تجهيز الجيش المغوار لمقارعة الاخطار

م.نجدت الأصفري

[email protected]

جاءنا عقيد شاب  مسرح من الجيش السوري اطلقنا عليه اسم(الجنرال) يبحث عن عمل يسد به احتياجات اسرته الكبيرة فإن راتبه التقاعدي لايكفيه قيمة الخبز لهم. فغادر البلاد قادما لبلاد (الاستعمار) يبحث عن عمل وترك خلفه عائلة هي بامس الحاجة الى وجوده بجانبها مربيا وموجها وحاميا لاسرته في زمن ساء فيه الخلق وتفشت الفحشاء وحلت الرزيلة وغابت الفضيلة لكن ضغط الحاجة جعلت صاحبنا يترك اولاده المراهقين في رعاية امهم وينطلق بحثا عن لقمة العيش في بلاد ظل رؤساءه يحشون في رؤوس افراد الجيش انها (الاستعمار اللعين)

اتصل بي ابن عمه الذي تجمعني به صداقة طويلة يرجوني مساعدة ابن عمه الذي لايحسن لغة او مهنة . وعلى العادات العربيةاستقبلناه واكرمناه ووجدنا انه شاب في منتصف الاربعينات سامي الاخلاق بسيطالتصرفات رضي النفس سكوت إلا اذا سئل متواضع في التعامل مع كل من عمل او عاش معه.

عرضته على صديق (ميكانيكي) عندما عرفت انه كان مسؤولا عن صيانة الدبابات في الجيش وقدرت انه لابد يعرف اقل مايمكن من الامور الميكانيكية التي ستساعده ورجوت صديقي ان يصبر عليه ويساعده ليتجاوز المرحلة الاولى حتى يتأقلم مع العمل الجديد، لكن صاحبنا لم ينجح بسبب عدم معرفته ( اسماء العدة وقطع الغيار) وهي الف- باء المهنة فقد حفظها بتسميات سورية اصلها (فرنسي) بينما لايعرفها هنا احد، اضطررنا لارساله لعمل آخر ، ثم آخر... وهكذا تنقل في اعمال كثيرة حتى استقر به المقام للعمل في مطعم (سائقا) لتوصيل الطلبات للزبائن في منازلهم.

علمه بواقع حاله وضعف كفاءته وانعدام اللغة لديه للتفاهم مع الاخرين فرض عليه العمل لدى افراد الجالية العربية ، ففرض على نفسه عدم المشاركة في اي حديث قد يجلب عليه الاختلاف مع الاخرين  وبالتالي غضبهم وفصله من عمله لديهم ، قلة الكلام رافقها اخلاص وأمانة في العمل والمشاركة في كل شيء يستطيع عمله ( كالتنظيف، والتجهيز) جعلته يكتسب رضا صاحب العمل ويسكت عما سواه مما عددنا سابقا من الكفاءة واللغة.

هذه المواصفات جعلت صاحب العمل يثق به ويعطيه نسخة من مفاتيح المحل فيسبقه لافتتاح المحل لعمل  الضروريات (التنظيف والتجهيز ) قبل افتتاح الابواب امام الزبائن.

مع استمرار الاحتكاك وطول العشرة  وتقديره للخدمات التي قدمناها له وصبرنا عليه بدأ يشاركنا الاحاديث عن الماضي وهموم الوطن والمواطن وإذا به مصدر ذاخر بالمعلومات عن الوطن والمواطن وخصوصا الجيش الذي امضى فيه فترة طويلة من حياته. حدثنا كثيرا عن مخازي الجيش المغوار في بلاد الجوار ، فحدثنا كثيرا عن (الابطال) غازي كنعان ، ورستم غزالة، وجامع الجامع، ومحمد خلوف ...الخ الشلة نفسها التي اصبحت مشهورة بالفساد ونموذج لخيانة الامانة والمهمة التي يجب ان يتحملها ويحافظ عليها كل من انتسب للسلك العسكري مهما كانت رتبته وتزيد كلما ازدادت رتبته وعلي مقامه ، لكنهم اعطوا نماذج سيئة عمن اعتلى منصبا بسبب القرابة والولاء لا للكفاءة والاخلاص.كانت مهماتهم يمكن حصرها في الامور الشخصية الوضيعة ( سرقة ، رشاوى، اغتصاب) يحميهم نظام مجرم ويحوطهم عشرات الآلاف من العسكريين على اختلاف رتبهم وسلوكهم ، ولكنهم تعلموا منهم ان البازار قائم والفرصة سانحة والساحة تتسع كل الحرامية وعديمي الضمير، فهل يستطيع الرئيس ان يحاسب مرؤوسه على جرم يرتكب هو مثله امام الجميع كل لحظة؟

لم يكن للبنان اية مصلحة في وجودهم على ارضه لا من قريب او بعيد إلا ما اتصل بإتفاق الطائف الذي استخدمه النظام السوري قميص عثمان ليطبق على صدور الشعب والبلد حتى اذهق روحهم ودمر كل شيء في لبنان.

ألم يكن ذلك واضحا في اجماع كافة اللبنانيين على اختلاف انتماآتهم ومذاهبهم وقفوا جميعهم يطالبون بخروج حميع السوريين مدنيين وعسكريين من بلدهم ، فقد كفروا بألاخوة المزعومة التي تبيح للاخ ان يفعل كل الفواحش في اخيه بحجج سخيفة ومبررات واهية. ولعل قادم الايام (إن كان في العمر متسع أن نتكلم ببعض ما نعلم عن الاعمال القذرة والوضيعة التي مارسها النظام وازلامه ضد شعبنا الحبيب في لبنان)(انظر سلسلة مقالاتنا عن الجيش المغوارفي بلاد الجوار).

اما ما يمس عمل هذا الجنرال في سلاح المدرعات ومسؤوليته عن صيانتها الميكانيكية فهي قصة طريفة بمقدار ما هي مؤلمة نسردها عليك اخي القاريء كما رواها وإن كنت اميل لتصديقها بما عرفت عنه خلال العشرة الطويلة:

سرى في اللواء خبر قدوم رئيس الاركان في زيارة تفقدية ، فتحرك الجميع خلافا للعادة من الفوضى والتسيب فإذا تنظيفات هنا وترتيبات هناك والآمرين على رؤوس المأمورين يوجهونهم  خصوصا في القيافة والهندام فبدى كل شيء قد تغير ونظف... في صباح يوم الزيارة تواجد جميع المنتسبين من افراد وقواد بثياب نظيفة واحذية لامعة لم نرها هكذا منذ سنوات. ولم يتغيب عن الحضور احد فقد منعت الاجازات والغياب لأي سبب كان، وشعرنا فعلا ان هناك شيء ما غير اعتيادي يجري في الافق.

دخل طابور طويل من السيارات الفارهة، في المقدمة ( رانج روفر) يحف بها راكبوا الدرجات النارية من افراد الشرطة العسكرية ، خلفها كل انواع المرسيدس الحديثة بلون اسود وشبابيك غامقة تتيح للراكب ان يرى من في الخارج دون ان يستطيع من في الخارج ان يرى من بداخل السيارة، ثم تلى سيارات المرسيدس سيارات بيجو للطبقة الثانية من المرافقين بالوان متعددة واحجام مختلفة، وهكذا حتى انتهى الركب الى ساحة العلم الذي يرفرف مبتهجا بالحدث الغريب. توقف قادة الطابور عند اطراف  ساحة العرض وترجل الضيوف معظمهم من الوزن الثقيل والحجم الضخم تكاد تتفزر ملابسهم التي ضاقت عن اجسامهم وبدأوا يتمايلون كمشية البط الى حيث ينعقد الاجتماع المهيب.

اعطى قائد التشريفات ايعاز بدء الحفل بتحية العلم وتقديم السلاح للزائر الكبير يرافق ذلك عزف موسيقي من فرقة موسيقى الجيش والقوات المسلحة التي لا تستخدم الا في مثل هذه المناسبات الهامة. تقدم قائد اللواء بعد ان قدم قائد التشريفات الصف لرئيس الاركان يصافح الضيف الكبير مع تحية عسكرية( راقية) ، ارتجل رئيس الاركان كلمة حماسية الهبت اكف الجميع تصفيقا واطلاق صيحات التأييد والولاء واطاعة العمياء خلف قيادة رشيدة . ومما قاله وهو يشير بيده للجنوب الغربي تجاه الجولان وفلسطين:

هناك اللقاء، هناك الفداء، هناك البقاء

هناك تهفوا القلوب، هناك لقاء المحبوب

هناك الامل ، هناك العمل

هناك ميدان الفدى، هناك سنلقى وندحر العدى

واطال واطنب وشرق وغرب وقاتل بدونكوشيته وبهلوانية اجاد فيها فصارع دواليب الهواء ، وحرر الاقصى والجولان وتبعهم بفلسطين والاسكندرون وخفت ان يصل للاندلس، واعاد للاذهان وحدة بلاد العرب من المحيط إلى الخليج ورمى مسؤولية تحريرها على عاتق الجيش العظيم الذي رباه الرئيس الخالد الاوحد ، جيش البعث القائد الذي يرعب الاعداء ويقض مضاجعهم، ينامون في هلع ويستيقظون في فزع من هذا الجيش القدير وافراده المغاوير الاشاوس والابطال. وانتهى الى:

اهنأكم .. اهنأكم .. اهنأكم من كل قلبي فإن خوفهم منكم ومن رجولتكم يحرمهم النوم

( كل هذا الهراء لم يزد على انه مجاملة رخيصة هدفها التباهي الكاذب لرفع المعنويات المنهارة وقبض مهمة  زيارة الجبهة)

لكنه بعد هذا الغوغاء قال:

وقد قررنا البدء في الاستعداد للتجهيز الكامل للمعركة الحاسمة القادمة وسوف تكون حاسمة  

  فاستعدوا ان امتكم التي اختارتكم لهذا الشرف العظيم تتطلع اليكم وكل فرد منا ومنكم عند مسؤوليته القومية والوطنية ان شرف الامة معلق بذراعكم يا أشبال الاسد .. يا حماة عرين الاسود يا رافعين شعار البعث العظيم....

وانفض الحفل وتوجه المحتفى بهم الى النادي يتناولون الوان الطعام الذي احضر من افخر الطاعم في العاصمة

وانحصر الاجتماع على القيادات وذهب الجميع الى مكاتبهم واعمالهم منتظرين ان يغادر الوفد لتعود الامور الى ما كانت عليه من الفلتان.

بعد فترة جاءني قائد اللواء مسرعا متحمسا منفعلا ... عقيد... اكتب لائحة بحاجتك للصيانة من المعدات وقطع الغيار التي تلزمك للدبابات،والمدرعات، والمجنزرات ،وناقلات الجنود ،والشاحنات ، وسيارات الخدمة .. يعني كل ما نحتاجه للمستقبل ، للمعركة القادمة انها كما سمعت معركة المصير.فماذا تريد؟؟؟

فغر فاهه دهشة عندما سمعني اقول .... لا شيء*******

صاح .. ماذا تقول ؟؟ لا شيء؟؟ ماذا تعني بلا شيء ؟؟ هل كل شيء عندك تمام؟؟قلت طبعا ألا تعرف؟؟ قال وماذا اعرف؟؟

قلت له : اكثر من 36 تقريرا خلال هذه السنة سلمتك اياها باليد ، اشرح لك فيها احوال آليات اللواء من الناحية الميكانيكية والجاهزية ......

قال خلينا الآن من التقارير السابقة فماذا تريد ؟؟ لقد وعدتهم بإرسال جميع الطلبات اليوم على عجل، يبدو ان الجماعة قرروا الدخول في الحرب فقد آن الآوان لتحرير الجولان؟؟؟؟؟؟؟ لقد سمعت معي حماس رئيس الاركان والقيادة فقل ما تريد بلائحة واحدة مهما كان طولها او قيمتها لا يهمك شيء بس اطلب وكل طلباتك ستنفذ....

هزني هذا الموقف الغبي فقفزت تجاهه متمنيا ان اصرعه وسحبته من يديه الى خارج المكتب واتجهنا الى ورش الاليات  ومرابض الدبابات ومرآب السيارات لاريه بعينه بعد ان عجزت في الكتابة اليه على مدى عام كامل منذ انتقلت الى هذا اللواء اللعين..

رأى الدبابات بلا جنزير والشاحنات والآليات  بدون اطارات(دواليب) وحتى بدون كراسي . وجميع الآليات بدون بطاريات... ملخص ما رأى هياكل عظمية لآليات كانت تسمى معدات لجيش حي قبل ان تصل اليها ايدي اللصوص من افراد القوات المسلحة الاشاوس يأخذونها إما لسياراتهم التي يسرقونها من لبنان والتي بلغت مئآت الالوف، او ليبيعونها خردة لمعادن يعاد صهرها او تصديرها للاسواق العالمية.

فلما رأى ولم يبدو عليه اي مظاهر الاستنكار والاستغراب قلت اريد سيفا حادا اقطع ايادي السارقين ورقاب المسؤولين واستبدال القيادة باناس قلبهم على الوطن.....

سكت وهو مطرق ، فظننت انه تأثر بكلامي، لكنني بعد ايام بلغت نبأ الاستغناء عن خدماتي.