قوس قزح
قوس قزح
د.محمد إياد العكاري
تعيش الشعوب في معظم بلدان عالمنا الإسلامي منذ عقودٍ خلت حالةً من الرُّكود والجمود، والتَّخلف و التَّبعية، بعيدةً عن اللحاق بركب الحضارة، معرقلةً عن السيّر في ركابها، وإن استخدمت منجزاتها واختراعاتها.
هذا الأمر ساعدت عليه عوامل خارجية عديدة، إلا أنَّ ما يهمنا هو العامل الداخلي الذي كرَّسَّ التَّبعية، ورسَّخ التَّخلف، وجعل الشُّعوب فريسةً للجمود والرَّكود ،تعيش مسلوبة الإرادة، مغلوبةً على أمرها،غير مؤثرةً بواقعها، تقتات الألم وتمضي شاردةً على هامش الأحداث في محلٍ سياسي، ووحلٍ مادي ،منذ عقودٍ عديدة حيث تستأثر السلطة الحاكمة بقرارات البلاد..؟! وتنفرد بها لنفسها!!؟
دون أن يكون لأبناء الشعب الواحد أي مشاركةٍ حقيقية في اتخاذ القرارات التي تهمُّ البلاد أو حتى مجرد حرية إبداء آرائهم دون تبعات ومساءلات!!.
كلُّ هذا حصل نتيجة الاستئثار بالسلطة من القائد الماجد، والحزب الواحد !!؟؟
لتبقى الشعوب بعيدة عن السياسة ومفرداتها، جاهلةً بأبجدياتها وعباراتها، تخاف من مسؤولياتها وتبعاتها، وقد كان لأجهزة الأمن الفضل في بُعد الناس عن السياسة حيث صَّور ت لهم الخوض في السياسة كالدُّخول إلى الجحيمم، وجعلوه عليها من المحرمات، ووضعوا له الخطوط الحمراء التي يجب على الشعوب الابتعاد عنها ممّا أدى إلى ركود في الحياة السياسة لدى الشُّعوب وعدم تفعيل دورها الحقيقي لتبدو كأنَّها مستعبدة، مسلوبة الإرادة،مخدرة الأحاسيس متأثرةً بما تنفثه وسائل الإعلام الرسمية عن الحزب والقائد ومغمضةً عينيها عما تلاقيه وتعرفه عن واقع حالها خوفاً ورهبةً ،الأمر الذي أدى إلى عزلة حقيقية بين الحاكم والمحكوم، ونتيجة لذلك تكونت مستنقعات آسنة لدى أرباب السلطة فاح نتنها وظهر خبثها في كثيرٍ من بلدان عالمنا الإسلامي بدرجاتٍ متفاوتة حسب شدة العزلة والانفتاح على الشعوب كل ذلك حصل بسبب استئثارهم بالسلطة وتكالبهم على النفوذ وزاد الطين بلَّةً غياب رقابة المجتمع والنّقد والمحاسبة عليهم إذ أمنوا محاسبة شعوبهم بتعيين حاشيتهم ثمَّ بإطلاق أيدي زبانيتهم ليذيقوا الأحرار الجحيم بفروع مخابراتهم وأجهزتهم الأمنية التي شعارها الجماهيري "الداخل مفقود والخارج مولود" أجل لقد عاشت بلادنا أوضاعاً مأساوية من جراء سيطرة الحزب الواحد، والحاكم الفرد، والأطر الحزبية الضيقة ،والقوالب المعلبة الجاهزة، الغير قابلة للتَّجدد ولا للتَّمدد ،والغير قادرة على التَّحرر من مقالها بله عن عقالها، بل الغير مستعدة للمضي في درب التعددية والحرية و التطور والإبداع.
كان هذا حصاد عقودٍ من التقوقع داخل شرنقة الحزب الواحد، والقائد الماجد دون استشراف لآفاق المستقبل أو الحديث عن مشاكل البلاد بموضوعية و شفافية، أو التَّطلع لمصالح الأمة ونهضة البلاد ورفعتها ، فانعكس ذلك سيطرةً مطلقةً على مقدرات الدولة والمجتمع لنحصد نخراً ووبالاً، وتخلُّفاً وفساداً في جميع مناحي ومرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية لتتحول الشعارات البراقة كالاشتراكية وغيرها التي ينادون بها إلى رأسمالية الفئة الحاكمة؟؟!
وبطرحاشيتها وانتفاش زبانيتها، و المطبِّلين والمزمِّرين الذين ينعقون مع كل ناعق، ويلهثون وراء اللقمة واللقمتين و المنافع الشخصية ليعاني أبناء المجتمع مرارة القهر والفقر، ويتجرعون الويلات والصَّبر في الكثير من بلداننا العربية والإسلامية .
فبدل تأمين الحرية والكرامة للمواطنين ،وتكافئ الفرص تعلُّماً وعملاً، لهم وتوفير المتطلبات الأساسية للشعوب، كان الأمر عكس ذلك تماماً إذ أن ما ذكر من مفقودات مجتمعاتنا اليوم ومن منسيات أصحاب السيادة والفخامة والقرار .!!
هذا هو الوضع السائد والحال القائم نتيجةً لتهميش دور المجتمع المدني،والحجر على نشاطاته،وعدم الحراك السياسي الفاعل لمصلحة البلاد ويزيد الطين بلَّةً عدم توفير سبل النهوض العلمي والمعرفي لأبناء المجتمع كافة دون أي تمييز بينهم.
لقد أضحى همُّ الفئة الحاكمة في ظل الأنظمة الشمولية القاتمة ذات اللون الواحد ليس المواطن والشعب وإنما الرئيس القائد ليتحول أمن المجتمع وأمانه إلى أمن الرئيس وأعوانه؟؟ وتتحول الغايات بدل مصلحة البلاد والعباد إلى مصلحة أهل الحكم والقرار والفساد؟؟؟ لتتحقق المعادلة السلطة المطلقة مفسدة مطلقة لتغرق البلاد في التيه والتخلف.
لقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يستشير أصحابه ويشاورهم في الرأي وهو النبي الخاتم وخير البشر وأفضل الخلق
لــه حقٌ وليس عليه حق ٌ ومهما قال فالحَسَنُ الجميلُ
وقد كان الرَّسول يرى حقوقاً عليهِ لغيرهِ وهو الرَّسولُ
فكيف لنا نحن البشر أن نتفرد بالرأي ونستأثر بكل شيء والرسول يعلمنا منذ فجر الدعوة تبادل الرأي والمشاورة فيه ورؤية الأبعاد من وجوه عديدة والاستفادة من أهل الخبرة والرَّأي،والاستنارة من أرباب العلم والمعرفة لاختيار الأصلح للأمة والأفضل لرقيها، والآمنَ على مصالحها، فعندما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في أدنى ماء من بدر قبل معركة بدر الكبرى...، قال ابن إسحاق:
" فحدِّثتُ عن رجال من بني سلمة، أنَّهم ذكروا: أنَّ الحُباب بن المنذر بن الجَموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاَ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرَّأي والحرب والمكيدة "؟؟، قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة " فقال: يا رسول الله فإنَّ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوِّر ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لقد أشرت بالرَّأي " فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغوِّرت، وبنى حوضاً على القُلُب الذي عليه فمليء ماءً ثم قذفوا فيه الآنية .
وقبل الخروج إلى أُحد استشار أيضاً أصحابه، هل يبقى مدافعاً في المدينة أم يخرج للمشركين الذين جاؤوا لقتاله في أُحد؟؟
هكذا كان دأب المصطفى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المشاورة وتبادل الرأي والاستفادة من وجهات النظر المختلفة.
وإذا استعرضنا سيرة الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة العادل لاستشفينا حاله من عباراته إذ يقول:"أيُّما عامل لي ظلم أحداً فبلغتني مظلمته فلم أُغيِّرها فأنا ظلمته ".
وفي قول آخر، يقول: " لو مات جمل على شطِّ الفرات لخشيت الله أن يسألني عنه ".
وعندما استوقفته امرأة في قارعة الطريق ومعه الجارود فنصحته وزادت في نصحه فقال لها الجارود: مهٍ يا امرأة، شعركأنها تطاولت عليه فنهره عمر وقال: والله لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها ". يقصد النصيحة وكلمة الحق لذلك حُقّ له أن يقول عنه رسول كسرى والناس أجمعين:" عدلت، فأمنت، فنمت ".كحال حكامنا اليوم !!
القسط والعدل والشورى، والديمقراطية التي ينادون هذه العبارات التي نفتقدها في زماننا والتي ليس لها من رصيد الواقع شيء وإن كان فشكلاً لاحقيقة ومظهراً ولاجوهر ويا للأسف؟!.
أقول في الختام: إن مناقشة الآراء إثراءٌ لها، وفي تبادل الخبرات المعرفية إصابةٌ للرأي السديد ،واقتناصٌ للصالح منه واجتنابٌ لفاسده ،ورؤيةُ أي أمرٍ من أبعاد مختلفة، وزوايا متقابلة تعطينا الوضوح في الرؤيا وتمنحنا الرُُّؤية الصحيحة، وتجعل الآفاق أمامنا مشرقةً، الأمر الذي حرمناه في مجتمعاتنا من عقود طويلة ومازلنا فتجرَّعنا ونتجرَّع حتى يومنا هذا من ابتعادنا عنه الأمرّين، صاباً وقهراً، وتخلفاً وفقراً، وعلقماً وصبراً.
إن ألوان الطيف لا تبدو متألقةً في سمائنا الجميلة، ولا تشرق زاهيةً من خلال الغيوم الربيعية،ولا تتبدَّى مثيرةً للإعجاب إلا باجتماعها مع بعضها البعض بمكوناتها السبعة مشكلةً قوس القزح في تلاقيها،راسمةً الأمل والفرح ، تبشر بالخير وترسل القطر بإذن ربِّها فتحيا الأرض.. ويخضرُّ الروض.. وتُروَّى قلوب البشر فعرس النفوس بالتلاقي والإخاء والمحبة والصفاء،والتعاون يداً بيدٍلبناء المجتمع الواعي والمستقبل.
فحتى متى نُحرم من تلاقي مكونات الطيف بألوانه وأمواجه، وأشكاله وأحلامه؟؟فقد آن الأوان لنا أن نرسم البسمة، وننسج الفرحة ببشائر الخير والمطر ونسعد بتلاقي الأطياف المختلفة والتعاون والوفاق من أجل مستقبلٍ مشرقٍ لمجتمعاتنا وبلداننا.