مأساة الجالية السورية في العراق
مأساة الجالية السورية في العراق
بقلم : محمد الحسناوي
يقولون: ليلى في العراقِ مريضةٌ فيا ليتنـي كنتُ الطبيـبَ المُداويـا
وكم في العراق من ليلى مريضة!
تبدأ قصة الجالية السورية في العراق الشقيق من أن كل قطر عربي أو إسلامي مجاور لسورية يستضيف عدداً من المواطنين السوريين ، يبلغون الآلاف ، بسبب الأرحام الواشجة أو العمل أو الزيارة أو التجارة أو ما سوى ذلك من أسباب الاتصال الجغرافي والبشري والتاريخي ، وهؤلاء كلهم اغتربوا بإرادتهم ، وبوسعهم أن يعودوا إلى مسقط رأسهم متى شاؤوا أيضاً بإرادتهم الكاملة . حتى العمال السوريون في لبنان ، الذين ينوف عددهم على المليون نسمة ، عاد معظمهم مع عودة القوات السورية وقبلها ، برغم ارتباط لقمة عيشهم بالدريهمات اللبنانية ، التي كانوا ينحنتونها ، بعيداً عن أهلهم وذويهم وأمهاتهم وأبنائهم . ومتى عادت المياه إلى مجاريها ، في تعافي العلاقات السورية بين القطرين التؤمين . . يتوقع أن يعود العمال السوريون ثانية ، إلى ورش البناء والزراعة اللبنانية ، لأن البطالة في سورية ضاربة الأطناب ، ولا أمل أن تتعافى على المدى المنظور ، أو بجرة قلم .
أما شريحة المهاجرين أو المنفيين السوريين في العراق فقصة أخرى ضمن الجالية السورية ، ونخص بالذكر منهم أنصار التيار الإسلامي الذين هربوا ( بجلودهم ) في الثمانينات وما بعدها من القرن الماضي ، بسبب الظروف الاستثنائية المعروفة التي مرّ بها القطر آنذاك ، ولم يعودوا ، أو لم يستطيعوا العودة حتى الآن ، وهم يعدون بعد الغربلة والتسرب /220/ أسرة محسوبة على الإخوان المسلمين أي ما يعادل أكثر من ألف مواطن ، و/100/ أسرة محسوبة عل حزب البعث المناصر لحزب البعث العراقي ، هذا الرقم هو ما بقي من أشقائنا البعثيين في العراق بعد نزول مئات الأسر الأخرى ، التي سويت أوضاعها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الشقيق .
ولا نذيع سراً ، أو ننساق مع الغيرة والحسد ، إذا قلنا : إن أشقاءنا السوريين المحسوبين على حزب البعث العراقي ، أتيح لهم حمل وثائق اللجوء السياسي إلى العراق قبل الاحتلال وبعده ، كما أتيح لهم أن يتم تسجيلهم لدى مكاتب حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بعد الاحتلال ، وأن يستقبلهم النظام السوري عائدين بعد الوساطات والضغوط المعلومة ، وهذه كلها حقوق طبيعية بل إنسانية ، لا منة لأحد عليهم . أما الجالية السورية المحسوبة على التيار الإسلامي ، فهي معلقة ( لا متزوجة ولا مطلقة ) ، بمعنى أنها مجبرة على الإقامة في العراق بعد الاحتلال ، تتلقى المصائب ككل العراقيين من جهة ، وككل العرب المحاصرين بأمواج الكراهية المستحدثة من جهة ثانية ، وككل السوريين المحسوبين على النظام السوري ، المتهم بالتدخل بالشؤون العراقية الداخلية ، وهم ليسوا كذلك من جهة ثالثة .
في بيان (للمنظمة العربية لحقوق الإنسان) بتاريخ12/10/2004 تعلن فيه ( أن القوات المتعددة الجنسيات تعتقل 250 مواطناً سورياً في السجون العراقية ، وأن هذه القوات تعاملهم معاملة لا تتفق وقواعد معاملة السجناء التي نظمتها الاتفاقيات الدولية . كما علمت المنظمة أن 120 مواطناً سورياً مفقودون في العراق ، وأن أخبارهم مقطوعة ) لذلك طالبت المنظمة السلطات السورية أن تسعى لمعرفة مصيرهم وإعادتهم إلى وطنهم ، كما ناشدت منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان في العراق الشقيق للعمل على إطلاق سراحهم .
أورد بيان المنظمة العربية المذكورة مثلا لاعتقال مواطن سوري فذكرت : ( أن المواطن السوري علي السعيد المدرس في ثانوية الثورة في مدينة الرقة معتقل في سجن < أمّ قصر> في العراق ، علماً بأنه ذهب إلى العراق لإخبار أهل مواطن عراقي وقع له حادث سير على طريق الرقة فتوفي بالحادث ) !!
نعود لشريحة المواطنين السوريين المحسوبين على التيار الإسلامي ، الذين بلغ عدد المعتقلين منهم وحدهم حوالي 40 مواطناً ، معظمهم من نخبة المثقفين ( طلاب ثانوية وجامعية و دراسات عليا ومدرسون ومهندسون وحرفيون ) اعتقل 23 منهم عام 2004م والباقي عام 2005 ، كان آخرهم ثلاثة اعتقلوا بتاريخ 12/4/2005 ( محمد منذر بيدق : خريج جامعي – أسامة محمد عماش المحمد – بسام محمد عماش المحمد : شقيقان – طالبان ) .
مأساة المعتقلين السوريين الإسلاميين أنهم ممنوعون من العودة إلى وطنهم سورية بسبب الرأي ، بل هم محكومون بقانون(49) القاضي بالحكم بالإعدام على كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين الصادر عام 1980م ، ولم يلغ حتى الآن برغم كل تداعياته الرهيبة ، وبرغم إدانة منظمات حقوق الإنسان له ، ومطالبات أنصار المجتمع المدني وأحزاب المعارضة السورية كلها بإلغائه . وحين نزل المواطن ( محمود حاج علي النبهان ) من الموصل إلى سورية بعد احتلال العراق ، حاكمته محكمة أمن الدولة الاستثنائية بناء على هذا القرار، مع العلم أن هذا المواطن من أتباع الشيخ محمد النبهان (الصوفي ) رحمه الله ، وليس عضواً حقيقيا في تنظيم الإخوان المسلمين .
بوسعك أن تتساءل : لماذا لا يخرج هؤلاء السوريون المحاصرون في العراق بسبب الحرب والكراهية المستحدثة للعرب كافة وللسوريين خاصة ؟ لماذا لايخرجون من العراق إلى أي قطر عربي أو أجنبي ، إذا كانت حكومتهم (الرشيدة جداً ) ترفض عودتهم إلى وطنهم ومسقط رأسهم ، وهو حقهم الطبيعي الإنساني ؟ وقد انتظر بعضهم مع الأشقاء البعثيين والناصريين ، وفي ظروف الشتاء القاسي أسابيع بأعدادها على الحدود العراقية السورية ، مع رئيس سورية الأسبق الفريق محمد أمين الحافظ أيام العدوان الأولى على العراق ، ولم تستجب السلطات السورية لنداءاتهم بالسماح لهم بالعودة ، ولا للوساطات العربية في ذلك ؟
الجواب – إذا كنت لا تعلم – فهو أن الجالية السورية في العراق ككل الجاليات السورية التي هاجرت أو هجرت قسرياً في الثمانينات خاصة ، وبسبب (الرأي ) عامة ، محرومة من جوازات السفر والوثائق المدنية طوال عشرين عاماً . وكيف ينتقل المواطن العربي بين الحدود والأقطار العربية بلا جواز سفر أو وثيقة مدنية ، وكيف يدخل أولاده المدارس أو العمل أو التوظيف أو الزواج وما شاكل ؟
لقد أنسونا النشيد العربي العذب :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغــدانِ
إليك قصة مواطن سوري اعتقل على الحدود السورية العراقية في منطقة (القائم ) : في الأيام الأولى للحرب الأمريكية على العراق ، والقصف الشديد على العاصمة بغداد ، حمل المواطن السوري ( جمال محمود الوفائي ) أسرته من زوجة وأطفال إلى الحدود ، ليرسلهم إلى أهلهم في سورية ، وليرجع وحده يمضغ مرارات الغربة وويلات الحرب ، فلما دخلوا موقع الحدود السوري ، وهو ينظر إليهم من بعيد سمع نداء يطلبه ، فظن أن أهله يحتاجون إليه ، فلما اقترب من الموقع السوري هجم عليه ( فرسان الوطنية ) ، واعتقلوه ، وساقوه إلى السجن فالتعذيب ، ولم نسمع عنه خبراً حتى الآن .
أما المواطن السوري (محمد سعيد الصخري) فقد غامر بالخروج مع زوجه وأولاده من العراق كذلك في الأيام الأولى من الحرب ، يريد طلب اللجوء السياسي في بريطانيا ، وقد سبقه إليها ما لا يقل عن خمسين أسرة سورية (حموية) بالطريقة نفسها ، فاعترضته شرطة المطار في إيطالية عند الـ ( ترانزيت ) ، واقترفت واقعة اعتقاله المنافية لحقوق الإنسان ، وسلمته للسلطات السورية التي اعتقلته بدورها ، بتهمة الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين ، لكن منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية أقامت دعوى قضائية على السلطات الإيطالية التي اضطرت أن تضغط على الحكومة السورية ، لتخفيف اعتقاله ، وهو الذي لم يقترف ذنباً ، سوى أنه معارض ، وما يزال حتى يومنا هذا خاضعاً لمحاكمات لا تنتهي !!
برغم الفوضى الواسعة في العراق تعلم السلطات من شرطة عراقية أو قوات أمريكية أن المواطنين السوريين المعتقلين يحملون بطاقة إقامة عراقية من قبل أيام الحرب ، وأنهم مسالمون لا يتدخلون فيما يحدث ، وأن بعضهم اعتقل عرضاً من الجامعة أو الشارع أو من مسكنهم ، وأن اثني عشر منهم اعتقلوا بتاريخ 16/11/2004م دفعة واحدة من مؤسسة (الفيحاء) الخيرية ، المرخص لها أصولا في بغداد ساعة الدوام النهارية ، فيهم مسؤولو الجمعية والمحاسب وأمين السر والحاجب وبعض المراجعين .
إن أول مسؤول عن سلامة هؤلاء المعتقلين وحرياتهم هي السلطات السورية التي ترفض عودتهم إلى وطنهم ، أو حتى منحهم جوازات سفر ووثائق مدنية ، ثم لا تتحرك للسؤال عنهم وإطلاق سراحهم ، برغم الوساطات والنداءات الإنسانية من منظمات حقوق الإنسان . ثم أين تقع هذه القضية الإنسانية الوطنية من استعدادات الحزب الحاكم لإجراءات وتعديل سياسات مصيرية بمناسبة انعقاد ما يسمى القيادة القطرية للحزب الحاكم (إلى الأبد) ، في ظل ظروف داخلية وخارجية بالغة الأهمية ؟ إن التلكؤ في حل مشكلة المنفيين القسريين حتى الآن ، يوحي بانسداد الأفق السوري إلى أجل غير مسمى ، وبنذر بكارثة وطنية لا يعلم حدودها إلا الله تعالى ، وهذا لا يبشر بخير .
والجهة الثانية المسؤولة عنهم هي السلطات العراقية والشعب العراقي ، الذي يعرفهم طوال عشرين عاماً من المسالمة ، و الانصراف إلى كسب لقمة العيش بالجهد الذاتي ، وعدم التدخل في شؤون البلد المضيف ، كما يعلمون بالمقابل معاملة الشعب السوري للاجئين العراقيين في سورية ، وما زالو حتى اليوم يعيشون رافهين مطمئنين بالآلاف في دمشق وحلب وكل المحافظات السورية . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ إنها الأخوة التي نرجو أن لا تتعكر ولا تنقطع ولا يدخلها أي طاريء من دخن أو حساسيات مفتعلة تضر بشعب القطرين الشقيقين . أما يكفي ما بين حكوماتنا من تقاطع وتدابر ، والأمم كلها تتصالح ؟ هل يرضى الشعب العراقي الشقيق أن يتعرض أبناؤهم في سورية إلى مثل ما يتعرض له السوريون اللاجئون في العراق ؟ ثم من هو المستفيد من دق أوتاد الفرقة والتظالم بين شعبين شقيقين متجاورين؟ لذلك نهيب بالسلطات العراقية وبالشعب العراقي الشقيق وقواه الوطنية إلى المبادرة الفورية ، لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية .
وفي الوقت الذي نتوجه فيه بالشكر الجزيل إلى منظمات حقوق الإنسان المحلية والعربية والدولية على ما بذلته وتبذله من أجل إنصاف المواطن السوري المسحوق في الوطن والمهاجر .. نطالبها بتجديد مساعيها وتكثيف جهودها ، لاستدراك أحوال الجالية السورية في العراق ، ونخص بالذكر منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ، وشخص الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان . كما ندعو كل الأحرار في العالم ، وكل ذي ضمير إلى التضامن مع معتقلي الجالية السورية في العراق ، وإلى حل مشكلة أفراد الجالية جميعا ، حلاً إنسانياً عادلاً وعلى وجه السرعة ، سواء بالضغط على حكومتي سورية والعراق لحل مشكلتهم ، أو لإيجاد مخرج لائق بمواطنين أبرياء .
* كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام