البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه3

البحث عن وطن قومي للعربي في أرضه

(3)

بقلم: الدكتور جابر قميحة

[email protected]

ذكرنا من قبل أن إيذاء الكفار للمسلمين في مكة اشتد, حتي استُشهد بعضهم بالتعذيب مثل ياسر بن عامر, وزوجته سمية بنت خياط (أم عمار), فأذن الله لهم في الهجرة إلي الحبشة, فهاجر منهم 115 مسلمًا ومسلمة علي دفعتين: الأولي 32, والثانية 83. وعلل النبي -صلي الله عليه وسلم- اختياره الحبشة مهجرًا لهم بأن فيها «ملكًا عادلاً لا يُظلم عنده أحد».
وكان لهذه الهجرة الباكرة آثار طيبة -علي قلة عدد المهاجرين- أهمها أثران هما:
1- أنها أثبتت للكفار قدرة المسلمين علي الحركة والتصرف والسياحة في آفاق خارجية.
2- أنها نقلت -لأول مرة- اسم الإسلام إلي خارج الجزيرة العربية, وبدأت عيون الأحباش تتفتح -لأول مرة- علي إسلام هؤلاء المهاجرين.
في الطريق إلي الدولة
وبعد ثلاثة عشر عامًا من العمل الدائب, والجهد المتواصل في الدعوة إلي الإسلام كانت هجرة النبي -صلي الله عليه وسلم- إلي المدينة وهجرة المسلمين جميعًا من بعده. فمكة قد تحجرت فيها قلوب أهلها, وازدادوا قسوة وظلمًا وصلفًا وإصرارًا علي رفض الدين الجديد, وقد مهد النبي -صلي الله عليه وسلم- لهذه الهجرة بلقاءات ثلاثة مع أهلها, وكان كل منها مورقًا مثمرًا:
الأول: في موسم الحج, وكان يعرض نفسه علي القبائل قائلاً: «من رجل يحملني إلي قومه فيمنعني حتي أبلغ رسالة ربي, فإن قريشاقد منعوني أن أبلغ رسالة ربي». فأسلم جماعة من الخزرج, ووعدوه أن يعرضوا الأمر علي قومهم عند عودتهم إلي المدينة وكانوا ستة أشخاص.
واللقاء الثاني: كان مع 12 من الأنصار أسلموا وبايعوا (وهو ما يعرف ببيعة العقبة الأولي). وأرسل معهم «مصعب بن عمير» لتفقيههم في الدين.
واللقاء الثالث: وهو ما يسمي ببيعة العقبة الثانية كان مع 73 رجلاً وامرأتين من الأنصار, أسلموا وبايعوه علي النصرة والحماية والمنعة.
وبالهجرة قامت دولة الإنسان
وفي المدينة أقام النبي -صلي الله عليه وسلم- «دولة الإسلام», والدولة بالمفهوم الحديث «جمع من الناس من الجنسين معًا, يعيش -علي سبيل الاستقرار- علي إقليم معين محدود, ويدين بالولاء لسلطة حاكمة لها السيادة علي الإقليم وعلي أفراد هذا الجمع» (د. حامد سلطان: القانون الدولي العام 343).
وقد نصت المادة الأولي من الاتفاقية الخاصة بحقوق الدول وواجباتها التي عقدت في «مونتفيديو» في 26 من ديسمبر سنة 1933 علي ما يأتي:
«يجب لكي تعتبر الدولة شخصًا من أشخاص القانون الدولي أن تتوافر فيها الشروط التالية:
1- شعب دائم.
2- إقليم محدود.
3- حكومة.
4- أهلية الدخول في علاقات مع الدول الأخري».
وكل هذه الشرائط -دون تمحل وإسراف- توافرت في الدولة التي أقامها النبي -صلي الله عليه وسلم- في المدينة علي مدي عشر سنين:
1- فالمدينة إقليم له حدوده المتميزة المحددة.
2- والشعب هو الشعب المسلم المكون من الأنصار (الأوس والخزرج) والمهاجرين. وكلهم انصهروا في بوتقة الإسلام. وعاشوا كالجسد الواحد تماسكًا وتكافلاً وتعاونًا ومحبة وإيثارًا.
3- أما الحكومة: فحكومة الرسول -صلي الله عليه وسلم- التي تعتمد في الحكم علي ركيزتين صلبتين: العدل والشوري.
4- وكل أولئك جعل لهذه الدولة الجديدة أهلية كاملة في التعامل -كشخصية اعتبارية- مع الآخرين. علي تفصيل لا يتسع له المقام.
الأمن.. والاستقرار.. والعدل
واقتضي حرص النبي -صلي الله عليه وسلم- علي ترسيخ قواعد الدولة المركزية الجديدة, ترسيخ العلاقات التي تربط بين الدولة وبين قبائل اليهود المختلفة» فكتب عهدًا مفصلاً ينظم العلاقات بين الدولة وبين هذه القبائل, ويطلق عليه تاريخيًا «كتاب الموادعة» أو «دستور المعايشة». وقد كتبه أول وصوله إلي المدينة -دون أن يطلب منه اليهود ذلك-, وفيه تفصيل دقيق جدًا للحقوق والواجبات. ثم كان الانفتاح علي خارج الجزيرة برسائل النبي -صلي الله عليه وسلم- إلي الملوك والرؤساء.
واستقر الحكم باليقين, وإشعار رعايا الدولة بالأمن والطمأنينة, والثقة في العدل, يستوي في ذلك المسلمون واليهود والمنافقون, وقد كان النبي -صلي الله عليه وسلم- يعرفهم واحدًا واحدًا, ومع ذلك عاملهم معاملة طيبة وعلي رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول, ولم يأخذهم «بالباطن المستتر», وقد قال: «.. لنا الظاهر وعلي الله السرائر». والأصل أن الناس جميعًا «أبرياء» إلي أن يثبت -علي وجه اليقين- ما يقتضي الاتهام والعقاب. ويروي أن قومًا أتوه برجل وقالوا يا رسول الله, إن هذا الرجل سرق منا كذا وكذا, فقال: «لا تقولوا سرق, ولكن قولوا: أخذ» فهو «آخذ» إلي أن يثبتوا -علي سبيل القطع- أنه سارق.
واطمأن عتاة الكفرة والمجرمين والقتلة -بعد إسلامهم- بتطبيق قاعدة «الإسلام يجبُّ (أي: يمحو) ما قبله».. حتي وحشي الحبشي الذي اغتال حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أحب خلق الله إلي رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قَبًل النبي إسلامه ولم يمنعه حقًا من حقوقه, وعاش مجاهدًا, وبيده صرع مسيلمة الكذاب في موقعة اليمامة في عهد أبي بكر -رضي الله عنه. وتكرر مثل ذلك أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. فقد حزن حزنًا شديدًا علي أخيه زيد الذي استُشهد في معركة اليمامة, وكان يتمني لو كان شاعرًا حتي يرثيه بشعر كشعر متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك.
وبعدها أسلم القاتل «أبو مريم السلولي» والتقي عمر في خلافته, وقال له: أنت قاتل أخي, والله لن أحبك حتي تحب الأرضُ الدم المسفوح» (أي لن أحبك أبدًا). فسأله أبو مريم: أيدفعك ذلك إلي ظلمي? فأجاب عمر -علي الفور-: اللهم لا. قال أبو مريم: لا ضير. إنما يأسي (يحزن ويتحسر) علي الحب النساء.
وعاش قاتل شقيق الخليفة -كما عاش قاتل عم النبي -صلي الله عليه وسلم- آمنين متمتعين بعدالة الإسلام, وقد جبّ الإسلام جريمتهما, ولم يصفهما أحد بالغدر والإرهاب.
وفي ظل «العدل الشامل» الذي لم تخدشه «طوارئ» أو «استثناءات» كانت الدولة الإسلامية مهيبة في نظر أعدائها, وبسيادة الإيمان -لا سيادة الرئيس- دكَّ المسلمون دولتي الفرس والروم, أهل الظلم والكفر والجبرية. وكان رستم -قائد الفرس- يقول: أكل عمر بن الخطاب كبدي لأنه يعلم الكلاب الأداب».
ما أبعد الليلة عن البارحة
وما ذكرته يمثل خطوطًا سريعة «لطبيعة الوطن القومي الإنساني» الذي عاش فيه العرب والمسلمون, فحققوا الانتصارات, وعاشوا رسل تعمير وتنوير علي مستوي العالم كله. إنه الوطن الذي يجب أن نعيش فيه -أو قريبًا منه شبهًا- في عصرنا الحاضر وليس ذلك بالمستحيل ما توافرت العزائم, وصدقت النوايا, وواصلنا العمل علي أساس من الإيمان والحرية, وأصبحت السيادة للقيم النظيفة السامية.
عصر العار.. والشذوذ
أما العصر الذي نعيشه الآن فهو « العصر «الأمٍرًيصهيوني» أو العصر «الصهيوأمريكي» وهو يعني في إيجاز شديد جدًا: الهيمنة الأمريكية (وهي ذات أبعاد صهيونية حتي النخاع) علي المنطقة العربية في ثرواتها وسياساتها وقيمها, ومناهج التعليم فيها, وخصوصًا ما يتعلق بالعقيدة والأخلاقيات وقد حذف من المناهج والمقررات كل ما يدين اليهود, وهي حقائق ثابتة, يستوي في ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية والشهادات التاريخية اليقينية حتي لو كانت بأقلام غير المسلمين من المنصفين.
ولإسرائيل سوابق حقيرة في هذا المجال» فبعد جريمة التطبيع الأولي التي اسمها «كامب ديفيد» انطلق الصهاينة -بتخطيط عملي دقيق- لتشويه عقيدتنا, وهدم قيمنا ومعطياتنا الدينية, ففي سنة 1982, روّرت إسرائيل طبعة من القرآن حذفت منها 160 آية من سور متعددة, مع إدخال بعض الآيات من سور أخري. طبعت من هذا القرآن المزور مليون نسخة في إحدي دور النشر المعروفة ببيروت, وغُلفت النسخ بالحرير, وطُعمت بالذهب, ووزعت كلها في البلاد الإسلامية, وبعض البلاد العربية.
وتصغر هذه الجريمة أمام جريمة أكبر تتمثل فيما سموه «القرآن الحق», وقد وُزع في العالم كله, ويذاع في مواقع أعداء الإسلام (الإنترنت). وكله تشويه خسيس للإسلام, وتجريح لشخصية نبينا -صلي الله عليه وسلم-, وإبراز لمحاسن اليهود واليهودية والمسيحية.
ومن مظاهر العار والضياع
ومن مظاهر الهيمنة فرض اتفاقيات تمكن إسرائيل من التغلغل في أوضاعنا الاقتصادية والسياسية, وآخرها اتفاقية «الكويز» التي يصر النظام المصري علي تسميتها «بروتوكول» لا «اتفاقية», وتصويرها علي أنها «المنقذ» الذي هبط من السماء. وهي في خطورتها, وآثارها البعيدة, تعد المرحلة الثانية من مراحل التطبيع, لتكريس الوجود الإسرائيلي وتغلغله, وتقنينه في المنطقة.
وكانت هذه الاتفاقية توَّقع وإسرائيل تقوم بمذابح وهجمات وحشية بالطائرات والدبابات علي غزة وخان يونس وغيرهما. وبعدها يعلن مجرم الحرب «شارون» -الذي وصفه النظام المصري بأنه «رجل سلام»- أن الرئيس بوش وافق علي ما قررته إسرائيل من أنه لا عودة للاجئين الفلسطينيين, ولا عودة إسرائيلية إلي حدود ما قبل 1967, وأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل.
أما حكامنا فقد ضحوا بشعوبهم لإرضاء العم بوش, وإرضاؤه -من وجهة نظرهم- يضمن لهم كراسي الحكم, ويهيؤها لأبنائهم من بعدهم, وحكموا شعوبهم بالسجون والحديد والنار حتي كتب أحد الصحفيين الفرنسيين إحصائية ذكر فيها أن مجموع عدد المسجونين والمعتقلين السياسيين من المواطنين في مصر وسوريا وليبيا يمثل خمسة أمثال المسجونين الفلسطينيين في سجون إسرائيل. أما التعذيب في سجوننا فأبشع ما يمكن أن يتصوره إنسان, وأصبح من الأمور العادية أن يموت المعتقل أو يفقد عقله من شدة التعذيب. وأصبحت أحكام القضاء التي تدين جرائم «الأمن» لا تُنفَّذ مهما كانت أحكامًا نهائية. وانفرد قانون الطوارئ بالتسلط علي الشعب من ربع قرن.
ودائمًا يتشدق هؤلاء الحكام بأن نظام حكمهم نظام ديمقراطي «بالجرعات»» لأن تطبيق الديمقراطية الشاملة سيأتي بالإرهابيين من أمثال «الإخوان المسلمين» للحكم وذلك سيضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة, فيلوذ العم بوش بالصمت.. ولو إلي حين.
وأصبح الحاكم هو الدولة والقانون والحكمة وعبقري زمانه في وطن اهترأت فيه الأخلاقيات, وتفشي الفساد, وأصبحت الرشوة أساس التعامل ونُهبت أموال البنوك, وانحط الإعلام ومستوي المعيشة. وهاجرت مئات الألوف من العقول والمواهب التي كان وطننا في أشد الاحتياج إليها. وأصبح المتمسك بدينه كالقابض علي الجمر, وهو يوضع في قائمة الرجعيين الظلاميين, أما الفاسد المنحط الذي يحمل علي الدين والمتدينين, فهو متحضر تنويري.
وكل ما ذكرنا يجعل العربي الحر يشعر بالغربة الحادة في وطن سرقه منه الفاسدون المفسدون, وأصبح فيه مضطهدًا منبوذًا, وهدفًا دائمًا للحكام الطغاة وأذنابهم ومخالبهم. فهل يستطيع مثل هذا العربي الحر أن يكون له وطن قومي يشعر فيه بالأمن والاستقرار والسلام? أقول: نعم. أما كيف? فأرجو القراء أن يشاركوني في إجابة هذه الشريحة من السؤال قبل أن أدلي بدلوي بعد فترة ألتقط فيها أنفاسي.