجازي في الكلمات الآتية
لكتاب غربيين مشاهير?
-
يقول
توماس أرنولد: كان النبي محمد في نفس الوقت رئيسًا
للدين, ورئيسًا للدولة.
-
ويقول فتز جرالد: ليس الإسلام دينًا فحسب, ولكن نظام سياسي أيضًا.
-
ويقول
ستروثمان: الإسلام ظاهرة دينية سياسية, إذ أن مؤسسه
كان نبيًا, وكان سياسيًا
حكيمًا, أو رجل دولة".
ويري حجازي أن هذا الهتاف يجعل الإخوان يؤمنون بأن مرشدهم
تتجسد فيه زعامة الرسول, ويصبح
في نظرهم معصومًا من الخطأ, فلا يجرؤ أحد علي
مخالفته أو مناقشته لأنه رجل
مقدس".
وهو كلام صغير يسبح في جو من "الدخان
الأزرق" فالإخوان لا يعرفون
"تقديس" العباد, ومرشدوهم ابتداء من حسن البنا إلي
محمد عاكف يغرسون في نفوسهم عمليًا
هذا المعني, وهم يأخذون بمبدأ الشوري في
اختيار المرشد . ولهم قانونهم
الأساسي المفصل الذي ينص علي ذلك, هداك اللّه يا سيد
حجازي, وأنار بصرك وبصيرتك.