ذهول المرمى
ذهول المرمى
د.عبد الهادي دحاني
ما أحرك أيتها الدموع الساخنة تسيل في مونديال فرنسا لسنة 1998..! آه، كم هي غزيرة تلك الدموع، البكاء والعويل في كل مكان، في باريس وفي صَافْواَ، وفي الكامرون وفي "لويجانطي"(1)!.. العيون والرموش تلتصق بالزجاجات وبالشاشات، فتسبب العطب في التيار الكهربائي، ويتعطل كل شيء.. لا عمل ولا حركة ولا نشاط، إلا نشاط كرة القدم في ملاعب المونديال.. الكل في سكون، مشدود في ذهول إلى الشاشات، لا يدري متى تقوم الساعة.. الناس في غمرة سادرون، لا ينبئك بالفرق بين الأجسام الميتة والخشب المسندة إلا حركة لاعب أمام المرمى، يحاول التسديد، فحينئذ يهتز "التنديد"، وحينئذ ترتج الدنيا قاطبة، وترتعد الفرائص، وتبلغ القلوب الحناجر، وقد تصعق الأنفاس، وتزهق الأرواح..
آه، يا مونديال الدموع ! ، كم انهمرت أجفانك السادرة حتى زاد منسوب الأنهار في فرنسا، فغمرت المياه أرض الصين الشعبية، وأتلفت الضرع والنسل.. أين هي دموع الجثث الطافية فوق الماء الجارف؟!..
آه، يا مونديال الدموع الحرى ! ، إني أريد رخصة أو إجازة حتى أشهد وقائعك، الواحدة تلو الأخرى، في ساحات النزال، فلست جباناً، ولست ممن يطيق أن تفوته فرصة الجهاد الغالية في مدرجات ساحاتك، الساحات ملتفة الأجساد من كل جنس، لا تبالي باختلاف، فلكل امرئ في الملاعب شأن يغنيه..، عالية الصيحات والصرخات، فتصعق من وقعها إسرائيل، وتفر من أرض الإسراء هاربة في الجبال لا تلوي على شيء..!!؟؟
آه، يا مونديال الدموع!.. دموعك أذكت في نفسي جذوة الجهاد.. أريد أن أرفع عنك الحزن والذل.. لا تبكي فأنا قادم، سأترك جدران الإدارة، وسأحتفظ بوثائق المواطنين حتى أعود، لأنني سأعود وقد لا أعود.. سأحصل على إجازة أو على رخصة بأي وجه وبأي ثمن.. أيها المواطنون، لا تقنطوا من الانتظار، فالفرج مع الصبر، وانتظار ساعة كانتظار عام، .. لا تقنطوا من رحمة الإدارة، فأغراضكم ستقضى ولو بعد حين..، وإن لم تقض فأنتم مواطنون على كل حال.. لا أريد أن أتخلف عن ساحات المونديال، فالدماء تغلي في عروقي وتدفعني إلى الانتقام لآلاف الضحايا هنا وهناك، ولكن.. رؤساء المصالح وأرباب العمل لا يتمتعون بقلوب ذات شفقة، لا يقدرون قدر العشق والهيام غلبا فؤاداً متيماً، شُدّ إلى المرمى شداًً، غابت عنه الفكرة، ونسي الماضي والحاضر.. حتى إذا زلت الأقدام، وجفلت الركب، وطلع طالع النحس، عاد إلى ركن ثاوياً.. وتفقدوه بعد لحظات قلائل، فإذا هو جثة هامدة، عيناها شاخصتان في ذهول بارد نحو المرمى.. فما مصير شهداء المرمى؟؟!!...
كم هي ضحاياك أيها المونديال البكاء ! ؟، بكاؤك عجت به الركبان، وتلونت بدموعه البلدان.. أما شهداء الأوطان .. وشهداء القمع والإرهاب، وأما ضحايا الغدر والخيانة، فلا بواكي لهم.. لا بواكي لطفل صغير يهشم الصهاينة مرافقه الرقيقة وأضلاعه الفتية بحجارة الحديد.. ولابواكي لطفلة بريئة لم تبلغ الحلم بعد قد اغتصبها الأنجاس.!! ...
يا للعار والذل، أنهيم فوق الضحايا، ، ونغض الطرف عن دموع الحرمان والقهر، ونصك السمع عن آهات الجراح والآلام، وعن صوت البطون الجائعة.. كم هي صرخات الثكالى واليتامى.. نداءات لا يجيبها إلا رجع الصدى، واستغاثات لا يلبيها إلا الرصاص والخناجر المسمومة...
إني مرغم في العمل على ارتداء نظارتين سوداوين، من أجل السلامة، ومرغم كذلك على لبس حذاء حديدي في قدمي.. من أجل السلامة أيضا.. ولكن أين هي سلامة الآخرين حين يحجبهم سواد النظارات فتدوسهم الأقدام الحديدية؟.. إني أريد مخالفة قوانين السلامة فأهجر عملي وأتخلى عن مقصدي، لأنضم إلى المشاركة في مأثم الدموع الملونة، فما أنا إلا عامل بسيط في "الجرف" ذي اللون الأصفر، ولا لون ثاني له، فاعملوا يا سادة في أجرافكم ذات الألوان المتعددة، والحقوا بأقطاب الشرق أو الحقوا بأقطاب الغرب، فأنا من عشيرة ذات لون واحد، وذات اتجاه واحد، لا شرقية ولا غربية.. وأتمنى ألا تتمرس على التلون بألوان متفرقة، وألا تصاب بالحساسية فتمرض رئتها وتتلوث دماؤها، وألا تصاب بالعمى، عمى البصيرة وعمى الألون!!...
يا سادة إني ذاهب لألتحق بحافلة تنقلني إلى عملي، فاذهبوا إلى أعمالكم، فأنا لست منكم، وأنتم لن تقبلوني إلا إذا اتبعت ملتكم.. أنا أغبر من طين وماء، وأنتم زجاج من بترول وذهب مسروقين ومن نارملتهبة، وبالبنزين تنعمون، وبفضلكم نستعين على شدائد الدنيا ومكارهها.. وبنفاياتكم نزين حاراتنا ونضمخ أفنيتنا.. يا سادة أتركوني وشأني وإلا ركبت قارب موت وغرقت في بحركم، وإني أعلم أنكم ستتكلفون عناء إنقاذي، ولكن دون جدوى، لأن البحر أرحب بي منكم، وحيتانه لا تسلمني إليكم..
أيتها الحافلة الرمادية التي ترمقني في انتظار، كم تجوبين الأرض من مرة في العام..؟ كم تحتاجين من البترول المصفى الذي ينعم به الأسياد وصانعوك.. لماذا تنقلينني كل يوم إلى "الجرف الأصفر"(2)، ولا تلحقينني بعبق النسيم الأزهر؟.. ولماذا تكرهين الشفق الأحمر؟ ألأنه لون وديع هادئ يكره هديرك المزعج؟؟.. آه، إنك تنتظرينني، وليس لي منك بد، فها أنا قادم، فضميني إليك برفق، ولا تؤاخذيني بما أشعر به تجاهك، فدخانك سيحملني إلى دخان أكبر وأشمل، يتطاير في السماء، ويسد الأفق الرحب، ويضيق خناق العصافير المغردة،.. من بعيد يراه الرائي فتنقبض أساريره .. ولكن الحافلة هي دوما تقصده فتعانقه، ثم تقذف بنا في غيابات الجرف...
انطلقت الحافلة، ومثلها حافلات رمادية أخرى منتشرة في المدينة، تجوب شوارعها، لنقل العمال، تلتهم جماعة من هنا وجماعة من هناك.. أحيانا تقف الحافلة ولا يصعدون.. ليست لهم رغبة في الجلوس الممل على الكراسي البلاستيكية السوداء.. إنهم يفضلون متابعة الحديث الذي قلما يخرج عن المألوف، إلا إذا كانت هناك مباراة لكرة القدم، أو حادث يهز أرجاء المدينة لقلة الأمن.. وسوى هذا تتوزع الأحاديث على مشاكل الرطوبة المفرطة، والطقس المتقلب في أكثر من حالة في الساعة الواحدة.. أما أحاديث الجرف فتملأ كل مكان، وهي تتطاير قبل أن تتحرك بها الشفاه...
كل عامل يحمل محفظة تحسب أنها تضم دفاتر ومذكرات، ولكنها أعدت للوجبات الجاهزة، يخرج من بيته مرفوع الرأس، لكنه عندما يقترب من الحافلة التي تنتظره دائما، يخفض رأسه، ويبدأ في تثاقل الخطو، كأنما يساق إلى هذه الحافلة الرمادية سوقا، لماذا تنقله بالليل والنهار ولا تفتر؟..
يحين وقت الإقلاع، وتتحرك الحافلات محدثة جلبة تنضاف إلى ضوضاء المدينة.. ولكنك تشفق عليها عندما تراها تشق شارع "العشرين"(3)، فتراها تتسلل بعسر شديد عند سوق "للازهرة"***، وقد زحمتها فلول الباعة والراجلين، وضيقت عليها السيارات والدراجات، فلا تنفك إلا بعد جهد جهيد، ثم لا تلبث أن تخرج من عنق الزجاجة، فتنساب في الشوارع الأخرى، لا تلوي على شيء، متجاوزة بذلك السرعة المحدودة بداخل المدينة، ومهددة أرواح المارة والأبرياء...
وبعد، فالناس ينتقلون من عالم الموتى إلى عالم الأحياء، والأشكال في عالم "الفوسفاط" متنوعة، فهناك سكان الفضاءات والنباتات والعشب، وهناك سكان الإسمنت والصفيح والغبار.. الجلوس على مائدة الكبار لا يشبه بالطبع العيش وسط الأولاد الصغار، يطالبونك كلما لفظتك الحافلة الرمادية بالخبز والنعل و ثمن الحلاقة المحجِّلة للرأس، والمقزعة للجماجم الصماء.. ولكن تحجيل الرأس بالحلاقة أو تقزيعه يشبه كثيراً ربط البطن بحزام يمنعك الشعور بالجوع، ولو بعد حين... الدنيا- كما يقال - تبتسم لمن تريد، وتكشر عن أنيابها في وجه من تريد.. هذه حالها، دائمة التقلب، ومادامت كذلك فإني عازم على أن أهجر عملي.. فأنا ما سئمت الدخان الخانق، و لا مللت ركوب الحافلة الرمادية بالليل والنهار، ولكنني ما عدت أطيق انقلاب الصورة، حيث يعز الأشرار ويذل الأخيار، ويُكافأ الكسالى وأهل النميمة،ويُقرَّبون ويعاقب المجدون وأهل العزيمة ويبعدون، فسلام على من هذه حاله.. وإني ذاهب لأجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة.
الهوامش:
(1) لويجانطي: مدينة مغربية مشهورة بمناجم الفوسفاط، كان اسمها في عهد الحماية الفرنسية لويجانطي، أي Louis Gentille، وتحول اسمها إلى " اليوسفية".
(2) الجرف الأصفر: ميناء كبير بمدينة الجديدة المغربية، يعتبر أكبر ميناء في شمال افريقيا.
(3) العشرين: اسم شارع بمدينة الجديدة معروف بكثافة المرور، وخاصة عند السوق المسمى "للا زهرة"، حيث تشتد الكثافة ويكثر الازدحام فيصعب المرور من شارع العشرين عند هذه النقطة بالذات.