تأصيل المجزرة

صلاح حميدة

[email protected]

تثور كل فترة من الزمن ضجة لا تلبث أن تخمد حول إفتاء حاخامات يهود بقتل العرب وإبادتهم، وحرق وتدمير بيوتهم ومحاصيلهم، وكتب الكثير من الكتاب عن الموضوع، ونسب الكثير منهم هذه الدعوات والفتاوي إلى نصوص تلمودية وتوراتية تدعو لقتل (الأغيار) من غير اليهود.

من المسلم به أن النصوص الدينية، والفتاوى الحاخامية، لها دور كبير في تأصيل عقيدة وممارسة المجازر، من قبل العصابات والدولة والأفراد في المجتمع الصهيوني، منذ بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين وحتى اليوم، وبالتأكيد من يقرأ تلك النصوص ويتفكر فيها، يجد فيها حضاً واضحاً، على قتل ( الأغيار) صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وحرق وتدمير كل ما يمت للحياة بصلة، وبالتأكيد من يشاهد الأفعال على الأرض، يكتشف أن تنفيذاً حرفياً لما أمر هؤلاء بفعله قد تم.

بالتأكيد أن لفكرة وتنفيذ ومنفذي المجزرة دوافع أخرى، ومن أهم دوافع تنفيذ المجزرة بحق الفلسطينيين تحديداً، والعرب عموماً، هو العنصرية، فالعنصرية لها دور كبير في تمجيد الذات وتحقير الآخر في الدين والعرق واللغة والحضارة، فكل الأنظمة والحركات العنصرية، تسعى دائماً لنزع الانسانية عن خصومها، أو (الأغيار) أو الشعوب الأخرى، وبالتالي تصبح مسألة إبادتهم وقتلهم بصورة جماعية بشعة، وبسادية مفرطة، شيئاً طبيعياً، لا يستحق الاحتجاج أو تأنيب الضمير، بل يكون هذا الفعل عبارة عن ( تطهير ) للعالم من هؤلاء.

فالكيانات العنصرية، تسعى دائما لتكون ( نقيّة) من ( الأغيار) وبالتالي يجب تهجيرهم والتقليل من عددهم ومحاصرتهم بأرزاقهم حتى يهاجروا ويتركوا الأرض المستهدفة ل (شعب الله المختار) ولكن هنا تواجه هؤلاء مشكلة مستعصية، وهي تمسك (الأغيار) بأرضهم، ورفضهم تركها والهجرة منها، وهذا التصرف من (الأغيار) في عرف (شعب الله المختار) جريمة ما بعدها جريمة، جريمة تستحق أن يعاقب عليها (الاغيار) بالقتل والإبادة، حتى يهرب من تبقى ولم تصله آلة القتل، وهذا ما عبر عنه أحد قادة العصابات الصهيونية في حرب عام 1948م، بقوله عن مجزرة دير ياسين:-

( لولا دير ياسين، لما قامت دولة إسرائيل)

إذاً اقترن تحقيق الأهداف الصهيونية العنصرية، بإبادة الشعب الفلسطيني، وارتكاب المجازر البشعة بحق المدنيين من رجال ونساء وأطفال، حتى وهم نيام في فراشهم، ولذلك لاحظ الباحثون، أن العصابات الصهيونية حرصت على ارتكاب مجزرة مثل تلك التي جرت في دير ياسين، في مناطق متعددة من فلسطين، وبتوزيع جغرافي مدروس، حتى يهرب أهالي القرى المجاورة لتلك القرية التي ارتكبت فيها تلك المجزرة، أملاً بالاستحواذ على أكبر قطعة أرض خالية من أهاليها الأصليين لإقامة دولتهم عليها.

الإيغال في الجريمة، سبب آخر لارتكاب المجازر، فالدولة العبرية والمجتمع الصهيوني قامت على أرض الغير، وهذا الغير يسكن الصهيوني في بيته ويعيش على أرضه، ويزرعها ويتنقل عليها، ويستبدل أسماءه مكان أسمائها، ويضع موتاه مكان موتى الفلسطينيين، ويضع كنيسه مكان مساجدهم، وهو بادر بقتلهم في كل مكان وجدهم فيه منذ وطئت أقدامه أرضهم، وبالتالي فهو مخير بين خيارين، إما أن يعترف بجريمته ويكفّر عنها، وإما أن يستمر في ارتكابها، وهذا يتطلب منه الاستمرار في قتل الفلسطيني، فكلما يرى الفلسطيني، يتذكّر جرائمه بحقه، وكلما رأى الفلسطيني، يعلم يقيناً أن هذا الفلسطيني سيحاسبه يوماً ما على ما ارتكب بحقه من مجازر واضطهاد، ولذلك يقوم بارتكاب المجازر أملاً بإنهاء هذه الدائرة بإبادة الطرف الثاني من معادلة المجزرة، ويصاب بالهلع كلما قرأ عن الزيادة الديموغرافية، و معدل الولادات الكبير عند ( الأغيار) ولذلك برزت مؤخراً قضية فتوى الحاخامات بقتل الطفل الفلسطيني الذي من الممكن أن يشكل في المستقبل خطراً على اليهود؟!.

خوف اللص، من الطبيعي أن حالة من الخوف والهلع تلازم اللص أينما ذهب، من أن يضبط ويحاسب على سرقته أملاك الآخرين، كما أن أول ما يقوم به اللص إذا ضبط متلبساً بالسرقة هو محاولة قتل، أو قتل صاحب المال المسروق، وبالتالي ممارسة القتل فعل ملازم للسرقة غالباً، وعندما يعيش اللص مع هذه المخاوف، لا يعتمد إلا على سلاحه للدفاع عن نفسه، وعن غنيمته المسروقة، ويعيش دائماً تحت شعور الخوف من سيف المحاسبة، ويطلب دائماً الأمن والحماية حتى لو امتلك أكثر أسلحة الأرض فتكاً، وحتى لو تجندت له قوى عالمية وأخرى إقليمية ومحلية لحمايته، ولذلك يلجأ للقتل المجزرة للخروج من حالة الخوف الدائمة من صاحب الحق المسلوب، أملاً بشعور زائف بالأمن، سرعان ما ينقضي بعدما تجف الدماء ويهدأ غبار القصف.

الغرور والشعور الطاغي بالقوة، يفقد القوي المغرور توازنه عندما يجد من لا يملك إلا القليل من القوة، والكثير من الإرادة، والإيمان المطلق بعدالة القضية، يقف في وجهه ويرفض الاستسلام لمطالبه ورغباته، وهذا يدفعه لارتكاب المجازرة بحق الطرف المقابل، ويكون غالباً هذا التصرف دموياً بشكل كبير جداً، ويتم فيه قتل وتدمير عشوائي لا يفرق بين صغير وكبير أو مدني وعسكري، ويكون الهدف النهائي لهذه المجزرة البشعة، هو كسر إرادة الخصم العدو مهما كان الثمن، وهذا ما اصطلح على تسميته صهيونياً ( عقيدة الضاحية).

الإفلات من العقاب، كلما شعر المجرم بقدرته على الإفلات من العقاب، زادت شهيته لارتكاب المجازر بحق الآخرين، وهذا السلوك ملازم لكل من ارتكبوا المجازر عبر التاريخ، وليس صفة ملازمة لمرتكبي المجازر الصهاينة، فالخلل الواضح في موازين العدل الدولية، ومحاسبة أناس والاستماتة في حماية كبار المجرمين ومرتكبي المجازر وتغطيتهم ومنع اعتقالهم ومحاسبتهم ومحاكمتهم، شكل هذا دعوة مفتوحة لهؤلاء لارتكاب مجازر أخرى وبدموية أكثر من سابقاتها.

من الواضح أن التأصيل للمجزرة في الفكر والذهنية والممارسة الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب، لا تتعلق فقط بالنصوص الدينية، ولا بالتعامل الخارجي المتواطىء مع المجزرة فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى منهج نفسي وتربوي وثقافي وسلوكي وبنيوي متأصل في هذا الكيان وسكانه، ما دام موجوداً، فهو كيان قائم على فكرة المجزرة والقتل والإبادة كما سلف وأشرت، وعل لسان مؤسسيه وقادة ومنفذي هذه المجازر.