اعتقال الحاخامات...
لنتوقف قليلاً
ابتهال قدور
ربما لم تكن قضية القبض على الحاخامات والسياسيين في قضايا فساد، والتي تمت مؤخراً في ولايتي نيويورك و نيوجرسي، من تلك القضايا التي تهزنا أو تجعلنا نطيل الوقوف عندها...فلماذا نقف؟ وماشأننا في كل ذلك؟ ونحن أصلاً نثق بمعطيات التاريخ القديم والحديث التي تشير إلى أن معظمهم بعيد عن طهر اليد، خاصة عندما يكون المال في الميزان... معطيات جعلتنا على يقين بأنهم لايجدون مانعاً في أن يحققوا الكثير من الغايات التي تبررها الوسائل...
فما من مشكلة عندهم أن تُسرق الأوطان من مواطنيها، أو تُنهب الأموال من مالكيها، أو تُغتصب البيوت من ساكنيها، أو تُختطف الأعضاء من أجساد أصحابها، أو تزور الوثائق، أو تستغل المناصب، أو تباع الضمائر، أو تغسل الأموال القذرة...إذا ماكان هذا في النهاية يصب في خدمة قضية بائسة يرونها مجدية !
ولأننا متأكدون من كل ماسبق بالتجربة الحية، فلا عجب لدينا يستدعي التوقف أمام هذا الخبر، الذي تتناقل فضائحه المشينة مختلف وسائل الإعلام العالمية..
ولكنني أحببت التوقف هنا لإبراز أمرين اثنين..
الأمر الأول يتمثل في عجبي وامتناني لأمر القدر، الذي استقدم هذه الفضيحة بعد عدة أشهر من إيقاف جمعية خيرية إسلامية وهي جمعية "الأرض المقدسه" التي كانت تعتبر من أكبر الجمعيات الخيرية الاسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث اعتقل المسؤولون عنها وحوكموا، ليواجه رئيسها مفيد مشعل أخو خالد مشعل حكماً بالسجن لعشرين عاماً... ويواجه أعضاء آخرون في الجمعية أحكاماً أخرى، والتهمة هي استغلال العمل الخيري الانساني في إرسال أموال الى حماس!
عشرون عاماً من السجن إذاً لرجال يخدمون قضية عادلة، يدافعون عن وطن مسلوب، وأرض محتلة.. وكل ما يريدونه بعض سلاح يردون به القتل عن أنفسهم وأبنائهم ونسائهم وشيوخهم، هذه أضحت جريمة في العرف الرسمي عربياً ودولياً!
ولن أناقش هنا حق حماس المشروع في الحصول على أدوات لرد العدوان، وسأرتضي بتسطيح نظرتي، وقبول أن جمعية "الأرض المقدسة" قد خالفت قانون الترخيص، الذي لايتيح لها إلا الأعمال الخيرية الانسانية، وهي بالتالي تستحق العقوبة ، ولكن حتى في هذه الحالة علينا أن نصاب بالدهشة، فأي تناسب مفقود هو ذاك الذي يبدو واضحاً بين طبيعة المخالفة وحجم العقوبة!
وهنا لانستطيع أن نستبعد ماقيل من كونه حكماً مسيساً...وليس هذا بجديد في عالم تهيمن عليه قوة وحيدة فتميل بكفة الميزان لناحيتها فارضة بذلك تقييماتها للأمور والمصالح والتوازنات...
وعلى أية حال، وأمام هتين الحادثتين اللتين يجمعهما العمل الخيري، على العالم أن يلاحظ ويدرك الفارق، بل الفوارق الواضحة بين جمعية "الأرض المقدسة" الإسلامية الخيرية، وجمعياتهم الخيرية ...أما الأولى فهي خيرية فعلاً، ولا تستطيع إلا أن تكون كذلك، لأن الانسان في شريعة المسؤولين عنها هو الأعلى قيمة، والأغلى ثمناً من أية مصالح سياسية، بل لعل السياسة وتحركاتها كلها، تسعى في النهاية لصالح هذا الانسان وتحقيق أمنه وحماية نفسه وعرضه ودينه وماله وعقله... وهي حين تتجاوز القانون فهي لاتتجاوزه لإفساد في الأرض، أو لإنجاز سرقات ورشاوى أو لمتاجرة في أعضاء البشر، إنما تتجاوزه بما لا يتنافى مع أهدافها السامية، وبما لايتعارض مع المنظومة الأخلاقية الراقية، وهي حين تفعل ذلك إنما تفعله مضطرة، بعد أن سُدت في وجهها كل الأبواب التي تسمح لها بالدفاع عن نفسها، ولم يتبق لها إلا منفذ التحايل على القوانين.
وهذه حقيقة، حتى وإن فعلت الدعاية الإعلامية الأفاعيل في تحريف المواضيع وتزييفها. فماذا يزيفون؟ ومن لايدرك اليوم من شعوبنا أن هؤلاء المخالفون الذين حكم عليهم بالسجن لسنوات طويلة، هم شرفاء يحملون على صدورهم أوسمة العزة والرفعة على الرغم من مخالفتهم لقانون الترخيص!!
على العكس من هؤلاء الشرفاء، يأتي أولئك الذين ادعوا العمل الخيري، بينما هم يفسدون في الأرض، ويرتكبون جرائم انسانية، ويتلقون الرشاوى، ويغسلون الأموال القذرة، ويستغلون مناصبهم الحساسة لأغراضهم الخاصة غير الشريفة...لقد كشفت التحقيقات عن " صورة مشينة لزعماء دينيين يترأسون جماعات لغسل الاموال يعملون كزعماء لعصابات الجريمة... هم استخدموا هيئات خيرية .. هيئات يفترض أنها أنشئت للأعمال الخيرية، كوسيلة لغسل ملايين الدولارات من أموال اكتسبت بطرق غير مشروعة." "وجاء في مستندات القضية أن التحقيق يدور حول مخبر اتهم باحتيال مصرفي عام 2006 وتخفّى في صفة صاحب شركة صغيرة للتنمية العقارية يسعى لتنفيذ مشروعات، والحصول على عقود في شمال نيوجيرزي بين بروكلين وديل ونيوجيرزي واسرائيل، واتهم المعتقلون بتبييض ملايين الدولارات من خلال كيانات خيرية لا تهدف الى الربح يسيطر عليها حاخامات في نيويورك ونيوجيرسي واتهمت إحدى الشكاوى الجنائية العديدة المقدمة في القضية رجلا من بروكلين يدعى "اسحاق روزنبوم" بالتآمر للتوسط في بيع كلية بشرية مقابل 160 ألف دولار للشخص الذي سيجري له زرع الكلى" هذا بعض ماذكرته وكالة رويترز عن عصابة الحاخامات... ونحمد الله أن تهماً كهذه لم تثبت على أي من الجمعيات الخيرية الإسلامية...على حد علمي.
أما الأمر الثاني...والذي لا مهرب من الاعتراف به فهو تلك الجمالية التي تخلقها سيادة القانون، إذ لا تمييز من حيث المبدأ بين هذا وذاك... جمالية الإقرار العملي بأن من يخالف يلقى جزاؤه، قد يكون بعض التواطؤ والانحياز في الأحكام، وهذا أمر تلعب فيه الأهواء الفردية، والمصالح السياسية الدور الأكبر، إلا أن تلك النظم من حيث كونها قاعدة تأسيسية، فما من شك في أنها تظل نظماً صحية ترتقي بالشعوب وبالأمم وتتيح لها تحقيق العدالة، وكشف الفساد. ولكم نتطلع إلى نظم مشابهة تسود دولنا، فيكون القضاء المستقل والنزيه هو الحكم، ويكون الجميع سواسية كأسنان المشط!
مازالت قضية الحاخامات تتفاعل، ومازال الكثير من الرجال ذوي المراكز المرموقة والموثوقة يتساقطون، ومازلنا نتابع لنرى هل الأحكام ستكون في مستوى الأحكام التي صدرت على مسؤولي الأرض المقدسة الشرفاء، فنقر بأنه القانون وفلسفته، أم أن السياسة ستفعل فعلها، واللوبي الصهيوني سيقول كلمته...
*كاتبة سوريه مقيمة في الكويت