آلية حشد الجماهير الغفورة في انظمة الإستبداد!!

آلية حشد الجماهير الغفورة في انظمة الإستبداد!!

د. أحمد أبو مطر *

مظاهرة المليون في دمشق إعادة إنتاج لمظاهرات صدام وإنتخاباته!!

مظاهرة المليون في دمشق يوم الثلاثاء الماضي، حتى ولو شارك فيها مليونان أو ثلاثة، لا يمكن أن تكون عند أي مراقب موضوعي ومحايد، شهادة حسن سلوك للنظام  البعثي السوري، وذلك لأسباب عديدة، أهمها:

أولا: إن جرائم هذا النظام وتعدياته البشعة على حقوق الإنسان السوري واللبناني، لا يمكن إخفاءها بهكذا مظاهرات، وللتذكير فقط بواحدة من هذه الجرائم، فنحن على بعد ساعات قليلة من الذكرى الأولى لمجزرة النظام في مدينة القامشلي بحق أبناء الشعب الكردي، ولمن نسيّ أو لم يسمع بها، نعود به إلى يوم الثاني عشر و الثالث عشر من شهر مارس – آذار، العام الماضي 2004 ، اللذين شهدا مجزرة رهيبة بكل المقاييس الإنسانية، ضد أبرياء عزل في مكان غالبا ينبغي أن لايشهد إلا التسامح والإنسانية، وهو ملعب كرة القدم بالمدينة، لدرجة أنه في الحياة العربية اليومية، عندما تريد نصيحة صديق بأن يكون متسامحا وحضاريا، تقول له ( خلي روحك رياضية )، ولكن العصابات البعثية السورية الشقيقة التوأم لعصابات بعث صدام الإجرامية، لا يمكنها التحلي بأية روح رياضية حتى في ملاعب كرة القدم. في ذلك اليوم، كانت مباراة كرة قدم ستجري بين فريق ( الفتوة ) القادم من دير الزور وفريق مدينة القامشلي الكردية. في يوم المباراة، جاء مشجعو فريق ( دير الزور ) بالعديد من الحافلات، يهتفون بحياة المجرم صدام القاتل صدام حسين، ويرفعون صوره، وهم يعرفون مسبقا أنهم قادمين إلى مدينة سورية – كردية، وشعبها والشعب الكردي في كافة أجزاء وطنه المجزء، يعرفون حجم جرائم ذلك القاتل وعصاباته بحق إخوانهم أبناء الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق، مما أوحى بأن الجماهير القادمة من ( دير الزور )، كان مخططا لها أن تفتعل المشاكل والتحرشات بالجماهير الكردية في مدينة القامشلي، كي توجد المبرر لتدخل قوات الأمن والجيش، وإرتكاب المجزرة التي إرتكبتها، خاصة أن الجميع في سورية يعرف أنه لا يجرؤ أي مواطن على رفع أية صورة إلا صور الأسدين ( حافظ و بشار )، لذلك فلا أحد يجرؤ على رفع صور المجرم صدام والهتاف بحياته، إلا بإذن وإيعاز، تم التخطيط له في أقبية المخابرات السورية. من يتخيل المشهد التالي الذي نقلته العديد من وسائل الإعلام، عمّا جرى في ذلك اليوم: ( إرتفع عدد القتلى إلى خمسين والجرحى بالمئات، ومحافظ الحسكة سليم دعبول، الحاكم العرفي للمحافظة بموجب قانون الطوارىء منذ واحد وأربعين عاما، يقود عمليات القمع والقتل ميدانيا، ودبابات الجيش السوري تجتاح مدينة القامشلي الكردية، وصدرت أوامر لسرب حوامات الهليوكبتر القتالية في دير الزور، بالتحرك للمشاركة في عمليات القمع الدموية، ومعلومات عن أوامر من القيادة العليا بنقل قوات من دمشق إلى القامشلي )....لو حذفنا من هذا الوصف الذي أوردته العديد من وكالات الأنباء، إسم مدينتي دير الزور و القامشلي، وعرضناه على أي مواطن عربي، وقلنا له إن هذا الوصف يخص الوضع في سورية، فأحزر أين جرت تلك الأحداث، لما تبادر إلى ذهنه إلا أنها تحركات تخص الجيش السوري لتحرير الجولان المحتلة منذ عام 1967، دون أن يطلق النظام البعثي في عهدي الأب والإبن أية رصاصة من أحل تحريرها، في حين يقوم بكل هذه التحركات العسكرية لقتل غير مبرر للشعب السوري كردا وعربا، وكأن هذا النظام قصده الشاعر العربي، قبل مئات السنين بقوله ( أسد عليّ وفي الحروب نعامة!!!) قولا و فعلا.

ثانيا: إن جميع من عاشوا في سورية، وخبروا الحياة السورية التي تسيطر عليها ليلا ونهارا أجهزة المخابرات التي تزيد فروعها على عشرين فرعا، يعرف بالمطلق آلية حشد الآلآف لأية مظاهرة يريدها النظام للتغطية على جريمة أو حدث ما، وهذه الآلية تتبع ما يلي:

1 -  يجب أن تكون المظاهرة في يوم عمل ودراسة، وأتحدى إن جرت مظاهرة في سورية البعث يوم جمعة.

2-  يتم إخراج طلاب المدارس خاصة الثانوية والمتوسطة وطلاب الجامعات والمعاهد في طوابير منتظمة، وبأوامر صارمة، والويل لمن يترك مكان المظاهرة قبل إنتهائها، وغالبا ماتنتهي المظاهرة قبل أوقات الدوام المدرسي والجامعي، فيعود الطلاب لبيوتهم وقد كسبوا ساعة أو ساعتين من الدوام.

3-  يتم إخراج كافة موظفي الدولة من أعمالهم مباشرة إلى مكان المظاهرة، وتنص الأوامر على العودة بعد المظاهرة إلى مكان العمل، وبالتالي لا يجرؤ مواطن على ترك المظاهرة والعودة إلى منزله.

4- يتم جلب المواطنين بالأوامر الصارمة من القرى والمدن المجاورى بوسائط النقل التابعة للدولة، وأيضا من أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم.

5- يتم الزج بالآف من رجال الجيش والمخابرات بملابسهم الميدانية وسط المتظاهرين إجباريا، لزيادة العدد وللمراقبة في نفس الوقت.بهذه الطريقة التي عشناها وخبرناها في سورية لسنوات عديدة، تستطيع أجهزة المخابرات بسطوتها ورعبها المعروف، أن تحشد مليونا، ومليونين إن أرادت...وأتذكر أنه إن كانت هناك مظاهرة تأييد للنظام في موقف معين، لا نجرؤ نحن غير السوريين وغير البعثيين والعاملين في أعمال خاصة، أن نستمر في عملنا وقت المظاهرة، لأن وشاية صغيرة من أي شخص بينك وبينه عداء ما، ينتج عنها مداهمة المكتب، ولا يعلم إلا الله، إلى أي فرع مخابرات إقتادوك، فكنّا وقت أية مظاهرة نغلق مكاتبنا الخاصة، ونعود إلى بيوتنا، وأتحدى إن كان يجرؤ أي مواطن في وقت المظاهرة أن يجلس في مقهى أو مطعم، لأن هذه الأماكن يغلقها أصحابها طوال فترة المظاهرة.

هذه الترتيبات البعثية السورية، هي صورة طبق الأصل عن مظاهرات المجرم صدام وإنتخاباته، فمن ينسى إنتخاباته التي أجراها قبل شهور من سقوطه غير الماسوف عليه، عندما جعل نسبة المصوتين له مائة بالمائة، وكأنه في ذلك اليوم المجيد لم يمرض ولم يمت أي مواطن عراقي، كي تجيء النسبة الأربع تسعات المتعارف عليها منذ خمسين عاما في كافة أنظمة الإستبداد العربية!!.

في مظاهرة المليون الدمشقية، كانت أكثر اليافطات إنتشارا، التي كتب عليها: (بايعناك بايعناك يابشار بايعناك )...عندما رأى الرئيس بشار هذه اليافطة أو أخبروه عنها، ألم يتبادر لذهنه أن هذه الجماهير الغفورة تنافقه خوفا ورعبا، لأنه يعرف أن أحدا لم يبايعه، وأن الأسد الوالد أعدّه لوراثته قبل وفاته، وهناك الحرس القديم السياسي والمخابراتي والعسكري الذين غيّروا الدستور، وفصّلوه على مقاس بشار، عندما غيروا المادة الخاصة بسن الرئيس، وجعلوها أربعة وثلاثين عاما، تماما حسب عمر بشار عند توريثه قبل خمس سنوات تقريبا...ألا يخجل أعضاء مجلس الأمة الذين وافقوا على التوريث وتغيير الدستور من أنفسهم وأهلهم وشعبهم ؟؟؟.

لأن تغيير الدستور، يعني أنه لا يوجد دستور، ونقل البعث السوري ممارساته الإستبدادية هذه إلى لبنان، فغيّروا الدستور اللبناني العام الماضي كي يمددوا لأميل لحود ُثلاث سنوات رئاسية جديدة...

لذلك وبناءا على ما هو معروف من آلية حشد الجماهير بالرعب والخوف في سورية، لن تكون مظاهرة المليون ولا المليونين شهادة حسن سلوك لنظام لا يحتاج إلى شهادة في سوء سلوكه في سورية ولبنان....ولننظر ألى إعتصام لجان حقوق الإنسان السورية ( الخميس التاسع من مارس الحالي )، إحتجاجا على قوانين الطوارىء التي عمرها حتى الآن إثنين وأربعين عاما، أي ستة سنوات قبل ميلاد الرئيس بشار....من يصدق هذا ؟؟. وفي أية غابة نعيش ؟؟. إن إعتصام لجان حقوق الإنسان، حتى لو شارك فيه المئات فقط، فهو الأصدق تعبيرا عن مشاعر الشعب السوري، لأن هذه المئات فعلا كفدائيين حملوا أرواحهم على أيديهم، وكأنهم قصدوا أن يكون إعتصامهم هذا مباشرة بعد مظاهرة الجماهير الغفورة المحشودة بالقوة والرعب والخوف، ليقولوا للعالم أجمع: نحن المئات من نعبر عن الجحيم الذي يعيش فيه المواطن السوري منذ وصول البعث الدموي للسلطة، وأيضا عن طريق الدم وقتل من كانوا رفاقا بعثيين...أعان الله الشعب السوري، وعلّ يوم الخلاص قريب، عندئذ سنرى المظاهرات الشعبية الصادقة المعبرة عن عواطف الجماهير، كما شاهدنا عند سقوط صدام وأصنامه في ساحة الفردوس، الشبيهة بساحة الأمويين في دمشق!!!

       

* كاتب وأكاديمي فلسطيني، مقيم في أوسلو