محاولات تطبيع إسرائيلية

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي *

[email protected]

لم ينفك الإسرائيليون يحاولون التطبيع مع شعوب البلاد العربية والإسلامية، فلا يتركون مناسبة إلا ويستغلونها لإحداث نوعٍ من التطبيع مع العرب والمسلمين، فتراهم يشاركون في كل مناسبةٍ دولية، ويحرصون على زيارة مختلف البلاد العربية والإسلامية، ويتعمدون التجول في شوارع وأسواق بعض الدول العربية والإسلامية، ولا يترددون في أن يُسمعوا المواطنين أصواتهم وهم يتحدثون اللغة العبرية، ويساومون الباعة العرب على أسعار بضاعتهم، ومنهم من يحرص على أن يعتمر القبعة اليهودية، ويتعمدون أن يبتسموا للمارة، وأن يلتقطوا معهم بعض الصور التذكارية، ومنهم من يصر على دخول مساجدنا، بعد أن يخلع حذاءه على مدخله، وكثيرٌ منهم يطرح التحية بالعربية قائلاً " سلام عليكم " .

ربما كثيرٌ من المواطنين العرب والمسلمين لا يعرفون أن الذين يرطنون بهذه اللغة الغريبة إنما هم إسرائيليون، وأنهم قد جاؤوا من فلسطين المحتلة، وأن أيدي الكثير منهم ملطخة بدماء الشعبين العربيين الفلسطيني واللبناني، فكثيرٌ منهم من الشباب المفتولي العضلات، الذين تركوا للتو ثكناتهم العسكرية، وغادروا دباباتهم وربما طائراتهم المقاتلة في إجازةٍ ترفيهية أو استجمامية بعد حفلاتِ قتلٍ دامية قاموا بها وارتكبوها في حق فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي حق الشعب اللبناني كذلك، وربما كثيرٌ منهم قتل فلسطينيين بيديه، أو اعتقل بعضهم وكال لهم صنوف العذاب، وبعد أن نال منه التعب والإرهاق قرر أن يستجم ويرتاح من عناء الظلم في بلادٍ عربية .

قد تبدو ملامح بعض الإسرائيليين الذين يجوبون شوارع بعض مدننا العربية والإسلامية وادعةٌ مسالمة، ترفض العنف، وتكره الظلم والاستبداد، وتدعو إلى الخير والسلام، وأنها أبداً لم تقتل شيخاً فلسطينياً، ولم تدس بعجلات عرباتها طفلاً فلسطينياً بريئاً، ولم تحتل بيتاً فلسطينياً بعد أن طردت منه أهله وساكنيه، ويبدون وكأنهم يتطلعون إلى السلام، ويسعون له، ويعملون من أجله، وأنهم يحزنون لما يصيب الفلسطينيين، ويرفضون سياسة حكوماتهم الماضية في قتل الفلسطينيين وطردهم من بيوتهم، وتخريب مساكنهم ومزارعهم ومعاملهم، وكأن الذين يرتكبون المجازر والمذابح في فلسطين المحتلة، إنما هم أناسٌ أجانب، جاؤوا من مكانٍ بعيد أو من كوكبٍ آخر، أما هم فهم بريئون من كل تهمة، ومبرؤون من كل جريمة، وعلى العرب والمسلمين أن يصدقوهم، وأن يكذبوا كل صورةٍ تظهر أنهم يحملون البندقية ويطلقون منها النار على كل فلسطيني، وأن الذي يركب الجرافة ويهدم البيوت الفلسطينية إنما هم محتلون آخرون، وليسوا إسرائيليين مغتصبين للحق ومحتلين للأرض .

غريبٌ أمر هؤلاء الإسرائيليين، يمعنون في قتلنا، ويبالغون في أذيتنا، ويتآمرون على قضيتنا ومستقبلنا، ويمارسون ضدنا أبشع أنواع الظلم والقهر، ثم يطالبننا بأن نبتسم في وجوههم، وأن نبش لقدومهم، وأن نفرح بهم وهم يجوبون شوارع مدننا، وأسواق بلادنا، ويريدون منا أن ننسى مآسينا، وأن نشطب ذاكرتنا، وأن نتخلى عن موروثاتنا، وأن نصدقهم رغم أثر فأسهم، فلا نصدق عيوننا وهي ترى معاناة أبناء شعبنا، ودمه المسفوح، وأرضه المصادرة، ومقدساته المستباحة، والحصار المفروض عليه والذي يخلف كل يومٍ المزيد من القتلى ، ويستغربون غضبتنا، ويستنكرون ثورتنا، ولا يستسيغون أن نتعاطف مع أبناء أمتنا، ويرفضون أن نؤازر أهلنا، أو أن نشد عضدهم، أو أن نقدم العون لهم .

ليس غريباً أن يحاول الإسرائيليون إظهار براءتهم من كل التهم الموجهة إليهم، ولا محاولتهم تحسين صورتهم أمام العرب والمسلمين، رغم أنهم يعرفون أن صورتهم قذرة، وأن كل محاولات الكون لتحسين صورتهم ستفشل، ولن يطهرهم من رجسهم سوى إعادة الحقوق إلى أصحابها، والانسحاب من الأرض التي اغتصبوها، وأن يمكنوا الفلسطينيين من بناء دولتهم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم، ولكن الأمر الأكثر غرابةً هو أن يستقبل بعض العرب والمسلمين هؤلاء القتلة على أرضهم، وأن يسمحوا لهم بالتجوال فوق ترابهم، والتبضع من أسواقهم، وأن يسمحوا لأنفسهم بنسيان ما ارتكبوا من جرائم ومجازر، وأن يجعلوا من الإسرائيليين الغريبين عنا شكلاً ولغةً وديناً وكأنهم جزء طبيعي من منطقتنا وأمتنا، ويقفون بالمرصاد معاقبين ومجرمين كل من يحاول أن يصدهم، أو أن يقف في وجههم لمنعهم من اجتياح ذاكرتنا، واستباحة حقوقنا، وإهانة كرامتنا.

ويزيد الأمر خطورة أن تفسح بعض وسائل الإعلام المجال للناطقين باسم جيشهم الغاصب، أو وزير خارجيتهم الحاقد، فيظهرون على شاشات فضائياتنا العربية والإسلامية، وهم يتبجحون ويتظاهرون، فيتهمون المقاومة، ويكيلون التهم للشعب الفلسطيني الأعزل، ويتهمونه بأنه يأوي المقاومة، ويساند المقاومين، لذا فهو يستحق ما أصابه من قتلٍ وتشريد، أما المستوطنون الإسرائيليون " الأبرياء المساكين " فلا أحد يدافع عن حقوقهم، ولا ينطق باسمهم سوى ممن تستضيفهم وسائل إعلامنا من الإسرائيليين الذي يحسنون النطق بلغتنا العربية، ويحسنون كيل التهم لنا، ويتفانون في تبرئة أنفسهم وجيشهم، وإظهاره بأنه دوماً يكون في حالة دفاع عن النفس، وأنه يواجه جيشاً من " الإرهابيين " الذي يعملون على تدمير دولة إسرائيل، فيحيلون المجرم إلى ضحية، ويجعل من الآلة العسكرية الإسرائيلية الجبارة وسيلةً بسيطة ومشروعة للدفاع عن النفس .

الإسرائيليون قلقون على أنفسهم وعلى مستقبل دولتهم، ويدركون أن أي حربٍ قادمة مهما بلغت درجة ضراوتها ضد العرب، فإنها لن تضع حداً للصراع، ولن تجبر العرب والفلسطينيين على التنازل عن حقوقهم في أرضهم ووطنهم، ويدركون أن القوة لن تجعل من إسرائيل دولةً مقبولة ومعترف بها ضمن النسيج العربي المحيط، بل إن القوة ستزيد من حجم عزلة إسرائيل، وستضاعف من حجم معاناتها، وستطيل أمد الصراع وتعقده، لذا فهم يحرصون على مصالحةٍ مع الشعوب، وتهمهم الصورة والمصافحة واللقاء والحوار، ويعتبرونها خطوات حقيقية نحو الاعتراف بإسرائيل كشريكٍ للعرب في المنطقة، وتساعدهم في أن تنسى الأجيال العربية الطالعة كل صور البؤس والمعاناة والقهر والظلم، وألا تبقى في أذهانهم صورٌ عالقة غير صور المصافحة واللقاء والحوار، لذا لا نستخف بهذه المحاولات الإسرائيلية البسيطة، لأنها مساعي منظمة ومدروسة، يعمل لها ويخطط لأجلها الكثير من الخبراء القلقين على مستقبل دولة إسرائيل، وليكن موقفنا القديم هو الموقف الأكيد والأصيل ، والذي يتمثل في أن المصافحة استسلام وليست سلاماً، ولنعد إلى الزمن الذي كان فيه النظر إلى الإسرائيلي المحتل لأرضنا جريمة، ومخاطبته خيانة، ومجالسته عمالة، واستضافته منكر، فهذه المفاهيم تحمى قيمنا، وتحول دون تفريطنا، وتحفظ مواقفنا وثوابتنا  .

               

*كاتبٌ وباحثٌ فلسطيني