ساعات بعد الكارثة ..

د.محمد سالم سعد الله

ساعات بعد الكارثة .. 

د.محمد سالم سعد الله

[email protected]

توجهت إليّ قاصدة السؤال عن المبدع العراق ، مستفسرة عن واقعه الإيقاعي اليومي في ظل ساعات قبل وقوع الكارثة ، مسترسلة في تقديم الأسئلة ، التي لم تشأ الاستئذان ، ولم تقبل الإجابة ، لا لشيء سوى تأخرها عن الموعد الذي قرره : ( بوشـ)كيز ( بلير)ـخان .

قالت لي إنها الأسطورة التي تشكل اللوحة الغرائبية ، وتقطع فحولة الماضي ، وصمودك أيها القرار أسطورة تقتطع مشوارها من داخل المضارعة الزمنية ، لكنها التفتت بألم : ( محمد ) !، نعم يا عربية ، هل سقط مفهوم الأسطورة لمجرد تخدير المبدع العراق ؟! ، هل نحن على وشك الدخول في حماقة الحرب ، أم نحن في حالة التأرجح بين تحمل الحصار واحتمال الحرب ؟! .

نحن نعاند ونستنكر بشدة ، ونعبر عن قلقنا تجاه دخول القوات الفلسطينية الغازية دولة إسرائيل ! ، وقتل الأبرياء بالصورايخ والقنابل العنقودية ! ـ آسف هذا استطراد ـ لأننا نحث العقل على استنزاف طاقاته ، وادخار ما يمكن ادخاره من المشروع الإنساني ، الذي يدين بولائه عبر أجيال سحيقة إلى العقل الإنساني الأول ، الذي أبدع فقدّم ، فأنتج ، فأثّر ، فبنى ، فأوصل نشاطه إلى أرجاء المعمورة .

تحن الكتابة إلى مهندسيها الأوائل ، الذين رسموا الحرف ، وشكلوا حضارة صورتها ، وأنقذوا منتسبيها من الضياع في متاهات الرموز الجليلة ، التي لا تعرف سوى الإيغال في المدلول كي تحتكر الفكرة ، وتوضع في قوالب لا يتقنها إلا ذو حظ عظيم ، لكن المبدع العراقي ( الآدمي ) لم يرضَ احتكار المعرفة ، ولم يمسك الحرف ويعتقله ، بل أطلق زمامه وحرره من قدسية حركته ، فأعطى للإنسانية إنسانيتها ، ومنح اللغة إبداعها ، وزيّن اللسان بكمال اللفظ والنطق والخفة .

لكن هل سيلتقي ذاك المبدع العراقي المجلل بغبار الزمن السحيق ، والقابع وراء مهيمنات السلطة القضائية ، هل سيلتقي المبدع العراقي المعاصر المنشغل بفرار الصمون وفقدان الغاز والبنزين ، ومأساة الدولار الثمين المهين ، والفاعل فعلة السامري ، والراكض على جمر من أحزان وضياع وتمزق .

إليك عربية .. ، وأنت تسمعيـن سطـوري ، وتتشربين العجل كما يحلو لك ، وتتبردين بـ( الواشنطن بوست ، والفاينيشال تايمز ) ، وتبكين على إيقاعات : حبيبي يا عيني يا مسهر عيني بنهاري وليلي ، وتهتفين : بالروح بالدم نفديكم يا حكام ، ولكن ـ ومع تطاول لساني ـ هل توصلت إلى ما يناسبك وقومك من الكساءات البالية ، التي سعت لتطويرنا إلى الأمام ( يس يم ) من خلال الرجوع بنا لقرنين : ( إلى الوراء دُر).

هل نسميها ساعات قبل الكارثة أم الكارثة بعد ساعات ، والأمـر متـروك إليك ، وللبرامج ( الفهلوية ) المساوية للحيل ، والضحك على الذقون ، سأشد على يديك ، وأنقل لك عراقاً خذله العرب ، وخربه الغرب ، ورقص الأمريكان على تفتيش نسائه ، وانزعج لبنان بهتك حجاب صنوبره ، أتريدين المزيد .. ! ، أم أنّ هناك أرواحا لم تكتفِ بعد بميلو دراما الرشيد ، وملحمة كلكامش الشورجة ، وبالمناسبة .. لقد أسعدنا نحن العراقيين قرار ( هوليوود ) نقل خدماتها إلى العراق ، لأنه يشكل فلما عربيا رخيص التكاليف ، مستمر الأحداث ، فنانوه لا يصيبهم التعب ، ولا النصب .  

إن كان قرار حلّ الجيش العراقي يمثل ( كارثة ) ، فإن قرار بناء الجيش العراقي الجديد على الطريقة الأمريكية يمثل ( طامة كبرى ) ، لأنّ هذا الجيش ( الحداثوي ) ـ وكما قيل طبعا ـ  سيُبنى وفقا لبرنامج تدريبي أمريكي ذي صبغة دفاعية بحتة ، ويتعهد بتدريبه شركات عسكرية أمريكية مقابل مبالغ ضخمة من قوت العراقيين اليومي ، وحسبنا أننا سنفيق في يوم من الأيام على جيش قمعي ، لا وظيفة له سوى التنكيل بالجماهير ، إذا أرادت التعبير عن حقها ، انطلاقا من حرية الحرية ، وما يحدث الآن من تدمير لبعض المناطق والمدن في العراق الحبيب شاهد على ذلـك ، ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الجيش قد تمّ بناؤه من ميليشيات ( نفطية ) ، و( عفطية ) ، غرضها إراقة الدماء ، واغتيال ضحكة الحدباء ، واغتصاب بسمة الشهباء .

يبدو أن سمة التماثيل والأصنام وعبادة القبور ، أصبحت مرادفة لذكر الأحداث الجارية في العراق اليوم ، فبعد سقوط تمثال النظام في ساحة الفردوس ، وسرقة تمثال الشاعر عبد المحسن السعدون من ساحة السعدون ، وتفتيت تماثيل الفكر السابق ، يتم الآن تحويل الشعب العراقي كلّه إلى تماثيل جديدة من نوع آخر ، من حيث كونها المشاهد الذي لا يصنع الحدث ، ولا يستطيع التدخل في بناء المشهد ، ولا يمكنه التدخل في صياغة أو اقتراح ، أو إنتاج واقع جديد .

هل تعلمين يا عربية أن الناس عندنا في العراق ، قد انشغلوا بأخبار وصول الفنان الأمريكي ( أرنولد ) إلى بغداد لمشاركة القوات الأمريكية احتفالاتها بيوم الاستقلال ، وقد اختلفت آراء الشارع العراقي حول مغزى الزيارة ، فمنهم من قال بأنه المرشح الأوفر حظا لحكم العراق بعد ( بريمر ) ، ومنهم من قال أنه جاء ليعزز وجوه في صفوف القوات الأمريكية لكسب الأصوات في انتخابات العمدة لولاية كاليفورنيا ، ومنهم من قال أنه جاء ليصور فيلما جديدا عن الآلات الكونية ، ونرى أن هذه الزيارة جاءت لتعكس استياء هوليوود من القوات الأمريكية في العراق ، التي باتت تنافسها في إخراج الأفلام الدعائية الكاذبة والمزيفة حول ذلك المخلص والبطل الأسطوري المثالي الأمريكي ، الذي ينتصر للعدل والحق والحرية ، ولسان حالها يقول : ( خلّيكم بحالكم ، وخلّونا بحالنا ) .

إنّ مما يدمي القلب ويعصر الفؤاد ، أنه في الوقت الذي يقاوم فيه العراقيون النجباء قوات الشر والطغيان قوات الإحتلال ، ويقدم هؤلاء المقاومون دماءهم رخيصة في سبيل تقبيل ترابه العزيز ، ومنعه من أن تطأه أقدام المحتلين ومرتزقتهم وعملائهم ، في الوقت نفسه يقدم البعض حفلات صاخبة مع تلك القوات ، لإحياء يوم الاستقلال الأمريكي على أرض عراقية ، وليس هذا وحسب ، بل عمد بعض النسوة ( العراقيات ) في هذه الاحتفالات إلى تعليم الجنود الأمريكان أصول ( الدبكة ) بوجود الاختلاط طبعا ، وتشابك الأيدي ، والتصاق الجسد بالجسد ، فسبحان الله  أجدادنا علّموا القوات الغازية ، أصول الإسلام والشرع الحنيف ، والبعض منّا يعلم القوات الغازية ـ في يومنا هذا ـ أصول الدبكة والرقص.

أتمنى أن أستلم منك الرد بوساطة القنوات التصريفية الآتية : مملكة جمهورية العراق الممزق ذي السيادة الأمريكية ، محافظة المنخذلين الأحرار ، شارع بيل كلينتون ، زقاق 22 بلد عربي .

وإذا تعذر عليك ذلك صديقتي ، فيمكنك الإرسال على صندوق البريد الآتي : وزارة الرصيف والبريد الزاجل ، جكمجة بريد : 11 / 9 / 2001 ، واحرصي أن يكون العنوان سراً ، أمّا إذا أردت أن تتصلي بي هاتفيا ، فيسعدني القول أننا في العراق ـ وبلا حسد ـ قد استغنينا عن هذه الخدمات القديمة جدا ، وأبدلناها بالتوجه إلى الله  أن يمنحنا الصبر .