ساحة على صورة وطن
مركز الميماس للثقافة والإعلام
قيد الإنشاء
ساحة على صورة وطن
محمد علي الاتاسي
على مدى القرن المنصرم ظل الدمشقيون يرددون منتشين أغنيتهم الشعبية "زيّنوا المرجة والمرجة لينا"، تيمناً بساحة المرجة (ساحة الشهداء) التي كانت أول ساحة عامة تشيّد في دمشق القرن التاسع عشر وتتحول رمزاً لتوسع المدينة ولتموضع النشاطات الدينية والسياسية والإدارية. وفي هذه الساحة علّق جمال باشا مشانق شهداء أيار ومنها انطلقت التظاهرات المطالبة بالاستقلال.
ساحة المرجة اليوم، تجاوزها الزمن والتوسع العمراني والمضاربات العقارية، فأزيلت تباعاً مبانيها العثمانية كدار البلدية ودار البريد، وهُدم جامع يلبغا المملوكي ولم تنجح الدولة في إنجاز مجمع يلبغا الذي كان من المفترض أن يحل مكانه، إذ ظل كتلة باطونية صماء منذ أكثر من ثلاثين عاماً. ساحة المرجة اليوم، فقدت أهميتها وأصبحت نموذجاً فادحاً لثقافة "الكيتش" السائدة في سوريا المعاصرة. لكن الدمشقيين لا يزالون يتغنون بها ويغنّون لها، كمجاز ربما عن ساحة متخيلة تجاوزها الواقع البائس وبقيت في المخيال الجمعي كناية عن هوية دمشقية مفتقدة.
في مقابل ساحة المرجة وماضيها الغابر، ربما تكون ساحة الأمويين من بين ساحات المدينة وأمكنتها العامة كلها، المكان الأكثر تعبيراً عن أحوال العمران وأشجانه كمرآة للسياسة والاقتصاد والاجتماع في سوريا اليوم. فهذه الساحة، وهي الأوسع والأهم داخل المدينة، تكاد تختصر بحاضرها الراهن واقع سوريا الحديثة. ومع ذلك لا يتغنى الدمشقيون بها ولا يغنّون لها، وتظل عصيّة على أي تماهٍ جماعي معها.
تقع ساحة الأمويين في مدخل دمشق الغربي على طريق دمشق - بيروت القديمة في محاذاة نهر بردى. تم تخطيط الساحة وتنظيم الشوارع الآتية منها وإليها وفقا للمخطط التنظيمي الثاني لمدينة دمشق الذي وضعه المعماري الفرنسي الشهير إيكوشار في العام 1968. ويصب في هذه الساحة العديد من الشوارع المهمة والحيوية بالنسبة إلى حركة السير داخل المدينة، وجميعها يحمل أسماء لشخصيات ذات أبعاد سياسية، من مثل شكري القوتلي (طريق بيروت) وجواهر نهرو وعدنان المالكي والمهدي بن بركة وباسل الأسد.
تطورت ساحة الأمويين مدى العقود الثلاثة المنصرمة وتبدلت كثيراً، لكنها ظلت على الدوام رمزاًَ للسلطة وتجلياً لبعض تعبيراتها المؤسساتية. ففي هذه الساحة تقع مباني وزارة الدفاع وهيئة الإذاعة والتلفزيون ومكتبة الأسد (المكتبة الوطنية) ودار الأسد للفنون (الأوبرا والمعهد المسرحي والمعهد الموسيقي) وحديقة تشرين (تيمناً بحرب تشرين) وفندق الشيراتون (مكان السهر المفضل لأبناء المسؤولين، ونزل كل وزراء خارجية أميركا الذين زاروا دمشق).
ويشرف على هذه الساحة تمثال الرئيس حافظ الأسد المقام في حديقة المكتبة، وهو الأول من نوعه في سلسلة من التماثيل رُفعت له في دمشق وغيرها من المدن خلال التسعينات.
في هذه الساحة كانت تقام الاحتفالات الجماهيرية والمهرجانات الخطابية الرنانة التي كانت تنظمها السلطة لإظهار الشعبية التي تتمتع بها، كونها الساحة الأكثر قدرة على استيعاب الحشود البشرية.
ومن هذه الساحة مرت المواكب الرسمية للعديد من رؤساء العالم الذين زاروا سوريا خلال العقود الثلاثة الماضية وكانوا في طريقهم للقاء الرئيس في قصره في حي المهاجرين. ومن هذه الساحة أيضاً عبر جثمانه وهو في طريقه إلى مسقطه في القرداحة.
عدا كونها عقدة مرورية مفصلية، فإن هذه الساحة هي بالمقدار نفسه عقدة سياسية وأمنية غاية في الأهمية
في مواجهة كل محاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة بسبب وجود وزارة الدفاع ومبنى التلفزيون. فكان طبيعيا أن تنشر السلطة في منتصف الثمانينات الدبابات والمجنزرات في محيط الساحة قرب مبنى التلفزيون والأركان خلال الأزمة التي اندلعت مع شقيق الرئيس السوري رفعت الأسد.مدى عقود، ظلت ساحة الأمويين تؤدي دورها الأساسي كعقدة مرورية عند مدخل دمشق الغربي. وإذا كانت
أيدي محافظة دمشق لم تطل بداية دورها المروري والتخديمي، فإنها تعرضت مع ذلك لمحاولات تجميل (تبشيع) متعددة، خصوصاً لجهة البحرات والنوافير والمساحات الخضراء والإنارة. وهذا كله في غياب أي رؤية اجتماعية وعمرانية وجمالية تحترم حاجات السكان وتملك الحد الأدنى من المعرفة المختصة بتخطيط المدن وتطويرها وتجميلها.قبل سنوات ظن الدمشقيون أن حال ساحة الأمويين (البقرة الحلوب لمتعهدي المحافظة) ورمز السلطة السياسية قد استقرت، وخصوصاً أن دار الأوبرا، وكانت البناء الوحيد غير المكتمل من بين المباني المطلة عليها، أنجزت أخيراً بعد عشرات السنين من المماطلة وبطء التنفيذ والتكلفة الزائدة، وتم افتتاحها في رعاية الرئيس بشار الأسد. لكن المحافظة أبت إلا أن تفاجئ الدمشقيين بمشروع جديد يقضي بإقامة نفق يخترق الساحة على محور طريق بيروت القديم في محاذاة مجرى نهر بردى. خوف أهل المدينة من المشروع وعواقبه وسلّموا أمرهم في ظل غياب أي إمكان لمناقشة جدوى مشروع كهذا بشفافية وموضوعية أمام الرأي العام. الأدهى أن مؤسسة الإسكان العسكري كُلّفت إنجاز المشروع وهي واحدة من شركات القطاع العام الإنشائية الأكثر إمعاناً في الديون والبيروقراطية والأزمات البنيوية. وجرى تقدير التكلفة بحوالي 500 مليون ليرة سورية وبمدة تنفيذ لا تزيد على 240 يوما (جريدة "البعث" 31102004).
التخوف لم يكن سببه حرص الدمشقيين على البعد الرمزي للساحة لجهة ارتباطه بالسلطة السياسية، ولكن بسبب اختناقات السير التي ستنجم عن التنفيذ وعدم ثقتهم بقدرة مؤسسة الإسكان على إنجازه في الوقت المحدد.
بعد أكثر من سنتين، لا تزال أحشاء الساحة في كل مكان مرتعا للزحام والركام والغبار، ولا تزال أعمال إكساء النفق في طور التنفيذ في حين لم تبدأ أعمال التجميل. هذا إذا بقي هناك شيء اسمه ساحة بعدما ارتفع منسوبها إلى أكثر من 180 سنتيمتراً وقضمت الأنفاق من أطرافها الجانبية وأصبح من المستحيل على الدمشقيين عبورها حتى مشياً على أقدامهم. لقد تم، برغم الأهمية السياسية والرمزية والمرورية لهذه الساحة، تكليف المشروع إلى قطاع عام مفلس بمؤسساته غني بجيوب مديريه، وتالياً عجز هذا القطاع عن تنفيذ النفق في المدة المحددة وبالشكل اللائق، مكلفا موازنة الدولة أموالا طائلة، وحارما المواطنين القدرة على استخدام هذه الساحة مروريا، قبل أن يتماهوا معها رمزياً. وإذا كانت الدولة بقطاعها العام عاجزة عن إنشاء نفق في ساحة بأهمية ساحة الأمويين، فكيف تريد أن تواجه تحدي التنمية والتحديث والضغوط الاقتصادية بمثل قطاع عام كهذا!
قد يصبح مفهوما لماذا يصعب على الدمشقيين اليوم التماهي مع ساحة الأمويين في إطار الهوية والانتماء والتغني. فحال هذه الساحة ومآزقها تشبه حال الوطن ومآزقه. إنها التعبير الأمثل عن مصادرة السلطة ومؤسساتها للمكان وفشلها في إداراته وإمعانها في تخريبه ودفعها الناس إلى المزيد من الاغتراب عنه.
لا يريد الدمشقيون سوى أن يعبروا ساحة الأمويين بسلام وأمان بعيداً عن السلطة وتعبيراتها وأنفاقها. لسان حالهم يقول: "الأمويين ليست لينا" وكلهم خوف اليوم أن تدار شؤون بلدهم بمثل ما أدير به مشروع ساحة الأمويين. آنذاك سيكون مستحيلاً الخروج من هذا النفق.