بعد مرور نصف قرن على تأسيس كلية الشريعة هل نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني؟

بعد مرور نصف قرن على تأسيس كلية الشريعة

هل نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني؟

عزيزة السبيني

جرت محاولات إجهاض التطلعات نحو نهضة عربية، تنبثق من الأفق الثقافي للحضارة الإسلامية، منذ الحقبة الاستعمارية الأولى في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.. وقد أسفرت هذه المحاولات التي تشنّها الأوساط الغربية وحليفتها في الشرق الأوسط الصهيونية عن وجهها بدءاً من نكسة حزيران 1967م، وتصاعدت بعودة الاستعمار عام1991بحرب الخليج الثانية، ثم الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وأخيراً احتلال العراق، وماتلا ذلك من أزمات.
تأكيد «الصورة الحسنة» بدلاً من الحديث عن «تحسين الصورة»
كثيرون في بقاع العالم العربي والإسلامي وقعوا في فخ الانكماش على النفس ولعب دور نفي التهم، التي انهالت عليهم باعتبارهم مسلمين، منذ إعلان بوش «الحرب على الإرهاب» بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، فقد بدا واضحاً أن الحرب على الإرهاب كان يستبطن «الحرب على الإسلام»، وبدلاً من أن يتم تأكيد أن الفكر المتطرف هو فكر هامشي لايمثل فكر جماهير المسلمين اندفع الكثيرون للحديث عن «تحسين صورة الإسلام» بدلاً من «تأكيد صورته الحسنة». ‏
ثم إن التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم تحتم على المفكرين والمشتغلين في حقل العلوم والفكر الإسلامي أن يقدموا خطاباً جديداً ومرناً يواكب التطورات، ويفتح آفاقاً جديدة للشراكة مع العالم الحديث، وعلى هذا الأساس فإن الدعوة إلى تجديد الفكر الإسلامي ـ وإن دعا إليه أعداؤه ـ بات أمراً ملحاً؛ وضرورة تاريخية. ‏
لقد أسهمت مؤسسات التعليم الإسلامية العريقة في العالم العربي في بث روح الاعتدال؛ لكن التطورات الأخيرة التي تجتاح العالم تفرض علينا السؤال عن دور هذه المؤسسات في الأزمات الراهنة، لاسيما فيما يتعلق بـ «تثبيت الصورة الحسنة والمعتدلة للإسلام»، وتقديم الفكر الإسلامي المتنور. ‏
ونحن في سورية يحق لنا ـ بعد مرور نصف قرن على تأسيس كلية الشريعة في جامعة دمشق ـ السؤال عن دور هذه المؤسسة العريقة في ذلك، ونتساءل:
إلى أي مدى نشعر بالحاجة إلى تجديد خطابنا الديني؟ ولماذا لانسمع من داخلها نداءات لتجديد الخطاب الإسلامي وتأسيس خطاب ديني وطني؟ هل فقدت هذه المؤسسة مرونتها مع عوادي الزمن؟ أم أن انكماشها الشديد نحو خطاب الهوية لم يسمح لها بتفهم العصر؟ وماهو الدور الذي يجب أن تلعبه كلية الشريعة في موضوع تجديد الخطاب الديني؟ وكيف يمكن لخريجيها أن يؤدوا دورهم تجاه دينهم وأمتهم وحضارتهم إذا لم يكن خطابهم تنويرياً وعصرياً؟ ‏
قبل الإجابة عن هذه التساؤلات كان لابد لنا من استعراض تاريخ كلية الشريعة والحديث عن أهم المفكرين الذين برزوا فيها: ‏
تأسست كلية الشريعة بجامعة دمشق في العام1954ولاتزال حتى الآن في مبناها الأثري. ساهم في تأسيسها العلامة المفكر مصطفى السباعي وعُيّن أول عميد لها، امتازت تلك الفترة بالأفكار التنويرية حيث أنتجت مئات الأبحاث، وعشرات الكتب في مختلف الموضوعات الفقهية والفكرية التي تعكس الصورة الحقيقية للإسلام، ولاسيما فيما يتعلق بواقع المرأة بين الفقه والقانون والأخلاق الاجتماعية عامة؛ وكتب أخرى تحدثت عن اشتراكية الإسلام، وبعد مصطفى السباعي تولى عمادة الكلية المفكر الداعية محمد المبارك التي عكست مؤلفاته واقع الأمة العربية في معركتها مع الذات والهوية، كذلك نراه يتحدث عن جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي، وتركزت دعوته في إيجاد صيغ إسلامية تنويرية في علم الاجتماع بدلاً من الارتكاز على الأفكار الغربية التي تتناقض بشكل أو بآخر مع الأفكار الإسلامية. ‏
في هذه الفترة تخرج من كلية الشريعة بجامعة دمشق متخصصون تولوا مناصب الإفتاء والقضاء الشرعي في سورية وبعض الدول العربية، واستطاعت الكلية تحقيق أهدافها، فرسّخت صلتها بالعالم العربي والإسلامي، وشارك خريجوها في الكثير من المؤتمرات الدولية الباحثة في القضايا الإسلامية، وكانت من الناحيتين العلمية والتطبيقية نبراساً وأساساً لنظم كثيرة من كليات الشريعة والقانون في الجامعات العربية مثلما حدث في تطوير الأزهر والجامعة الإسلامية في أم درمان وغيرها من جامعات العالم الإسلامي، كذلك كانت الرائدة في العالم العربي الإسلامي حيث أسس أساتذتها أول موسوعة للفقه الإسلامي عام1956. ‏
قدمت كلية الشريعة وأساتذتها وطلابها في تلك الفترة صورة حقيقية عن الإسلام القادر على التلاؤم مع العصر، والتعامل مع منجزاته المعرفية دون خوف أو تردد. ‏
من هنا نرى أن كلية الشريعة قد لعبت دوراً ريادياً في تخريج كوادر علمية حملت خطاباً دينياً تنويرياً معتدلاً. ‏
للإجابة على التساؤلات التي طرحناها بداية، كان لابد لنا من لقاء مجموعة من الطلبة والخريجين للوقوف حقيقة على دور هذه المؤسسة في معالجة الأزمات الراهنة، وفي تثبيت الصورة الحسنة والمعتدلة للإسلام، وتقديم الفكر الإسلامي المتنور، فكانت حصيلة هذه اللقاءات إجابات متعددة لخّصناها بالنقاط الآتية: ‏
1 ـ هناك اتجاه فكري واضح، يحمل فكراً تنويرياً تجديدياً، منتشر بين الطلاب والخريجين. ‏
2 ـ الاتجاه العام في الكلية، هو اتجاه محافظ، وانطلاقاً من ذلك فإن هناك حساسية من الفكر الإصلاحي الجديد، وانتشاره النامي الذي عادة مايوصم من قبل الاتجاه العام بـ «الحداثي»، وبالتالي فقد لاحظنا بأن هناك محاولة دؤوبة للتحذير منه، ومراقبته!! إن جاز لنا التعبير. ‏
3 ـ الاتجاه العام السائد بين الطلبة هو (المحافظة) غير أن الميزة التي تقدمها الكلية للطلبة، بأنها تقدم لهم أرضية فقهية ذات أسس متينة، فلم نلاحظ أية اتجاهات متطرفة، واللغة السائدة هي لغة تنبذ العنف وترفضه تماماً. ‏
ولتفسير هذه النقاط كان لابد لنا من الاتصال بالدكتور فاروق العكام عميد كلية الشريعة الذي اعتذر عن لقائنا وطلب منا التوجه إلى الدكتور وديع اللحام وكيل كلية الشريعة للشؤون العلمية.. ولدى سؤالنا له عن وجود تيار تجديد ديني بين بعض المعيدين والطلاب أجاب قائلاً: ‏
لنفهم أولاً ماالمقصود بكلمة تجديد، وبكلمة خطاب، وماالمقصود أيضاً بكلمة ديني، هذه المفاهيم لها شروحات واسعة ومتعددة، ولايمكن شرحها أو تبنيها في كلية الشريعة بالمعطيات والظروف المتوافرة حالياً.. هذه المفاهيم تحتاج أولاً إلى مراكز استراتيجية متخصصة لتتبناها، وثانياً لن نسمح بأن تتحول منابر الكلية إلى ساحة للإفتاء لأن هذا ليس من أهدافها، الهدف الأساسي لكلية الشريعة هو التربية والتعليم وفق المناهج التي حددتها وزارة التعليم العالي والأنظمة والقوانين. نقوم بتدريس أسس الإسلام المستندة على القرآن الكريم والسنة والفقه. تتلخص وظيفة كلية الشريعة في رفد المجتمع بالكوادر التعليمية (مدرسي تربية دينية)، قد يكون لبعض المدرسين دور آخر وهو منهج توجيهي إلى قراءات ثقافية عامة. ‏
ـ ذكرتم أن البحث بمسألة التجديد بحاجة إلى مراكز دراسات، فلماذا لاتنبثق مثل هذه المراكز عن الكلية؟ ‏
ـ نحن ندرك أن الأمة الإسلامية والعربية على وجه الخصوص، تواجه هجمة شرسة على معتقداتها، وتاريخها، وحضارتها.. والتصدّي لهذه الهجمة مسؤولية جميع أفراد الأمة بكل شرائحها وعناصرها، فإذا فكرنا في إقامة مركز دراسات لابد من تحديد الأولويات.. دورنا في الكلية يقتصر على طرح الأفكار، ولكن للأسف لايوجد أية استجابة ليس لتطبيق هذه الأفكار وإنما حتى لمناقشتها، وإلى اليوم وبعد مرور (50) عاماً على تأسيس الكلية لم تستطع تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها.. وهناك مشكلات داخلية نعاني منها، يوجد في كلية الشريعة حوالي9000 طالب يتوزعون على أربع قاعات، هناك مشكلة أيضاً في عدد المدرسين الذي لايتناسب على الإطلاق مع عدد الطلاب، وإن وجد مدرسون فلا يوجد لهم مكاتب، أو حتى أماكن يجلسون فيها، لاتوجد سكرتارية تتابع الأعمال الإدارية لمسؤولي الكلية، لايوجد قاعة لطلاب الدراسات العليا، نحاضر لهم في مكاتبنا، ومنذ عشر سنوات ونحن نطالب بقاعة مكتبة للطلاب؛ هذه المكتبة قد تكون بوابة للعبور نحو الدراسات والأبحاث؛ هذه المشكلات التي نعاني منها كان من المفترض أن تنتهي منذ زمن بعيد.. لذلك ترين بأننا نطالب بالأولويات، وعندما تتوفر هذه الأولويات نفكر في البحث عما وراءها. وهناك أيضاً مشكلة أخرى لها علاقة بالطالب وليس بالكلية فنحن نلاحظ أن بعض الطلاب يأتون إلى كلية الشريعة لأن الكمبيوتر قد اختار لهم هذا الاختصاص، والبعض الآخر يقتصر طموحهم في الحصول على الشهادة بغية العمل في دول الخليج، ولتخفيف العبء عن كاهل الكلية نطالب الجهات المعنية بإقرار كليات للشريعة في مختلف الجامعات السورية أسوة بغيرها من الاختصاصات، وتوفير الكادر التدريسي.. عندها يتسنى لنا التفكير في البحث وإقامة مركز دراسات استراتيجية تابع للكلية، يقوم بالبحث وفق منهج مدروس. ‏
إن مسؤولية هذه المؤسسة العلمية العريقة التي طال تأثيرها العالم العربي والإسلامي، وعُرِفَ خريجوها بالوسطية والاعتدال، نأمل أن تستأنف دورها في توليد خطاب إسلامي جديد، وتكون منبراً لردِّ التحدي العولمي، واستجابةً لضروريات التنمية الوطنية لتستعيد وجهها المشرق ومكانتها الإسلامية والعربية