عن الصحوة الإسلامية في سورية

عن الصحوة الإسلامية في سورية

محمد الحسناوي

[email protected]

في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن الصحوة الإسلامية في سورية ، كما كثرت الأخطاء في البحث عن أسبابها وطبيعتها وحجمها وتداعياتها ، كأنها مغطس موحل ، أو غابة متوحشة ، لا تمكن الباحث من التعرف الحقيقي عليها ، وليس الذنب في الصحوة ، وإنما في الأقلام والعقول التي خاضت فيها من غير ما أدوات موضوعية للبحث . مع العلم أن الصحوة في سورية جزء من ظاهرة عامة في العالم الإسلامي ، بل المعمورة كلها .

يمكننا أن نصنف الاتجاهات التي حاولت دراسة هذه الصحوة بعد الاعتراف بوجودها ، من خلال الجهات التالية :

·- دراسات غربية من مستشرقين وسياسيين .

·- تفسيرات الأنظمة العربية وحكومات المسلمين .

·-الكتاب والدارسون العرب من غير الإسلاميين .

·- الدارسون الإسلامييون أنفسهم .

وليس غريباً أن تختلف هذه الجهات في منطلقاتها وتفسيراتها ، ولكن من غير المنطق والعدل والإنصاف أن يصل الخلاف إلى درجة التناقض أو الإسفاف ، أو أن يتخلى الدارس عامداً متعمداً عن الإنصاف ، أو أن يستجر إلى الظلم ، أو إلى تنفيذ رغبات ومصالح غير بريئة .

نضرب مثلاً فاقعاً ، ثم ندخل إلى تحليل الدعاوى :

في مقال جديد كتبه صحفي سوري ، دأب من قبل على هذه المعالجة ..تحدث عن وجود عشرة آلاف مسجد في سورية ، مقابل غرفة واحدة للحوار الوطني الديموقراطي ، يعني بها ( منتدى الأتاسي) الذي تم التضييق عليه مؤخراً ، ثم إغلاقه رسمياً ، ومنعه من النشاط الذي كان يمارسه بسياسة ( غض النظر ) لا أكثر . وغرضه أن يدافع عن حق السوريين بفتح نواد ثقافية وتأسيس أحزاب ، وممارسة النشاط الحر،  والتنظيم المدني للأحزاب والهيئات المدنية . لكنه من أجل هذا الهدف الشريف عرَض بالمساجد الكثيرة ، وببعدها ، إن لم نقل ظلمها ، عن الروح الديموقراطية ، أي (من أجل برغوث حرق اللحاف) .

هذا مثل للمعالجة الفجة التي تخدم الأنظمة ، كما تخدم الجهات الأجنبية المعادية بقصد أو غير قصد ، وقد قيل : (إن جهنم مبلطة بأصحاب الحسنة) .

ولا يقل فجاجة عن هذه المعالجة القاصرة ... التعريض بنشاط المساجد السورية والسكوت على الأنشطة الإيرانية التبشيرية علناً في منطقة (الست زينب) في ضاحية دمشق ، والمركز الثقافي الإيراني في مدينة (الرقة ) السورية ، وفي (مبنى المشهد ) الحمداني غربي مدينة حلب منطقة (الأنصاري ) أو ما يسمى (جبل الجوشن ) وبقية المدن والأرياف السورية . نشاط يبدأ باحتفالات (المولد) ويمر بتوزيع جوالق السكر والأرز واللحم ، وبتخصيص رواتب شهرية وزيجات موجهة ، ورحلات ترويحية إلى إيران حيث قبر( أبي لؤلؤة) قاتل أمير المؤرمنين عمر بن الخطاب  ، وتوفير دراسات عالية للطلاب في الحوزات السورية والإيرانية على حد سواء ، ومتى كان في سورية ( حوزات) يا عرب!!

صاحب المقال المذكور ، يقارن بغير إقناع ، بين (الحملة الوطنية الإيمانية ) التي طبقها النظام العراقي السابق ، وبين السياسات السورية تجاه الظاهرة الإسلامية . صحيح إن دستور (البعث) في البلدين علماني ، ولكن لكل بعث تطبيقاته التي جعلتهما يتخاصمان ويتحاربان بأسلحة متنوعة ، على  الأقل خاض البعث السوري معارك طاحنة ضد التيار الإسلامي والتاريخ الإسلامي ، وما يزال يضيق على أنشطة المساجد والمؤسسات الإسلامية لدرجة أثارت بعض مواطني حمص في الأشهر الأخيرة ، فاعتدوا على (مخبر أمني ) متخصص بمسجدهم وشيخهم وتلامذة المسجد حتى قضوا عليه . كما أن هناك مكاتب أمنية متخصصة بالمساجد والعمل المسجدي حتى الآن ، ومعتقلو رواد المساجد هم الأوفر حظاً .

في الثمانينات من القرن الماضي عرف النظام السوري أن القمع الأمني وحده لا يلغي الوجود (الإخواني الإسلامي ) كما تريد مقررات الحزب القومية والقطرية ، فأخرج كتاباً (أسود) من ثلاثة مجلدات يشق الإسلاميين إلى ظلاميين يقودهم أبو الهدى الصيادي فالإخوان المسلمون ، وإلى متنورين يقودهم عبد الرحمن الكواكبي ، ثم اضطر إلى سحب المجلدات الثلاثة من التداول ، لأنه أكتشف أن عبد الرحمن الكواكبي شيخ أيضاً ، وأنه مؤلف كتاب يمكن أن ينسف الحزب الحاكم من أساسه نسفاً ، ألا وهو (طبائع الاستبداد ) .

وإذا  أراد اللهُ نـشـرَ iiفـضيلةٍ
لولا  اشتعالُ النارِ فيما iiجاورتْ

طـويـتْ  أتاحَ لها لسانَ iiحَقودِ
ما كانَ يُعرفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ

فإذا كان النظام العراقي في سنواته الأخيرة فتح المجال للنشاط المسجدي ، فإن شقيقه السوري بسياساته الاضطهادية أيقظ الحس الإسلامي بردود أفعال كانت ضد رغباته ومخططاته . إذن هناك فرق بين قاتل ومقتول يا شعبان .

والسؤال : هل فات على الصحفي السوري أن سبب إغلاق (منتدى الأتاسي) – وهو آخر منتدى سوري يتنفس - هو سماحه للأستاذ علي العبد الله أن يقرأ رسالة المراقب العام للإخوان   المسلمين ، أي إتاحته المجال لوصل الخط السري بين أنشطة المساجد وبين المنتدى الديموقراطي العلماني ، أي بين شرائح المجتمع السوري كلها وفصائله الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء  بما يقوي الوحدة الوطنية والجبهة الداخلية والمعارضة السورية ، وذلك حلم الوطنيين الشرفاء ، وهو ما اعتبره النظام (خطاً أحمر ) .

الأنظمة العربية ، وفي مقدمتها النظام السوري ، تبالغ في وصف الصحوة الإسلامية أمام الجهات الأوربية والأمريكية ، كما تربطها بما يسمى (الإرهاب ) ، لدرجة التعاون الأمني بتسليم آلاف الملفات عن الإسلاميين السوريين ، أو استلام المتهمين من معتقلي سجن (غوانتنامو) لإخضاعهم تحت (التحقيق)الحضاري جداً للاعتراف بجرائم وهمية أو مبالغ فيها ، أو تخدم الآخرين .

الإدارة الأمريكية ، والمحافظون الجدد بشكل خاص ، والكيان الصهيوني بشكل عام ، يتهمون الإسلام كله والمسلمين كلهم بالتطرف والإرهاب (بالفطرة أي بالجينات...) ، ويبحثون عن الذرائع لإلصاق التهمة ، ولتسويغ الحرب العنصرية التي يشنونها ، تحقيقاً لمصالح استعمارية لا علاقة لها بالدين أصلاً .

ولا يقل عن ذلك جهلاً وتجاهلاً من يربط الصحوة بعامل واحد مثل ظهور (الخميني ) تارة ، أو بحرب أفغانستان والأموال الأمريكية ضد الوجود الروسي تارة ، أو بتحالف أنور السادات مع الإخوان المسلمين ضد الشيوعيين تارة ، أو بانتشار الفقر أو الفساد الإداري أو الاستبداد السياسي في بلاد العرب والمسلمين تارات ، ثم السكوت في الوقت نفسه عن عامل أساسي هو (الإسلام) نفسه ، ومواصفاته الذاتية والموضوعية ، أي قدرته على الحياة ، واستجابته لمتطلبات العيش بحرية وكرامة ورفاهية واعتدال أو وسطية ، ورفضه للفساد والاستعباد ونشره للسلام العادل ، وسعة صدره للتجديد والإبداع ، وحله لمشكلات الإنسان المعاصر الروحية والمادية على حد سواء ..

عوداً إلى تحليل الصحوة في القطر السوري .

إن البحث الجاد يمكن أن يكتشف أن الصحوة الدينية في العالم ليست وقفاً على الإسلام والإسلاميين ، فسقوط (الاتحاد السوفياتي ) بقوة عاملين اثنين هما (الدين) و(القومية) أكثر من قوة المخابرات الأمريكية ، و(في الولايات المتحدة تنامى دخول الدين في مجال السياسة ، وكان الحزب الجمهوري أول من رأى الاستفادة من هذه الحركات لبناء قاعدة له من الأنصار .. وتبنى الحزب أفكار هذه الحركة ، ودعا بهمة لتحريم الإجهاض ولمحاربة الشذوذ الجنسي ولتعليم الدين في المدارس ، وغير ذلك من القضايا التي تثير الحمية الدينية ) ( الليبرالية الجديدة – د. رشدي سعيد – مجلة الهلال – أغسطس2005 م ص 21و22) . وحين تكون الظاهرة البشرية عالمية .. يعني أن لها أسباباً عالمية أيضاً .

أما تفسير الصحوة على صعيد العالم الإسلامي ، فيرجع إلى أكثر من عامل ، بعضها يتقاطع مع العالم العربي والقطر السوري ، وبعضها يتقاطع مع العالم بأسره ، لكن ما يخص العالم الإسلامي بالذات ، فيندرج في انقسام العالم إلى قسمين متقابلين ، شمالي الكرة الأرضية الغني الغازي المتقدم المستعمر غالباً ، وجنوب الكرة الأرضية الفقير المغزو المتخلف المستعمَر بفتح الميم غالباً . ثم هناك عامل آخر هو انتشار الوعي الجماهيري بفعل العلم والإعلام وحركات المجتمع المدني . فإذا أضفنا دور القضية الفلسطينية الفاعل عربياً وإسلامياً ليل نهار : عدوان على مقدسات وانتهاك للحرمات واغتصاب للأرض واغتيال للأرواح بأيد تزعم التدين بدين والرؤية التلمودية .. وضعنا يدنا على عامل تحريض للوعي الديني بشكل مباشر .

أما تفسير الصحوة على المستوى الإقليمي العربي ، فله تقاطعاته الخارجية    والداخلية ، ونخص بالذكر : إخفاق الدولة القطرية والمشروع الغربي (الليبرالي ) للنهضة على حساب الوحدة العربية والثقافة الوطنية القومية (الإسلام) .. من حركة (محمد علي ) إلى (الناصرية ) إلى (البعث ) فضلا عن الدويلات الأخرى من جهة ، ومن ثمَّ القضية الفلسطسينية التي استولدت فيما استولدت منظمتي (حماس ) و(الجهادالإسلامي) من جهة ثانية ، والحبل على الجرار . وعلى ضوء ذلك يمكن أن نفسر قيادة العلماء والمشايخ لحركات التحرر الوطني الإسلامية والعربية مثل الأمير عبد الكريم الخطابي في المغرب ، والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا ، والشيخ شامل في داغستان ، والحاج أمين الحسني والشيخ أديب القسام والشيخ أحمد ياسين في فلسطين.

أما تفسير الصحوة على مستوى القطر السوري ، فنبادر إلى التذكير بأن العوامل الداخلية أهم من العوامل الخارجية ، كما أن العوامل الخارجية القريبة كقضية فلسطين والوحدة العربية وسياسات التغريب والتبعية الحضارية ومشتقاتها أقوى من العوامل البعيدة .

أول العوامل الداخلية هو دور الإسلام نفسه  ديناً حياً قابلاً للحياة ولصنع الحياة الآمنة الرافهة العادلة المدنية المسالمة ، ثانيها دور الحركات الإسلامية ، ثالثها إخفاق الدولة القطرية ومشروع النهضة الغربي ، رابعها ردود الفعل على سياسات الاضطهاد والتمييز التي يمارسها الحزب الحاكم في سورية ، خامسها الاستفزاز الصهيوني بالاحتلال وتهويد الأرض المحتلة .

جوهر نقدنا لتفسيرات الصحوة قصورها بالاكتفاء بملاحظة الجانب السلبي القائم على ردود الفعل وحدها ، لكأن الإسلام والحركات الإسلامية جثة هامدة ، لا تتحرك إلا بمؤثر خارجي : مالي أو عنفي أو ما شاكل . وأعجب من ذلك من يلجأ إلى التفسيرات المناقضة ، حيث يجعل قطيعة أبدية بين الإسلام وبين التيارات والعوامل الخارجية ، لأنه المطلوب دائماً إقصاء هذا الإسلام والحركات المعبرة عنه .

ثم هل الصحوة الإسلامية في سورية هي في كثرة عدد المساجد وروادها وحسب ، أم يضاف إلى ذلك وجود كليات الشريعة ، والجمعيات الخيرية ، وحركة الطبع والنشر للكتب والكاسيتات والديسكات للمحاضرات والأناشيد والتنظيم النسوي ( جماعة القبيسيات ) والإقبال على العلم الشرعي والحياة السوية النظيفة ، ورفض العادات والتقاليد البالية من جهة ، والمستوردات المنحرفة من جهة ثانيةً .

حتى رواد المساجد ، وفيهم الخطيب وموضوع الخطبة وأعمار المسجديين ، فالناس ليسوا ملزمين بخطيب معين ، بل يختارون ملازمة من يستجيب لما يعانونه أو يبحثون عنه ، أما الخطيب فيلتمس عادة الموضوعات التي تهم هذه الجماهير، مثل قضايا عامة حول فلسطين والعراق والفساد العام من جهة ، أو إصلاح المفاسد الأخلاقية الفردية والأسرية والاجتماعية . ولو أجريت دراسة إحصائية على المتورطين بمفاسد الحزب الحاكم : من مرتشين ، وفاسدين إدارياً ، ومخبرين ، ولصوص المال العام ، والخاملين في الدراسة والوظيفة على حد سواء .. وجدتهم ليسوا من رواد المساجد .

إن رواد المساجد اليوم أكثرهم شباب من طلاب الجامعات وخريجيها ، وخطباؤهم أساتذة جامعات مثل الدكتور صلاح كفتارو والدكتور محمد حبش والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور وهبة الزحيلي والدكتور مصطفى البغا وأمثالهم في دمشق ، ومثل الدكتور محمود عكام  والدكتور عبد الله السلقيني  والدكتور محمد أبو الفتح البيانوني في حلب . فهل هذا الجيل من المثقفين نبت من ردود الأفعال أم من المبادرات وروح الإسلام الحنيف نفسه ؟ وهل هؤلاء يسعون إلى تخريب المجتمع أم إلى إصلاحه وبنائه البناء السوي النظيف ؟ إن صورة الشاب المدمن على المخدرات المادية والفكرية كالوجودية انتهت في شرقنا العربي منذ زار جان بول سارتر الأرض المحتلة 1967م ، وقال: (لايمكن حل مشكلة فلسطين بإضافة لاجئين جدد من اليهود بالإضافة إلى اللاجئين العرب ) وفهم العرب الرسالة !! وفهموها أكثر حين تخلى في آخر أيامه عن الإلحاد .

هذا طرف من حديث الصحوة والشرح يطول .

              

* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام