بـين الـحزب الوطني وجحـا العـبقري
أ.د/
جابر قميحة
خلاص
خلاص , ياشعب مصر المحروسة, لم يعد عليك إلا أن تدعو للسلطان بالعمر المديد والعيش
الرغيد, والبقاء السعيد ؛ فقد قضي علي الفقر والجهل والمرض, واختفت مشكلات الإسكان,
والبطالة والخبز, والرشوة والتزوير.
وأصبح المجال خاليًا تمامًا, والوقت متسعًا
تمامًا.. للتغني بالعبور الثاني, وبعيد الديمقراطية, والانتصار النفسي والسياسي
المبين, والشعور بالأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي, واستعادة الثقة بالنفس,
واعتبار الذات.
إنها العزيزة الغالية
كل ذلك في العهد المباركي المبارك, تحقق بالتعديل المفاجئ المذهل للعزيزة الغالية
المادة 76, نعم مجرد تعديل في حدود كلمتين «حُط: انتخاب أو اقتراع» و«شيل استفتاء».
ومرت المسألة بتقليبات, وطروحات حارت البرية فيها:
- فقبل التعديل أعلن الرئيس مبارك أن أي تعديل في الدستور باطل.. باطل.. بااااطل
(كجواز عتريس من فؤادة..), واتهم من يدعون إلي التعديل بأنهم عبثيون, وأغبياء,
وعملاء... إلخ. وطبّل المطبلون.. وزمر المزمرون من حملة القماقم, واعتبروا ذلك
حرصًا علي صيانة الدستور من العبث.
- ثم كانت المفاجأة بإعلان الرئيس رؤيته في ضرورة التعديل.. مما أذهل المعارضين,
وسحب البساط من تحت أقدامهم, وقطع ألسنة كل من يقول: إن التعديل جاء بضغط من
الخارج, فالقرار في ذاته قرار عبقري, ثم إن توقيته جعل له مذاقًا رائعًا خاصًا..
كما يري الصحفي سليمان جودة (أخبار اليوم 5/3/2005).
- ثم قيل: إن الرئيس كان يفكر فيه من عام مضي, وقيل: من عامين: وقيل, بل من ثلاثة
أعوام. وأيًا كانت المدة فإنه يبقي هناك سؤال لا أجد له جوابًا وهو: لماذا حكم
مبارك -في قوة وحماسة- ببطلان التعديل, وعبثية الداعين إليه?
علي أية حال مازالت أصوات التمجيد والإشادة هي أعلي الأصوات, وبهذا الإسراف المشتط
دخل المعلم مرجان التاريخ من (......) أبوابه, ولا شك أنه تفوق في هذا النهج علي
شهيرين معروفين: إبراهيم سعدة, وسمير رجب.
وهذه السلطات المطلقة
كل أولئك من أجل تعديل مادة واحدة.. واحدة فقط?! وأقول: إذا كانت قيمة الأمور
والقرارات بنتائجها, وحصائلها, فإننا سنري -ميدانيًا وعمليًا- أن هذا التعديل كَـ«لا
تعديل», ولن يسفر عن أي تغيير, وكأننا يا بدر, لا رحنا, ولا جينا. ولن يحقق هذا
التعديل إلا نتيجتين:
1- الأولي: نتيجة مادية, وهي إهدار ملايين من مال شعبنا المسحوق, وذلك لزوم نفقات
الاستفتاء علي هذا التعديل (وطبعًا: النتيجة معروفة مقدمًا فلن تقل عن 90%.. مع أنه
لن يدلي بصوته أكثر من 1%).
2- والثانية: نتيجة نفسية: تتمثل في صدمة مُرة جديدة للشعب حين يكتشف أن «الخلاف
لفظي», وأن المسألةً "ركْلام " في "ركلام " ؛ فالناجح الوحيد سيكون الرئيس مبارك
حتي لو ترشح أمامه مائة مرشح, فسيادته وراءه إمكانات ودعائيات وإعلاميات, وتركيزات
عمرها ربع قرن, فهو الفارس الوحيد في الحَلبة.. ولا فارس غيره.
أما التعديل الحقيقي المطلوب
أما التعديل الحقيقي الجاد المطلوب فأساسه الرئيسي تقليص سلطات رئيس الجمهورية,
وهي سلطات لا حدود لها, ولا رقيب عليها:
1- فمن حقه أن يعين نائبًا أو أكثر, ويحدد اختصاصاتهم, ويعفيهم من مناصبهم. والنائب
يؤدي القسم أمام الرئيس وحده.
2- وهو الذي يعين رئيس مجلس الوزراء ونوابه, ويعين الوزراء ونوابهم, ويعفيهم من
مناصبهم.
3- وله الحق في حضور جلسات مجلس الوزراء, ورياسة جلساته, وطلب تقرير من الوزراء.
4- وهو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين, والممثلين السياسيين, ويعزلهم من
مناصبهم.
5- وهو الذي يصدر اللوائح, وله الحق في تفويض غيره في إصدارها.
6- وهو الذي يصدر القرارات اللازمة لإنشاء وتنظيم المرافق العامة.
7- ومن حقه إصدار قرارات بقوة القوانين في غيبة مجلس الشعب.
8- وهو الذي يعلن حالة الطوارئ.
9- وله الحق في العفو عن العقوبة أو تخفيفها.
10- وهو القائد الأعلي للقوات المسلحة ويعلن حالة الحرب.
11- وهو القائد الأعلي لجهاز الشرطة.
12- وهو الذي يبرم المعاهدات.
13- وهو الرئيس الأعلي للمجلس الأعلي للقضاء.
ضوابط أم تعجيز?!!
لقد وُضع ما يسمي «ضوابط» لتنظيم عملية الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية, منعًا للفوضي
والعبث. هكذا قالوا: ولكن الواقع يقول: إنها شروط «تعجيزية» : فلابد من حصول من
يتقدم للترشيح علي موافقة عدد من أعضاء مجلس الشعب وأعضاء مجلس الشوري, وأعضاء
المحليات.. أي لابد من موافقة «الحكومة» زيادة علي موافقة عدد كبير من أفراد الشعب.
وبهذا التعجيز «كل شيء انكشفَنْ وبان» كما يقول الممثل عبد المنعم مدبولي, وبذلك
-كما قلت آنفًا- يكون التغيير لفظيًا. و«كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا».
رحم الله جحا..
وأقول رحم الله جحا, وشكرًا للحزب الوطني إذ ذكروني - بهذه الشروط
التعجيزية - بواقعة مشابهة بطلها «عمنا جحا» وخلاصتها: أن رجلاً يسمي (أبا العلاء
الربعي) قال لجحا: أما تخجل من نفسك إذ تكون أضحوكة للناس وخصوصًا: العلية منهم!!؟
قال جحا: إنما أسايرهم راضيًا, وغدًا في سوق بغداد سأريك كيف أسخر منهم جميعًا.
وفي صباح اليوم التالي: ذهب جحا إلي السوق ببغلته الفارعة, وقد علّق في عنقها
«فردة» حذاء قديمة. ونادي: أيها الناس, من يشتري هذه البغلة بدينار واحد ؟؟ فاندفع
إليه الناس: عِلْيتهم وسوقيـّوهم ,كلّ يريد أن يفوز بها, وكاد يقع بينهم قتال شرس.
فقال جحا: ولكنْ هناك شرط واحد: إن على من يشتري البغلة أن يشتريَ معها فردة
الحذاء. فصرخ الناس في نفَس واحد: وبكم فردة الحذاء? فأجاب بعشرة آلاف دينار».
ورحم الله جحا وشرطه التعجيزي. وشكرًا لقادة الحزب الوطني: حزب الأغلبية (!!!)
وشروطهم التعجيزية الرائعة.