الطريقة الكوكية في الحوار

بدر الدين حسن قربي /سوريا

[email protected]

ليس غريباً أن حلقة الاتجاه المعاكس منذ عشرة أيام على فضائية الجزيرة كانت مثيرة، وأن جدليتها كانت مختلفة عما عرفناه في حلقات سابقات، فموضوعها الجدلي واللافت عن النقاب بين العادة والعبادة، وموقف  فضيلة شيخ الأزهر في إحدى معاهد البنات كان القشة التي قصمت ظهر بعير مخالفيه.  

أحد طرفي المعاكسة في الحلقة كان الشيخ الدمشقي عبدالرحمن الكوكي الذي كان المخالف في الرأي لما ذهب إليه الشيخ محمد سـيد طنطاوي، وبدا أنه صاحب طريقة حوارية ومدرسة يمكن أن تنسب إليه بامتياز.  

ابتداءً، قيل أن الشيخ كان ضيفاً على مؤتمر في دولة قطر يعتني بحوار الأديان، فدعي هنالك إلى الحلقة الفضائية ليكون طرفها الشرعي والفقهي.  ومن ثم فإن مما يحضر للذهن بداهةً أن رجلاً مهتماً بحوار الأديان، فهذا معناه اهتمامه وعنايته الدائمة البحث عن نقاط الالتقاء ونزع فتيل التوترات والتعايش مع الآخر رأياً وموقفاً، والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن مارشّحه لمثل هذه المؤتمرات الحوارية افتراضاً هو تميزه وتمتعه بقدرة حوارية عالية، سمتها صبر وسعة صدر وهدوء ورصانة، وامتلاك لناصية كلمة تكون مِطواعةً بين لسان وشفتين، فتخرج بإذن ربها عسلاً فيه شفاء من التنابذ والتناحر والتباغض، أو لبناً من محبة ومودة ولباقة يكون سائغاً للشاربين في التعاطي مع ناسه من حوله وأقرانه من العلماء والمشايخ فضلاً عن مخالفيه في الدين والملّة.

ماكان من أمر الشيخ الكوكي، أنه قال كلاماً ليس حوارياً عن فضيلة الشيخ الأكبر مخالفه في الرأي، فذكر أن ماجاء على لسان شيخ الأزهر الشريف هو طرح صهيوأمريكي وهو جزء من الحملة الصهيو صليبية على الإسلام، وأن مافعله هو خيانة وجريمة ضد الإسـلام، وأنه اختار توقيت الحملة تزامناً مع تقرير غولدستون للتغطية على مايفعله اليهود في الهجوم على الأقصى، والتشويش على المصالحة الفلسطينية والتستر على الخونة.  مضيفاً أن مايسمى شيخ الأزهر اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم، وأنه يتولى منصباً لايستحقه. وأن حقيقته ليست إلا الرويبضة بمعنى الرجل التافه يتكلم في شؤون المسلمين، وأن خطابه يذكرنا بحاخامات اليهود من أبواق السلاطين ووعاظ الحكام، وهو ينفذ أجندة خطاب الفكر الغربي، ونفايات الفكر الإلحادي والماركسي.  ولم يفوت الشيخ الكوكي هذه المناسبة الحوارية في أن يتهم شيخ الأزهر بعلاقته بالماسونية وأندية الروتاروي.  كما لم يفوت أن يفتتح حواره المعاكس وبلهجة سـاخرة بالإعلان عن فتح تعزية بوفاة مشيخة الأزهر على الجزيرة نت.  كما لم يفوت الكوكي أيضاً صيحته، أقول لما يسمى بشيخ الأزهر الذي أصبح صليبياً أكثر من الصليبيين: استقل من مشيخة الأزهر، اتركها واذهب توظف عند ساركوزي أو جورج بوش أو لمن صافحته شمعون بيريز.

متابعو حلقة الاتجاه المعاكس بين الشيخ الكوكي والضيف الآخر لاحظوا فيها بوضوح أن ماقاله الشيخ الحواري، كان كلاماً خارجاً في سياقاته العامة عن أدب الحوار وإيضاح الرأي فيما هو بين العلماء، قصّ فيه الشريط إيذاناً بمرحلة جديدة في زمن جديد لمواجهة بين العلماء والمشايخ أنفسهم ولو من طرف أو اتجاه واحد ، تُفرد فيها الملاءة، ويَشتغل فيها الردح (واللي مايشتريش يتفرج) على الطريقة الكوكية وعلى الفضائيات أيضاً. 

ولئن اعتادت جماهير الناس على خطاب أنظمة قامعة مستبدة فيه مثل هذا الردح ( شندلةً) وبهدلةً واتهاماً بالتخوين والعمالة لمعارضيهم ومخالفيهم في الرأي، فإن الجديد هو استعمال شيخ لمثل هذا الخطاب والمفردات في مسأله فقهية بسيطة تجاه عالم آخر له مكانة واعتبار كبيرين في أنحاء المعمورة، وذلك عندما تجاوز البحث والنقاش الموضوعي ليربطها بالمؤامرات الصليبية واليهودية وحروبها وقضية فلسطين والماسونية بما فيها تقرير غولدستون فضلاً عن التخوين والتجريم وحتى تعطيل المصالحة بين الفلسطينيين أنفسهم

ولئن كان من عادة السادة العلماء والمشايخ أيام زمانٍ غير زمن (الكوكي)، أنهم يتكلمون بكلام كله ضبط وربط، لو عدّه العادّ لأحصاه إيماناً بمسؤولية الكلمة، ولايرفعون الصوت بأكثر مما يحتاج إليه مستمعهم لسبب أو آخر، حتى أنهم أسسوا لذلك أدباً، منْحاه وسمْتُه ضبط الكلمة وانضباطها وسموها وتهذيبها، أسموه أدب العالم والمتعلم.  فماذا يمكن أن يقال عن كلام فيه مافيه من المسؤولية الشرعية بل والمدنية الشيء الكثير الكثير.

قد يعقب على مثل هذا الكلام من ينتقد بعض مواقف الشيخ الأكبر ويؤيده بحقه  في حرية الرأي والتعبير وما إلى ذلك، ونحن معه فكل امريء يؤخذ من قوله ويرد، وإنما لسنا معه على أيتها حال في الطريقة الكوكية في كلام فالت من دون ضبط أو ربط بعيداً عن الوزن والميزان و(الدوزنة والدوزان)، ولاسيما أننا في مقامات الكبار من علمائنا وفضلائنا خلافاً وحواراً واتجاهاً معاكساً مطالبون بوزن مانقول أدباً وتهذيباً، لباقة ولياقة، فضلاً عن عامة الناس وجماهيرهم.  وعليه أيضاً، فإننا لانريد أن يُفْهَمَ كلامنا دفاعاً عن أحد البتة بل حقيقته رفضاً للطريقة الكوكية في الحوار أو للحوار على الطريقة الكوكية، يتكلم فيها من يتكلم على كيفه من دون ضبط أو ربط على طريقة الردّاحين بعيداً عن الاحترام والتقدير وأدب الباحثين والعلماء.