حزب الله يساورنا الشك
ميخائيل عوض
توطئة:
قبل نحو 23 عاما، يوم كانت الحرب محتدمة على جنس الملائكة، وعلى توصيف المقاومة: إسلامية أم وطنية، وحرب فكرية وثقافية وإعلامية ضروس تدور حول الظلامية والرجعية، مخاطرها، وحملة الاتهام والتشكيك على أشدها بدوافع وأسباب إعلان المقاومة الإسلامية وتشكيل امة حزب الله، وأهدافها، ومستقبلها، تشكيك يبغي قطع الطريق عليها وتأزيم مسيرتها في لبنان، تجرأنا على كتابة مقال- كتب تحت رصاص الاشتباكات في الصفير، وبئر حسن بين حزب الله والقوى الوطنية، وأمل- مقال: تحت عنوان المقاومة الإسلامية عملية بدر الكبرى فتح استراتيجي في الصراع العربي الصهيوني" قال البعض فيه انه هواجس، وأوهام، واستغرب آخرون أن تأتي شهادة مبكرة من "نصراني ماركسي لينيني" ورأوا فيه جرأة قبل أوانها واستعجال تشريع و إقرار بالمولود الأتي من خارج النص والسياق العام... ما نابنا من المقال شهادة ثمينة تساوي ألف هدية، سيقت على لسان السيد حسن نصرالله بعد سبعة عشر عاما على نشره، بأنه مقال هام لعب دورا في تصليب المقاومة الإسلامية وتعزيز ثقتها بنفسها، شهادة السيد عوضت ما فقدناه من عمر، وبذل في تجارب سياسية وتنظيميه أخفقت وعجزت عن أن تتشكل شيئا مفيدا لأنها حولت نفسها وتحولت إلى مجرد إيقونة تقدس النصوص والشخوص.. ذاتها الأسباب التي دفعتنا لركوب المخاطرة في مقال الفتح الاستراتيجي تدفعنا اليوم لنكتب عما يساورنا الشك بتجربة حزب الله والمقاومة الإسلامية، علنا نسهم كما فعلنا سابقا بالتصويب والتصليب والتصحيح..
النص الكامل للمقال كما أرسل للسفير الغراء التي منت علينا بنشره مع بعض الاجتزاء نشرته السفير على جزئين، 26-9-09 و 24-9- 09
بيروت 17-9-2009
حزب الله يساورنا الشك.. أهي هنات؟ أم عثرات؟؟ مازال الوقت متاح ؟؟
ميخائيل عوض
المقاومة الإسلامية بصفتها العامود الفقري لحزب الله، وطليعة قوى المقاومة العربية والإسلامية، وأنضجها، تجربة مشعة بقيادتها، وأدائها المبدع بعلاماتها الفارقة سيد المقاومة والتحرير.. قائد لا تلد مثله الأمم إلا مرة كل بضعة قرون.. حققت انجازات وانتصارات اعجازية في زمانها ومكانها وظروفها، لا ينتقص منها نقد أو تجريح، ولا يغير في حقائقها نكوص أو تعثر، وان غيرت في مساراتها وموقعها أخطاء وهفوات..
حزب الله جماعة وأفراد ليس معصوما، ولا منتخبا فوق النقد والخطأ، والأخطاء كالعجز إذا تراكمت أوصلت إلى تأكل، والتآكل يأخذ التجربة إلى إخفاقات، والإخفاقات نذير بداية أفول..
من أحكام التجارب التاريخية التي أجادت المقاومة الإسلامية قراءتها والبناء عليها أن الانتصارات والعسكرية منها، مهما كبر شأنها وفرادتها ليست بذاتها وبحدثيتها حاملا لمشروع التغيير الثوري الاستراتيجي، بقدر ما هي مفاتيح لبوابات وطرقات متشعبة ومتعددة الاحتمالات، تعبد طريقا للتغير بعزيمة صانعيها ومراكمة معارفهم، وتعميق معرفتهم للواقع وما يستجد من مهام في شروطها، واستجابة لضروراتها، وإصرارهم على الأهداف التاريخية وتوفير سبلها ووسائطها، وامتلاك برامجها.
فالانتصارات ما أن تتحقق حتى تبدأ نتائجها بالذبول، وتتحول بفاعلية الزمن والتقادم مجرد ذكرى يستقوي بها الناس وبعضهم على تغطية إخفاقاتهم وعجزهم كحال العرب مع تاريخيهم...
حققت المقاومة انتصارات نوعية عظيمة، وفتحت بوابات موصدة، لم يجرؤ غيرها على ولوجها, انتصارات تراكمت وأنتجت نصرا غير مسبوق، وحفزت على انتصار المقاومات في غزة، والصومال، وأفغانستان وبغداد... غير أنها وانتصاراتها لم تشكل بعد عناصر وقواعد ارتكاز لمشروع النهضة التاريخية الواجبة بعد انجاز حقبة الدفاعية والمقاومة، فعجلة الأحداث، والمتغيرات المتزاحمة خطفت بريق الانتصارات، وحولتها ذكرى لا تعيد الشباب إن طغى المشيب..
العثرات الداخلية هل هي نتاج سياسات وتكتيكات أم مؤشرات عجز وأزمة؟؟
في منطق التاريخ والمقاومة حقائق ثوابت على مر الدهور واختلاف الأزمان، والأماكن: لا فصل بين الوطني والقومي مع السياسي الاجتماعي الاقتصادي، وان وقع فصل تهزم المقاومة وان انتصرت بالسلاح، تلك هي تجربة المقاومة الفرنسية ويسارها، والمقاومات العربية بأطيافها المختلفة، ولا توافق بين القديم والجديد، فالمقاومة تصارع المحتل حتى تصرعه، وتلزم بإدارة صراع مع أدواته، ومخلفاته، يلوذ المحتل بقوى محلية ينصبها أكياس رمل لحمايته، ثم يسندها لتسد فراغه، ويعززها لترث ما أمكنها ويدعمها لتكون أداته في إدارة البلاد المحررة بالتقاسم مع من قاوم أو في حال رفض المقاوم أن يحكم، لتحكم بنفسها وبالوكالة عن المحتل، وفي الإجمال يختصر تاريخ المقاومات برمتها بقانون تاريخي مفاده أن المقاومة التي تنتصر ولا تحكم تسحق وتندثر..
في تتبع مسارات المقاومة الإسلامية وعلاقتها بالحكم، وبادرة الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان، وإدارة الصراع في المنطقة العربية يمكن تسجيل ملاحظات قاسية مازلت محل نقاش واختلاف بعض مصادره خاصيات وتعقيدات المسألة اللبنانية والفلسطينية والعربية، لكنها في الخلاصة لا تشذ عن القوانين التاريخية ودروسها في المقاومة والحكم..
المقاومة الإسلامية بدأت قصووية، راديكالية بشعاراتها، وممارساتها بما في ذلك التدخل في شؤون الحرية الشخصية للناس، ثم تغيرت حديا بعد حرب إقليم التفاح فصارت براغماتيه وتكتيكية في شعاراتها حتى تعلبت بعلب محلية كيانية، واقتربت من أن تتعلب بعلبة مذهبية ومناطقية كما صار بعض خطابها على اثر هزيمتها والمعارضة في الانتخابات اللبنانية 2009، وكما هو حال ممارساتها الإنمائية والاجتماعية مذ تشكلت..
رفضت المشاركة في الحكم، ثم ترددت وشاركت في المجلس النيابي، وزهدت بالحكومة ومؤسسات الدولة التنفيذية، فاضطرت بعد خروج السوريون للمشاركة بحذر، وتوجس، واستمر نهجها ورغبتها بان لا تكون شريكا في الحكومة تتبرع من حصتها الطائفية للحلفاء أو لمن رغب شرط أن يحفظ المقاومة ولا يقارب سلاحها بسوء، وتقاسمت مشروعي لبنان المقاومة بالأعمار كما تسميه في حقبة الحريري الأول مع الليبرالية الهمجية ومشروعها الاستراتيجي وسعت وتسعى إليه مع الحريري الثاني، ومهمة التحرير بالمقاومة بالسلاح وقد تنكبت المسؤولية وصممت وأنتجت النتائج التاريخية، بل وحاذرت تحميل كلفة التحرير والدفاع للدولة وتحملتها وحملتها لحلفائها والمتبرعين لها من سعات الخير وأهل البر والتقوى..
ترددت كثيرا في الانفتاح على الغير، وانفتحت على أنها صاحبة مشروع وطني لجميع اللبنانيين تقدمة هدية من المذهب الملزم بالتحرير بسبب أحكامه الدينية، ووقوعه على خط التماس الجغرافي، وعندما استدرجت عن غير رغبة وبدون تخطيط مسبق أو سعي لتوقيع تفاهمها مع الجنرال عون وتياره ظلت حذره، تتطلع لاستعادة التحالف الرباعي برغم ما صار فيه من غدر، وانقلاب، وقد فوتت فرصة ذهبية عندما لم تبذل جهدا لاستكشاف إمكانية التفاهم مع عون, عون الراجع غير عون الذي كان في منفاه الفرنسي..
شراكتها في حكومة السنيورة جاءت قسرية لإملاء فراغ الانسحاب السوري، لم تسع لها فلم تفاوض على تمثيلها بوزنها، ولا أمسكت بمواقع حاسمة، فتحولت إلى مشكلة لها, ومشكلة في الحكومة ومصدر قلق وإقلاق، وبالإجمال لم تفلح الاستثمار في قدراتها ولم تغير ولا أعطت نموذجا مختلفا ما خلى محاولاتها المتعثرة لتعطيل اخذ البلاد رهينة لعبة الأمم والمحكمة الدولية، واضطرارها للمقاطعة ثم الانسحاب من الحكومة لكشفها دستوريا، وفشلت في تعطيلها وإسقاطها...
ولأنها عازفة عن الحكم، لم تطلبه، شاركت فيه اضطرارا، فشلت تجربتها، فاضطرت للانقلاب على حكومة السنيورة باستخدام السلاح فأسقطتها بالضربة القاضية، وفرضت اتفاق الدوحة، التي جاءت نصوصه قاصرة برغم أنها كانت تستطيع حصد أثمان اكبر بكثير على مستوى القانون الانتخابي والضمانات، والشراكة، ما أكد أنها تتجنب مسؤولية الحكم، وكل ما تسعى إليه هو امتلاك قوة قادرة على التعطيل بالثلث، وتهدف لتشكيل قوة مضادة تمنع التطاول عليها وعلى سلاحها أو منعها من تحقيق هدفها المحوري الذي تأسست من اجله وما زال أولويتها المطلقة ..
لم تنجح في استثمار وتوظيف انتصارها التاريخي في تموز، في الداخل لجهة الإخلال بالتوازنات، برغم أهمية الانتصار وعلاقته بتوازنات الداخل ومشاريعها، وبإزاء الشارع العربي والإسلامي وإنهاضه لم تستطع تعميم نموذجها والاحكام واضحة بالمقارنة مع نصر الناصرية في 1956، ونصر المقاومة الفلسطينية في معركة الكرامة 1968 على رغم الفارق النوعي بين نصرها وظروفه وطبيعته وتلك الانتصارات التي أسست لتصدر الناصرية الحركة القومية والتحررية العالمية، وتصدرت منظمة التحرير قيادة حقبة التحرر الوطني..
كانت الأخيرة كبيرة، عندما لم تتقدم للانتخابات وحلفها بسعي جدي وبخطة هجومية ورؤية متكاملة، ولم تمتلك برنامجها للحكم، فخاضت الانتخابات بدفاعية، مرتبكة، تستجدي المشاركة، وتدير معارضة متباينة مأزومة، وقاصرة، غير منسجمة ولا متوافقة على برنامج للحكم، ولا تحمل أملا بالتغيير، مسؤولية تتحملها المقاومة الإسلامية وقائدها، عندما فوت وفوتت فرصة او تخلفت وتخلف عن تمثل تجربة الحزب التقدمي الاشتراكي وقائده كمال جنبلاط الذي نجح في ظروف وبيئات مختلفة لا ترتقي إلى ما بلغته المقاومة من دور وموقع وانتصارات، ولا يختلف عنها في النشأة والبيئة الاجتماعية الطائفية، والتزام مصالحها ومنطقها وتمثيلها، وبالرغم من ذلك نجح كمال جنبلاط في تشكيل وتبوء موقع قيادة الحركة الوطنية اللبنانية والتحول إلى قائد قومي فاعل بامتياز عين المهمة التي انتصبت أمام المقاومة وقائدها منذ بداية التسعينات واشتدت الحاجة الماسة لها بعد انتصار أيار 2000، وصارت ضرورة حاسمة وحاكمة بعد خروج السوريين، مهمة لم تتقدم لها المقاومة وقائدها، ولم تقاربها يوما بجدية برغم توفر كل عناصرها وبيئاتها والحاجة الماسة لها، والحال، وفي غياب الجبهة وهياكلها، وإطاراتها وبرامجها الناظمة، فمن المنطقي أن تحصد المعارضة والمقاومة ما حصدت في الانتخابات, فمن يقاتل من اجل النصف ناقصا واحدا ان يحصد 57 نائبا, بينما من يقاتل للحصول على الثلثين وكان يمكن أن يحصل عليه "بشهادة ما ألت إليه كتلة جنبلاط" كان ليحصل على النصف الحاكم على اقل تقدير.
الأخيرة كبيرة لأنها شكلت لحظة مفصلية وضعت فيها المقاومة نفسها، وحلفها، والبلاد أمام حالة الاستعصاء المقيمة منذ انتهاء الانتخابات والزمن مفتوح لها ما لم تكن مفاجآت محلية أو إقليمية أو دولية تخرج البلاد من عنق الزجاجة..
والحال، يمكن القول أن تجربة المقاومة على صعيد الصراع مع العدو الصهيوني نموذجية ثورية، فيها ولها الكثير من الحقائق والدروس والنتائج النوعية والتاريخية بكل قياس، بينما في إدارتها للملفات الداخلية، وقيادتها للحركة السياسية، وفي ربط الوطني القومي الديني بالاجتماعي الإنساني الحياتي أخفقت واعترت تجربتها العثرات، أو الهنات، ليصبح الحصاد مرا بعد حلاوة فائضة من الانتصارات..
لماذا؟ هل أخطأت المقاومة وحزبها؟ أم هي التكتيكات لم تكتمل نتائجها بعد؟
في حاصل النتيجة لا فرق أكانت هنات، أو عثرات، أو إخفاقات، أو أخطاء أو كانت نتيجة تكتيكات، فتلك تصورات ذهينة ونظرية قد تخطئ وقد تصيب، وهذه نتائج عملية مباشرة معاشة حاكمة في تقرير ما سيكون..
ليس صحيحا القول أن المسألة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية كانت غائبة عن ذهن المقاومة وقادتها، فإدارتها والموقف منها كان واعيا عارفا لما يريد، والمنطق الحاكم: أننا في حقبة مقاومة وتحرر وطني، والهدف الأسمى قتال العدو، وتركيز الجهد هناك، وإلحاق الهزيمة به يلحق الهزيمة بإذنابه وأتباعه، وترك الحبل الداخلي على غاربه ينهك الأطراف المحلية، ويكشفها ويحملها تبعات ومسؤوليات السياسات الاقتصادية والوطنية، والاجتماعية، وعند اللزوم يكون التدخل والحصاد، فالبيئة والبنية اللبنانية مشتبكة، ومختلفة، والنظام على قدر من التأزم، والقائم أفضل من الآتي لان العبء ثقيل والمسؤوليات كبيرة، لا مصلحة في تحملها والخوض فيها لما قد يكون فيها من مخاطر..
تلك حجج المقاومة وكادراتها, والنموذج تجربة حماس في غزة وما ألت إليه من حصار، وتدمير، وفرقة، وتأزمات ما برر لقادة المقاومة دعوتهم للمشاركة وإصرارهم على عدم تحمل مسؤولية إدارة البلاد مع أن تجربة حماس وواقعها يختلف جوهريا عما هي عليه الحال في لبنان ومحيطه...
تغييب البعد الاجتماعي الاقتصادي لمشروع المقاومة له أسباب كثيرة، واقعية، ومنطقية، فالمقاومة انطلقت بصفتها فريقا مذهبيا، يعتمد منطقا وعقيدة كفاحية أولويتها بيت المقدس، ووحدة الأمة، وتحريرها وتطبيق شريعة الله فيها وبينها، ومع الآخرين كأولويات مطلقة، تجاوز التفاصيل، والشؤون السياسية والاقتصادية، وشعابها، وأوحالها، عزز من رؤيتها ما حققته من انتصارات وتمايز، صار التخلي عن خاصياتها العقائدية، والمجتمعية، سعيا وراء بدائل لم تظهر علاماتها كالرهان على السراب، والتخلي عن القوة بحثا عن احتمالها، ومن جهة ثانية فالمهمة الوطنية ومهمة التحرير مهمة جامعة لا يجوز التفريق بين قواها وكتلها على تقسيمات افتعالية اجتماعية أو طبقية، فالشيعة متضررون من الاحتلال والعدوان، ونقص الإنماء، والتمييز، وصاروا جزء من المعركة بأوجهها المختلفة فماذا يفيد المقاومة الإسلامية أن تنزع إلى الفرز الاجتماعي والطبقي في بنيتها وقاعدتها الاجتماعية، مادامت فلسفتها وإيديولوجيتها لا تستسيغه، وان كان بعضه يحتاج إلى نقاش معمق، يفترض انه سبب في ما ألت إليه المقاومة وفي الشارع وفي الحكم وفي بناء المستقبل..
هي إذن أحكام البنية، وانتظام القاعدة الاجتماعية والعقيدة، عناصر ومسببات في تغييب المسالة الاجتماعية الاقتصادية، وفي تبرير مشروع المقاومة للاعمار بالليبرالية، والمقاومة بالسلاح على مابين المقاومتين من خلاف جوهري وصراع مستحكم جرى تغطيته بالألفاظ والألقاب والمناورات الإعلامية.
فهل تستطيع المقاومة الجمع بين المتعارضات وتخليق بيئة خلاقة ضابطة للتحالفات والتفاهمات والصراعات؟ أي هل كان أو هل يمكن للمقاومة أن تقاوم بالسلاح، وان تتبنى مشروعا اجتماعيا عادلا، وان تشارك في الحكم بمهارة ووزن حاكم، وفي ذات الوقت تحفظ خاصياتها العقيدية والإيمانية، وبنيتها الاجتماعية وتنسجم مع قاعدتها ومصالحها وتشكيلاتها؟
في التجربة التاريخية قول حاسم وجواب واف شاف، نعم، كل مقاومة واجهت مشكلات مشابهة في زمانها ومكانها وخاصياتها، ونجحت المقاومات التي قاربتها المقاومة الإسلامية وجاوزتها في الفعل المقاوم، فالمقاومة الجزائرية واجهت ما تواجهه المقاومة في لبنان، والمقاومة الصينية، والفيتنامية، ونجحت، أي أن موجب المقاومة الإسلامية اللبنانية أن تدير التناقضات في بوتقة الوحدة الضابطة في مرحلة التحرر وعليها أن تنتج برنامجا خلاقا يتعامل مع واقع الحال ويديره، ليغيره لا ليتصادم معه أو يؤبده، ما عجزت عنه المقاومة حتى اللحظة والزمن لم ينفذ بعد..
المفسدة اللبنانية وقدرتها على إسقاط الحصانات
مشكلة تبدو خاصية لبنانية تكمن في بنية الدولة والنظام والمجتمع، واليات العمل السياسي واستهدافاته.. فرضت نفسها على المقاومة وطبعتها بطابعها وألزمتها بمنطقها، فأسرتها، وقادتها إلى تكتيكات أو أخطاء، شأنها ما صار مع الحركة الوطنية اللبنانية، ومع المقاومة الفلسطينية، وقد أصابت التيارات السياسية بيمنها الرجعي ويسارها الثوري والتيارات والزعامات التي جاءت على أحصنة التغيير والإصلاح فحولتها عائلية تكسبية، والادلة الشواهد كثيرة في الحياة السياسية.
بفعل فاعل منذ القرن التاسع عشر أقيمت دويلات الطوائف والإرساليات، دوليات كانتونات استقلت عن الدولة المركزية وحالت دون قيامها، أقامت لنفسها مجتمعها المضاد والخاص، وصار ابن الطائفة يولد ويموت في طائفته بدون أن يتشارك المواطنة مع اخرين، أو يحتاج للدولة المركزية، تجربة قادت تجارب الطوائف وحركاتها السياسية، فصار للطائفة، ثم للحزب، فللزعيم مؤسسات تعليمية، واجتماعية، واستشفائية، وخدمية، وصار الكل يقلد النموذج المصنوع في الخارج لتخريج لبنان وطوائفه وحراكه السياسي فأصاب المرض الجميع ولم تتنبه المقاومة وحزبها لخطره، بل تساوقت معه على انه فضيلة، وابدعت..
فتباهت الطوائف والحركات السياسية بإقامة نظامها الخدماتي كمؤسسات لتدعيمها وتكبير وزنها، وأقامت سلطاتها الهامشية كلما لاحت أزمة تحفزها رخاوة السلطة المركزية وسرعة سقوطها وانحسارها، وسلطة الهامش هي سلطة مكاسب بلا حساب أو رقابه، أفسدت الحركة الوطنية وكادراتها وأحزابها، ومنظمة التحرير، وأفسدت الجيش السوري، وتضرب عميقا في إفساد حزب الله.. زاد تأثير الظاهرة المشكلة المستعصية النمط الاقتصادي الريعي، وضربة في حزب الله ومقاومته آفة التمويل الخارجي وسخاء العطاءات، بعد ما تحقق من انتصارات واختلال بالتوازنات الإقليمية والدولية ومكانة المقاومة ودورها وموقعها الجغرافي على حدود شمال فلسطين،، فالتمويل الخارجي مفسدة، وسبب في قعود الناس عن النضال الاجتماعي وعن السعي للتغير، والعمل من اجل الحكم، بينما السعي للحكم هو السبب الأساس في تكوين ومبررات وجود الأحزاب والحركات السياسية في أي مجتمع قويم..
والأمثلة في تجربة المقاومة الإسلامية فاقعة، فبالرغم من عنف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد لم يكن لها دور، أو مشاركة، أو فاعلية في أي من التحركات التي قامت, عدى عن أنها كانت معيقة وخائفة منها ..
ثم في تجربة الإنماء، وإعادة البناء بعد الحروب، والدور المحوري الذي قامت به المقاومة وجهاد البناء فيها تمثل من زاوية ميزة نموذجية قاطرة قدمتها المقاومة الإسلامية تشكر عليها، لكن السلبي في المسألة أن الناس اطمأنوا، وقعدوا، لتتبؤ المقاومة ومؤسساتها مهمة البناء والتعويض بديلا عن حقهم المتوجب على الدولة ومؤسساتها بعد كل ما جاءها من تبرعات فاقت الخسائر وكلفة إعادة البناء .. فغدت المقاومة دون أن تدري أو تخطط هي المسؤولة، والمطالبة، والمستهدفة بالنقد وأحيانا بالحسد، فتحملت مسؤولية أخطاء التخمينات، ونقص التعويضات، وتأخرها ولم يشفع لها أنها وعدت وأوفت العهد والوعد. فأحلت المقاومة وأجهزتها نفسها محل الدولة فحمتها وغطت على تجاوزاتها وممارساتها، وأقعدت الناس عن مطالبتها وخوض غمار النضالات لانتزاع الحقوق وإلزام الدولة بموجباتها...
اجتمعت عناصر كثيرة، وتضافرت فوضعت المقاومة وحزبها في المكانة التي احتلها في المسألة الاجتماعية الاقتصادية، وفي التخلف عن جعلها بين أولوياتها وفي مصاف مهمة التحرير لا تنفصل عراها فغدت المقاومة وكأنها تقدس الأرض، وتطلب الشهادة المجانية، لا تحرر من اجل البشر، ولا تستشهد من اجل حق الناس بالحياة الحرة الكريمة، فصارت بعض شعاراتها الاجتماعية كشعاراتها السياسية التوافق في السياسة وتشكيل الحكومة، والتوافق في الخطة الاقتصادية، وكأن الله في كتابه وفي الأحاديث الشريفة دعا للتوفيق بين الغني والفقير بين الجائع والمبذر، بين الكانز، والمنفق بين المنتج والمفرط، بينما تميزت الثورة الإسلامية الإيرانية بإبداع المزج والتفاعل بين الوطني والاجتماعي في شعاري لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص 5)، شعارات وتجربة نستها المقاومة الإسلامية وهي تقلدها أو فرض الواقع تناسيها لصالح فتاوى وممارسات أجازت الدين الربوي وجمع الاموال، والمضاربة، والهدايا، والمرابحة لتنتج تجربة قاسية أصابت حزب الله، والمقاومة وقاعدتها الاجتماعية بسهم عسى ألا يكون مسموما، كما في حال شركات عز الدين، وقبله حسون وآخرين لم يتعلم الناس ولا علمتهم المقاومة وحزبها وكادراتها الدروس فلدغوا من الجحر الواحد مرتين..
نتفهم المقاومة ونتفهم الأسباب، والظروف التي جعلتها في ما هي عليه الآن، ونسعى لمعرفة الواقع معرفة عملية لتكون باب الولوج لمعالجته، معالجة ملموسة لمداواته والإسهام بتغييره، أما التطاول والشماتة فمهمة من لا يسعى إلى علاج وطلب شفاء للمقاومة فيه شفاء للوطن والأمة.
في مسائل أخرى، تعثرت أو ارتكبت المقاومة وحزبها، وإعلامها، أو أخطأت، فأنتجت ظاهرات غير صحية كان لها أن تكون غير ما صارت عليه..
انتصاراتها، وخطاب قيادتها، وقتالها افتن الأمة، وألهب المشاعر الوطنية والقومية والدينية، وحرك كوامنها وأوثق الناس بأنفسهم وبتاريخيهم وبإمكانية صناعة مستقبلهم، بعد فعل المقاومة والنصر..
غير أن سياساتها، ومقارباتها للكثير من المسائل كسرت الحلم، وكادت أن تحطم الأمل، ولولا فرادة قائدها لشكلت عنصرا حافزا للفتنة، ووقعت فيها وأوقعت الأمة في مخاطرها وتشعباتها.
هذا قول لا يجافي الحقائق، ولا ينتقص من الانتصارات العظيمة للمقاومة، فلولا تجربتها ما كانت مقاومة فلسطينية، ولا كانت مقاومة عراقية، ولا كانت انتصارات تاريخية وهزائم للمشروع الغربي، ولما كان أمل بالتحرر، فنموذجها قوة جاذبة، وخطابها قوة حاسمة، ودورها في التدريب، والإعداد، ونقل الخبرة، والمعرفة، والسلاح أساس بإقرار الجميع في ما ألت إليه المقاومات ودول الممانعة..
والحق يقال أن إدارة المعركة السياسية في لبنان بعد اغتيال الحريري، كان مبدعا لا يقل أهمية عن انتصار تموز، تجسد في هزيمة حرب التدويل الضروس في شدتها، ونجحت المقاومة نجاحا ميمونا في تفويت الفرصة على الفتنة، التي كان ميدانها المستهدف لبنان وتصديرها إلى العراق، وبلاد العرب والمسلمين، وهنا يسجل للمقاومة وتكتيكاتها نصر حكيم ومحكم..
لكنها أخفقت في تأليف قلوب المقاومين العرب والمسلمين، وجمهورهم، فتجاهلت المقاومة العراقية ومشروعيتها وثوريتها، ما اضعف ثقافة المقاومة، وصورها على أنها مقاومة الطوائف والمذاهب لأهداف دعوية مصلحية مذهبية، فتبني المقاومة العراقية وشحذ همتها وهمة الأمة كان ليرصد لصالح المقاومة الإسلامية اللبنانية ودورها الرائد والقائد لإستراتيجية المقاومة تمهيدا لدور في النهوض والقيام، عظم أخطائها إعلامها فانكشف على عطب كان لابد أن يعالج، ومازالت المهمة راهنة والزمن لم ينفذ كله..
والمقاومة الإسلامية التي تأسست أصلا، تعمدت، وتطهرت في مطهر المسألة القومية، وفي أولها تحرير فلسطين، والزحف إلى القدس، قزمت قوتها، وموقعها عندما حشرت نفسها قسرا في العلبة الكيانية اللبنانية، واستجابت للضغوط، أو رضخت لمنطق الجمهور وحاجاته، فوضعت لنفسها قيودا وحدودا ألتزمتها بمساحة التلال والمزارع والأسرى والمعتقلين، فقدمت نفسها على أنها غير معنية بأي من الساحات الأخرى، وغير ملزمة بالدفاع عن أية مقاومة أو حركة اعتراضية على النظم والأسر الحاكمة، والنخب المتآمرة، برغم أن تلك لم تكف خطرها، ولا تركت المقاومة لشأنها بل تدخلت بسفور ما بعده فجور في الحالة اللبنانية، ودعمت قوى تتآمر على المقاومة، وتأمرت مع إسرائيل وحلفها في حرب تموز وفي الحرب الأمنية الدائرة على أشدها، وفي حرب القرارات الحكومية الظالمة، وفي الحرب على تمثيل المقاومة في الحكومة وفي العملية الانتخابية على نحو باين فاضح...
تصرف المقاومة على هذه الشاكلة مثار سؤال وبحث، والجواب لم تقدمه الوقائع والأيام بعد وان كانت مؤشراتها في غير صالح تكتيكات وسياسات المقاومة والتزاماتها، ما يعيد طرح المسألة من زاوية ثانية هل من مشروعية لنظام، لحزب، لمقاومة خارج التزاماتها القومية والعقيدية... وهل تحقق المقاومات مقاصدها وتحرر أوطانها وتحميلها ما لم تلحق الهزيمة بأعداء الأمة في كل الساحات بدء في أخطرها فلسطين؟ .. هل مآل النظم، والمقاومات، أن تصبح حاميا لحدود الكيان الصهيوني، وترك فلسطين لأهلها ومعاناتهم وكفاحهم؟ وهل إسرائيل بوظيفة اقتلاع الفلسطينيين فقط, أم تلعب دورا في كل الساحات وتصيب الأمة بأطيافها وكياناتها وجغرافيتها وتتعداها..
بعض الجواب لم يحن بعد، ولا انتهت فصول المواجهات، ودور المقاومة في تحرير المزارع والتلال لم يسقط شرعيتها، ما يجعلها مشروعة إلى حين في العلبة الكيانية، وقد تبقى شرعيتها ما بقيت أطماع العدو بالكيان نفسه، أطماع مستمرة ما استمر العدو، ومادام جهده ينصب على تلقين الكيان، والمقاومة درسا تأديبيا، حتى لا تكون بعدها نماذج، ما يفترض أن للمقاومة فرصة لم تنضب ومهمة لم تنجز بعد تتجسد في فرض التأزيم النوعي لإسرائيل وربما دفعها إلى حتفها إن هي غامرت، وحاولت مرة ثانية في لبنان..
غير أن السؤال وماذا إذا لم تغامر؟؟ وماذا لو قبلت لعبة التوازن على ما هي عليه, وأبدتها في حالة التهديد والردع، وفرض الهدنة العملية لأطول ما يكون.. ألا تكتسب دعايتها مصداقية بقولها أنها نجحت في حرب تموز وحرب غزة فأوقفت الاستنزاف، واستعادت قوة التهويل بالردع، فتركت غزة تنشغل بحصارها وإعادة بنائها وأزمتها وصراعاتها، وامنت جبهتها في الشمال وأوكلت الإشغال للازمة اللبنانية الداخلية وعناصرها...
الأمور ليست على ما يرام والزمن يعمل بإيقاعه، ويستوجب مهماته، ويقدم أولوياته، ويملأ فراغاته..
المقاومة اليوم ليست مقاومة الأمس، مهماتها اختلفت، ومتوجباتها تغيرت، وان شهد الأمس على نجاحاتها فما الضمانة أن تنجح اليوم وتنجز مهام الغد..
بعض ما نشهد من ارتباكات، وعثرات، وما نحن والمقاومة فيه من أسئلة، تفترض لفت الانتباه، والتحذير من المخاطر، لتصويب الرؤية إن انحرفت، وتدقيق الاستنتاجات إن ظلت، وتوصيف الحال على ما هي عليه لا كما نرغب، أو يرغبون، والسعي معا لتقديم أجوبة عما يجب أن يكون..
نظافة كف المقاومة تلطخت، وتجربتها في الحكم تعثرت، وارتبكت في إدارة الصراع السياسي، وتأرجحت في إدارة شؤون قاعدتها الشعبية وتلبيتها، كافأت حلفائها، وناصرتهم لكنها عجزت وأعجزتهم عن توسيع دائرة الحلف وتنظيمه لبلوغ مرحلة الجبهة الوطنية العريضة, جبهة تلبي الحاجات وتستجيب للضرورات بامتلاكها برنامجا للتحرير والحكم لاختبار نموذجها وجديدها إن كان لها جديد..
قولنا نكرره، المقاومة التي تحرر ولا تحكم تسحق أو تحكم على نفسها بالأفول مسيرة لا نريدها ولا نقبلها لأشرف وأقدس مقاومة عربية..
الزمن لم ينفذ بعد، والهنات والعثرات، الثغرات الأخطاء يمكن, بل يجب الإحاطة بها ومعالجتها.. وما تحقق مازال يشع، يحمي، ويساعد على التجاوز والنهوض..