لكَ الله.. يا شعبنا المحزون

لكَ الله.. يا شعبنا المحزون

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]

قالوا: إن أمهر الأقوياء, وأبطل الأبطال في العالم هو الإنسان المصري, لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يدخل الأوتوبيس من نافذته, ويغادره من نافذته كذلك.
وأضم إلي هذه المقولة قولي: إنه أقدر البشر علي التحمل, وأشد الناس صبرًا علي المصائب والمكاره, في صمت الراضين أو استسلام المكرهين. ولولا هذه السمة لفني هذا الشعب المسكين دون اللجوء إلي تحديد النسل أو تنظيمه.
الوقاية والعلاج
وعلي سبيل الاستطراد نذكّر بحقيقة غير خافية, وهي أن دول العالم كلها تؤمن بأن «الوقاية خير من العلاج», وفي سبيل تحقيق هذه الحقيقة عمليا نراها تعتمد علي هيئات ومؤسسات, تبني «الوقاية» علي أسس علمية دقيقة, وحسابات مدروسة لتتفادي الأخطار والمضار قبل وقوعها.
أما حكوماتنا - وخصوصًا تلك التي قامت ابتداء من قيام الميمونة سنة 1952 - فتؤمن بأن «العلاج خير من الوقاية» وفي نطاق هذه القاعدة المعكوسة, نري - من البدهي - أن نقرر أن نفقات هذا العلاج تكون أضعاف أضعاف ما تكلفه الوقاية.
كما أن هذا العلاج - بمفهومه الشامل - غالبًا ما يكون صعبًا جدًا, بل مستحيلاً, إذا ما جاء متأخرًا, أو بعد فوات الأوان, بل نري حكوماتنا كثيرًا ما تغفل العلاج, وتتركنا نعيش تحت وطأة ازدواجية سلبية خانقة, مؤداها: «لا وقاية, ولا علاج». مما يجعل تردًّي الأحوال - سياسيًا, واجتماعيًا, واقتصاديًا, وسلوكيًا, وتعليميًا - هو القاعدة المطردة التي لا تخيب.
ويبقي شعبنا المحزون «حمالاً للأسية», يلعق المر, ويعيش الفقر والجهل والمرض, ولا يلقي من «الكبار» إلا كلمات التشجيع, والتقدير لصبره وتحمله, والوعود المكذوبة» فإذا كان اليوم مرّا, فإن غدا يحمل الرفاهية والهناءة, وتمر السنون دون أن نري هذا الغد المعسول الموعود.
مع القطط والحمير..!!
ووراء هذه الوعود ضمائر ذابلة, تقترب من لحظات الاحتضار, فلم تعد تنجب إلا الإهمال, والاستهانة, وعدم الاكتراث, واللامبالاة» فلا دراسة جادة واقعية لمشكلات الأمة, ولا رقابة, ولا متابعة من المسئولين في مواقع العمل. وهم يعتمدون علي ما عُرف عن شعبنا من قدرة فائقة علي النسيان.
وإني - في هذا المقام - لَسائل: من يذكر عبارة السادات المشهورة: «العام القادم - إن شاء اللّه - هو عام الرخاء»?! ومضي السادات, ومضت أيامه, ولم يأت هذا العام حتي الآن.
ومَنٍ - من قرائنا وغيرهم - يذكر أن أحد أحياء القاهرة الشعبية, ظل علي مدي ثلاث سنين يأكل «كبابًا من لحم القطط» علي أنه لحم الأرانب, وكان صاحب «عربة اليد» التي تقدم هذا الكباب, يعلق عليها عددًا من فراء الأرانب كدعاية, وهاجمت الشرطة بيت الرجل فعثروا فيه علي ثلاثمائة من «القطط السمان   ?!
ومن يذكر ذلك الجزّار الذي ظل أمدًا طويلاً يبيع للمواطنين «لحم حمير» علي أنه لحم عجالي?!!.
وبعد انكشاف الحالتين السابقتين أصدر مسئول كبير في وزارة الصحة «بيانًا» «يبشر» فيه المواطنين بأن لحم القطط, وكذلك لحم الحمير لا يضر الآكلين .
ولو كان هناك رقابة حقيقية, ومتابعة جادة, ما أكل المواطنون لحم الحمير, ولحم القطط, حتي لو عزّ عليهم أكل لحم العجول, وكباب اللحم الضاني. ويقال إن الصدفة البحت هي التي كشفت هاتين الجريمتين دون أدني جهد, أو سعي من أحد المسئولين, وقد نشرت الصحف تفصيل هاتين الصدفتين في حينهما.
مصر جنة الفواكه..
ومصر التي كانت - من عهد الفراعنة - جنة اللّه في أرضه, وكانت تفيض بخيراتها علي شعوب المنطقة, وأطعمت من نتاج أرضها جيوش الحلفاء في الحربين: الأولي والثانية, أصبحت تستورد أكثر من خمسين في المائة مما تأكل!
ومن أرض مصر كنا نأكل ألذ الفاكهة وأمتعها, ولكن جنة الفاكهة تحولت إلي مصنع لإنتاج الفاكهة المسمومة, ففي الصيف الماضي أكل المواطنون المشمش, والخوخ, والعنب, وهرعوا إلي المستشفيات والأطباء بعد أن ظهرت إصابتهم بالتسمم بسبب أكل هذه الفاكهة. لكن ما الذي سمم هذه الفاكهة? قال أصحاب الشأن: جرعة زائدة من الكيماوي.
ولكني أعتقد - ككثير من المواطنين - أن وراء ذلك سببًا, أو أسبابًا أقوي, وأخفي. وإلا فلماذا نري الخوخ في حجم البرتقال البلدي? والعنب في حجم الليمون, والمشمش ضعف حجمه الذي عرفناه من قبل? ويردد بعضهم أن لإسرائيل وخبرائها الزراعيين يدًا في هذه الظاهرة. ولها - في هذا المجال سوابق, منها «طرود» نحل العسل التي صدّروها لمصر, فقضت علي جيوش النحل المصري, وأصابت كثيرًا منه بأمراض مختلفة, وهذا هو سر ارتفاع سعر كيلو العسل

من خمسة جنيهات إلي عشرين جنيهًا. ولكن الجريمة الكبري هي جناية يوسف والي وبطانته باستيراد الكيماويات المسرطنة , مما أدى إ لى إ صابة ربع مليون مصري بالسرطان والفشل الكلوي , وأمراض أخري . ومن عجب أن هذا اليوسف الوالي ما زال حرا طليقا , يخرج لسانه للشعب المصري المطحون .
حتي العصائر واللبن..
وفي الصيف الماضي كنت في رحلة بسيناء, وزرنا مصنعًا ضخمًا لإنتاج العصائر, وزيت الزيتون, وتعبئة الزيتون بنوعيه. المصنع ضخم, وفيه من الآلات والماكينات أحدثها, ولاحظت - ونحن نجوب طرقات المصنع ونواحيه, وكنا في وقت الظهيرة - أن الذباب يهيمن علي «سماء المصنع» حتي لتكاد أسرابه الطائرة تخفي سقف المصنع.
قلت لموظف مسئول: لماذا لا تقضون علي هذا الذباب اللعين بالمبيدات الحشرية? فأجابني:
 -
لا نستطيع» لأن المكن قد يلتقط رائحة المبيدات, فتفسد العصائر.
 -
ولكن هذا الذباب قد يسقط في العصائر نفسها, ولو عثر مواطن علي ذبابة في علبة من علب العصير لكانت فضيحة «بجلاجل», ودعاية سيئة للمصنع.
 -
استحالة أن يسقط الذباب في العصائر, لأن المصنع لا يعمل إلا ليلاًً.
 -
ليلاً?!!
 -
نعم ليلاً, وفي الليل يكون الذباب مستقرًا ساكنًا, نائمًا علي حيطان المصنع. اطمئن يا سيدي نحن حريصون - كل الحرص - علي صحة المواطنين.
وطبعًا لم أقتنع بكلام صاحبنا, فالذين صنعوا هذه الآليات الضخمة لا يعدمون وسيلة للقضاء علي الذباب بغير المبيدات التقليدية. وماذا يفعل المسئولون لو أن سربًا - أو سُريبا - من الذباب أصابه الأرق فلم ينم, وبدأ ينطلق في سماء المصنع كما كان يفعل نهارًا?
وأخيرًا: هل نترك للذباب التحكم في تحديد مواعيد المصنع تشغيلاً وإيقافًا? عجبي!!!
وبهذه المناسبة أذكر أنني قرأت للأستاذ فهمي هويدي - نفع اللّه به - أنه - أو أحد أصدقائه - زار مصنعًا كبيرًا مشهورًا لتعبئة اللبن في عبوات مختلفة الوزن والنوع ونسبة الدسم. وسار معه أحد المسئولين يشرح له أقسام المصنع الكبير الحديث, وكيفية عمل الماكينات, وأشار إلي حوض كبير جدًا هو مركز توزيع اللبن علي الآلات لتصنيفه, «وسررت حينما رأيت سطح اللبن مغطي بستارة سوداء حتي لا تسقط فيه حشرة طائرة أو زاحفة, فلما اقتربنا من الحوض الكبير رأينا أجزاء من الستارة يطير منها الذباب فلما اقتربنا أكثر طار أغلب الذباب الذي كان يغطي سطح اللبن, وظنناه ستارة سوداء.
هذا ما نشره الأستاذ هويدي عبرت أنا عنه بأسلوب قريب من أسلوبه لأنني أعتمد - علي ذاكرتي - في رواية الواقعة, وإذا كان الأمر كذلك فإني أقترح علي المسئولين عن المصنع - حرصًا علي الأمانة والمصداقية - أن يصنفوا عبوات اللبن إلي الثلاث الآتية: 1 - لبن خال من الذباب. 2 - لبن نصف ذباب. 3 - لبن كامل الذباب.
وأخيرًا أقول: لك اللّه يا شعبنا المحزون  .  وإنا لله وإنا إليه راجعون  .