تركيا المثقلة بالمشكلة الكردية

ياوز آجار /تركيا

[email protected]

تصدع المشكلة الكردية رأس تركيا منذ عقود، وما زالت تعاني منها، إلا أن الحكومة التركية برآسة رجب طيب أردوغان ابتدأت مبادرة تهدف إلى تسويتها، دعتها بـ(الانفتاح الديموقراطي الشامل). ويبدو من التسمية أن المبادرة لا تنحصر في حل المشكلة الكردية فقط.

هناك أكثر من محاولة في تاريخ تركيا للقضاء على المشكلة، لكن هذه المحاولة تختلف عن سابقاتها من وجوه:

أولاً: وجود اتفاق كامل على الحل بين مؤسسات الدولة، على الصعيد الحكومي والعسكري والمدني، بالإضافة إلى تفاؤل الشارع التركي.

أما في السابق فكانت الجهات العسكرية التي تعدّ نفسها المؤسِّسة الرسمية للدولة تعارض الحل الديموقراطي المدني بحجة الحفاظ على الهوية التركية والوحدة الوطنية.

ثانياً: رغبة واضحة من طرف الأكراد في الحل حتى من المتطرّفين والمنظّمات المسلّحة كحزب العمال الكردستاني، الذين هم جزء من المشكلة، كما أنهم جزء من الحل.

وأعتقد أنه لما تبين من خلال قضية أركنكون وقضية جهاز استخبارات الجندرمة (JITEM) التي اتهمت بارتكاب جرائم كثيرة ضد الأكراد، وقضية منظومة المجتمع الكردستاني (KCK)، أن هناك اتفاقاً غريباً بين بعض العناصر العسكرية والمنظّمات الإرهابية التي تعمل على طول تركيا وعرضها، رأت هذه المنظمات نفسَها مضطرةً إلى التخلي عن الكفاح المسلّح، والخوض في المعترك السياسي.

ثالثاً: ملاءمة الظروف الراهنة للحل، على الصعيد الداخلي والمحلي والدولي.

أما الداخلي فالوعي الديموقراطي المتزايد لدى جميع طبقات المجتمع، والمستوى الاقتصادي المتنامي يوماً بعد يوم، مكّنا الشعب التركي من كشف الغطاء عن القواسم المشتركة بينهم، واعتبار الفروق الفردية والعرقية من عناصر الغناء والثراء، واختراع سبل للعيش معاً في أمن وسلام.. نعم، لما بلغ المجتمع إلى هذا المستوى من النضج الفكري والديموقراطي والاقتصادي ظهرت في النفوس العظمى قدرة على حل المشاكل العالقة المزمنة التي تستهلك مواردهم البشرية والطبيعية منذ عقود مديدة. وليست المبادرة الأخيرة للحكومة في سبيل الحل إلا محاولة صياغة الإرادة الشعبية كقوانين توسّع من دائرة الحريات الشخصية والاجتماعية، وتضمن لكل مواطن حقوقه الطبيعية، بغضّ النظر عن هويته وعرقه وفكره، ومن ضمنها الاعتراف بالهوية الكردية.

أما المحلي فبدأت السياسة الخارجية التركية تستردّ دورها السابق الفعال في منطقتها، بزعامة أحمد داود أوغلو، الذي اتخذ "خفض المشاكل مع الدول المجاورة لتركيا إلى نقطة الصفر والقضاء عليها نهائيا" مبدأ أساسيا في العلاقات الدبلوماسية.  كانت تركيا حتى الأمس في صراع مستمر مع جيرانها (سوريا، العراق مع شمالها، إيران، اليونان، بلغاريا وما شاكلها)؛ لأن الفكر الرسمي المؤسِّس للدولة كان يريد أن يترك انطباعاً في نفوس الأتراك بأن تركيا محاطة بالأعداء، فيخلق بذلك جواً من الخوف والقلق حتى يحدّد السياسة الداخلية والخارجية حسب هواه باستغلال تلك المخاوف والقلقات. أما اليوم فالأمر مختلف جداً، حيث أصبح هناك تعديل في الفكر الرسمي المؤسِّس للدولة، إذ تخلى عن تحديد السياسة من وراء أعداء ومخاوف مصطنعة، وضيّق الفجوة الغائرة بين الدولة والشعب، ثم صار يبني العلاقات بحسب المصالح المشتركة مع الدول المجاورة. ولذلك تحسنت اليوم علاقات تركيا مع جيرانها بسرعة مذهلة، إلى درجة أنها تتدخّل في عملية السلام بالشرق الأوسط كوسيط بين الأعداء. تركيا التي تحلّ مشاكلها الخارجية مع الدول المجاورة ستحلّ عاجلاً أم آجلاً مشاكلها الداخلية أيضاً. لأن تركيا والدول المجاورة لها لن تسمح أن تكون أراضيها مقراً أو مهداً لأي إرهاب وتحت أي مسمى.

وأما الدولي، فإن الدول الكبرى كالولايات المتحدة والبريطانية وآلمايا وروسيا وإسرائيل.. كانت تحكّ وتستفزّ قضية الأكراد والعلويين في تركيا منذ سنوات طويلة، بغيةَ إبقاء تركيا في إطار محدد وفلك معين، وإركاعها أمام مطالب مختلفة. غير أن التطورات الأخيرة التي شهدها العالم أجمع أثبتت أن تركيا دولة لا يمكن التخلي عنها؛ لأنها أصبحت اليوم جسراً بين الشرق والغرب لنقل موارد الطاقة، (البترول والغاز..). فالغرب الذي هو بحاجة ماسة إلى مشروع غاز نابوكو (NABUCO)  للتخلص من الاعتماد على روسيا فقط، والشرق الذي هو أيضاً بحاجة ماسة إلى تركيا لنقل الغاز إلى الغرب، مضطران إلى ترك تحريض القوى الإرهابية ضد تركيا. لأنه لن يرضى الغرب ولا الشرق أن تكون أنابيب الطاقة (البترول والغاز وكذلك الماء) التي ستمر من خالال تركيا لتصل إلى أوربا عرضة لأي تهديد إرهابي. فالاتفاقيات التي تم توقيع أولاها الشهر الماضي بين بعض الدول الغربية وتركيا، وأخراها قبل بضعة أيام بين روسيا وتركيا قد قضت على قضية الإرهاب في أراضي تركيا وختمت تلك الفترة حسب رأيي.

وفضلاً عن ذلك، فإن تركيا التي بدأت تحس بقوتها الكامنة وأهمية موقعها الجغرافي الاستيراتيجي والإرث التاريخي لم تعد ترضى أن تكون ذيلاً للغرب الذي ترأسه الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا، ولا بلداً هامشياً لا وزن له في الاتحاد الأوربي، وإنما تفضّل أن تكون شمساً في منطقتها ومنطقة أوراسيا تدور حولها الكواكب الأخرى.  

وإذ أنا أكتب هذا المقال أستحضر في ذاكرتي الصراع التاريخي بين الأوس والخزج الذي كان يثيره اليهود في يثرب (المدينة)، وكيف كانوا يستنفدون قواهما ومواردهما بإلقاء العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة والأقارب. فهم قدموا إلى يثرب هرباً من ظلم بختنصر البابلي ومن ظلم الإمبراطورية الرومانية المسيحية، فصاروا مصدراً لكثير من المشاكل في قلب المنطقة. وبعد قرون طويلة أعاد التاريخ نفسه، حيث أصبح اليهود مشكلة في الغرب من جديد، فأراد الغرب الذي كانت تزعمه آنذاك بريطانيا أن يخرجها من أوربا ويحملها إلى الشرق الإسلامي، فزرعها في قلب الشرق الأوسط، ليجعل من اليهود أداة تكون عقبة أمام تطوّر الأمة الإسلامية، وتسيطر بها على العالم الإسلامي في الوقت ذاته. فمنذ ذلك اليوم تحوّل اليهود إلى بؤرة تفرخ للمنطقة بل للعالم أجمع أنواعاً شتى من العمليات الإرهابية.

وكما أن الأمة الإسلامية - بعدما تحوّلت يثرب إلى المدينة المنورة - قضت على هذه المشكلة بالمآخاة بين الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين، وبوثيقة المدينة الحقوقية بين شعوب المدينة (ومن بينهم اليهود)، وبالتطوّر الاقتصادي الهائل الذي أحرزه المسلمون بحيث انتقلت السيطرة التجارية من اليهود إلى المسلمين خلال فترة قصيرة، كذلك اليوم ستقضي على المشكلة نفسها بالمآخاة بين الأتراك والأكراد والعرب، الذين قام كل منهم بالدعاية القومية السلبية تجاه الآخر، ونسوا الوشائج المادية والمعنوية التي تربطهم حتى الوقت القريب، بإيحاء من أعدائهم الألداء، وبتطوير العلاقات الثنائية والاقتصادية فيما بينهم، وبسيادة الحقوق الإنسانية العالمية في بلادهم.

أظنّ أن المبادرة الأخيرة للحكومة التركية ستضيّق تدريجياً دائرة الانقسام أو الصراع التركي - الكردي الذي لا يستند إلى أرضية حقيقية، وستقضي عليه كاملاً في النهاية، وخاصة بعدما افتضح أمر منظمة أركنكون التي هي امتداد الولايات المتحدة الأمريكية - منظمة حلف شمال الأطلسي في تركيا، والتي تقنّعت بقناع الدولة العميقة فارتكبت جرائم قتل وظلم باسم الدولة التركية ضد أهالي المنطقة الجنوبية الشرقية التي أكثر سكانها من الأكراد، وحاولت فصلهم عن الأتراك واستياءهم منهم. وفضلاً عن ذلك، فإن الحكومة قامت بمبادرات جيدة جدا لحلّ المشكلة، دع عنك  توقّعها، ما كان بإمكاننا تخيّلها حتى الماضي القريب، حيث كان التكلّم باللغة الكردية محظورة. ومن أهمّ تلك المبادرات – على سبيل المثال لا الحصر - أنها أنشأت محطة تلفزيون رسمي ضمن (TRT) يبثّ باللغة الكردية 24 ساعة.  

وحينئذ لن يقف أمام تركيا المخففة من المشكلة الكردية - التي هي بمثابة حدبة كبرى على ظهرها - أي شيء للانطلاق نحو آفاق المستقبل.

نعم هذه المرة يبدو ضوء في نهاية النفق، إن لم تعرقل المبادرة أيدي لوبي الحرب الظالمة المظلمة التي تتغذى من العداوة والحرب، وتستمدّ وجودها من المشاكل.