المعارضة السورية ، إلى أين ؟!
مركز الميماس للثقافة والإعلام
قيد الإنشاء
المعارضة السورية ، إلى أين ؟!
ميشيل كيلو
أعتقد أنه صار من الضروري طرح بعض الأسئلة على المعارضة السياسية السورية ، وطلب بعض الأجوبة منها ، بعد أربعة أعوام ونصف العام من وعد الإصلاح ، والتطورات التي عاشتها بلادنا ، وتأكد خلالها عجز المعارضة السورية عن الخروج من دوائر ومربعات حشرها النظام ، وحشرت نفسها ، فيها ، خلال السنوات الثلاثين الماضية ، وبعد الحال الذي آلت إليه اليوم ، وهو لا يسر أو يبهج من جوانب كثيرة .
في الاحتمالات
سأبدأ من سؤال كان قد طرحه مواطني الدكتور منذر بدر حلوم في مقالة مهمة عنوانها " الأوليغاركية السورية والإعداد لمرحلة الما بعد " نشرها قبل قرابة شهرين في جريدة السفير اللبنانية .
ماذا ينتظر بلادنا وإلى أين يذهب نظامها ، وهو اليوم ما كانه بالأمس : اللاعب الرئيس في بلادنا : سياسة واقتصادا واجتماعا ... ، الذي قرر البارحة ويرجح أن يقرر غدا مصيرها ، لا لشيء إلا لغياب من يمكن أن ينافسه على هذا الدور ، أو يشاركه بهذا القدر أو ذاك فيه ، أو بقول آخر : بسبب افتقار بلدنا إلى معارضة فاعلة ، متوطنة في المجتمع ، متماسكة ومتكاملة الأدوار والتنظيمات ، واضحة في ما تريد وفي سبل بلوغه ، تمتلك خطة قصيرة ومتوسطة الأمد ، ناهيك عن مخطط استراتيجي حقيقي يغطي الفسحة الزمنية التي تفصل يومنا عن اليوم الذي ستحقق فيه أهدافها، بعد تبديل علاقات القوى الداخلية ، والجو الدولي ، لصالحها ؟.
كي لا أطيل ، أذكّر بمقالة نشرتها قبل قرابة سبعة أعوام في جريدة الحياة اللندنية تحت عنوان " ديموقراطية القفص المغلق " ، يلخصها ما يلي : إذا ما راقبنا تطور أميركا اللاتينية منذ أواسط القرن العشرين، وتطور مصر بعد كامب ديفيد، نجد أنفسنا أمام نظام تابع ، مافيوزي الممارسات والعقلية ، يمثل تشكيلات طبقية تمتد من الطبقة الوسطى العليا إلى برجوازيات الدولة والسوق والخارج المتنوعة ، ونظام سياسي تعددي يعبر عن حساسيات سياسية مختلفة ، دينية ودنيوية ، اتنية وثقافية ، يستند إلى جهاز أمن ضارب ، محدث وموحد وقادر على احتواء أي حراك معارض أو مجتمعي ، فهو ، إذن ، نظام مستقر وقادر على التكيف مع السيطرة الأميركية ومع ما يطمح هو نفسه إلى تحقيقه ، بمفرده أم بالتفاهم مع الخارج . هذا النظام يمتص الممانعات الداخلية من خلال فسحة داخلية حرة ، يسمح للمعارضات أن تنشط فيها ، دون أن يترتب على نشاطها أي تبدل
في توازنات وعلاقات القوى الداخلية ، توازنات السلطة وعلاقاتها بالمجتمع أو بالأحزاب السياسية المعارضة ، حتى كأن المعارضات تشبه سجينا في قفص مغلق ، يتحرك داخله طيلة الوقت دون أن يتمكن من مغادرته أو كسر قضبانه . هذا النظام ليس ديموقراطيا ، لكنه نظام يتيح قدرا معقولا من الحريات ، بدءا بحرية القول والتعبير وانتهاء بحرية التنظيم والاجتماع ، والصحافة ... الخ ، وهو ، كنظام ، مستقبل البلدان العربية وخاصة سوريا ، التي يبدو أنها تتجه إليه ، لأنه خيار أميركي ، ولأن نظامها الراهن لا يملك بدائل له ،ويستطيع بواسطته إخماد وامتصاص القلق والاعتراض الداخلي غير المنظم سياسيا ومجتمعيا ، وتوسيع قاعدة
السلطة السياسية / المجتمعية دون المس بطابعها الأمني ، بينما يحيد المواطن عبر إعطائه فرصة التعبير الحر نسبيا عن نفسه في إطار شمولي ، ويتيح للسلطة إجراء ما تريده من تغيير ضمن الأمر القائم ، فهو إذن أفضل البدائل ، لأنه أكثرها حفظا للمصالح والتوازنات الراهنة ، وقبولا لدى الخارج ، وقدرة على مقاومة أية ممانعة داخلية. في نهاية تلك المقالة القديمة ، استشهدت بحال المعارضة المصرية ، التي تضم مجمل التيارات التي صنعت مصر الحديثة من ناصرية وإسلامية وماركسية وليبرالية ، لكنها لم تنجح ، رغم تاريخيتها وأدورها السياسية ، في إيصال عدد من النواب إلى البرلمان يوازي عدد من تهربوا من خدمة العالم ، أو طردوا من البرلمان بسبب تجارتهم بالمخدرات من أعضاء الحزب الوطني الديموقراطي ، الذي أسسه أنور السادات ويديره بجدارة واقتدار رجل يكاد يكون غير سياسي اس مه حسني مبارك ، بينما تعجز أحزاب هذه التيارات - عدا الإسلاميين - عن التوطن بفاعلية في الشارع المصري ، وعن إحداث أي تحول جدي في علاقات القوى داخل البلد .
هل تذهب سوريا إلى وضع كهذا أو إلى حال يشبهه ؟. كم يتمنى المواطن من أمثالنا أن يسمع رأي المعارضة في هذا الموضوع المهم ، فربما كان لديها وجهة نظر أخرى تسوغ سياستها الحالية ، التي لا أعرف كيف أصفها ، لكنني لست مرتاحا لها أو قابلا بها ؟. أما إذا كانت المعارضة تفتقر إلى تصور مغاير حول المستقبل ، وتقر بأن هذا الذي شرحته مرجح الوقوع ، فإنني أسألها عن ما فعلته لاستباق نتائجه وآثاره ، وللخروج من دوائره المغلقة ، التي ستضعها في قفص مغلق تتحرك فيه بالطريقة التي تريدها ، دون أن يترتب على حركتها أي عائد سياسي، أو يحدث أي تبدل حقيقي في علاقات وموازين القوى الداخلية بين المجتمع والسلطة القديمة / الجديدة ؟.
في التجارب تعرف المعارضة كيف تم احتواؤها في الحقبة السابقة ، قبل غياب حافظ الأسد وبدء حديث الإصلاح . لقد حدث ذلك عبر تدابير معينة قامت على :
- التفريق بين مكوناتها ، والتعامل معها على أساس تمييزي ، يخاطب هذا الحزب بود مفتعل ، بينما يسحق حزبا آخر أو يبطل وجوده ، ويلاحق مجموعة محدودة من حزب ثالث هي جهازه العصبي ومركز قيادته ... الخ .
- رسم دوائر محددة لا يتخطاها العمل المعارض بمجموعه ، بعد أن رفع شعار البديل الديموقراطي ، لكن تطبيق الشعار والترويج له اختلف من حزب لآخر في درجة حدته والإلحاح عليه ونوع قراءته . ولو شئنا إجراء تصنيف لقلنا إن حزب البعث الديموقراطي كان ممنوع الوجود ، لذلك تم القضاء عليه ، أما المكتب السياسي فكان هدفا للسحق بدوره ، لكنه تمكن من النجاة وإن بعدد قليل من كوادره وأعضائه ، وبقي حزبا قائما في الساحة ، بينما كان حزب العمال الثوري تحت العين الحمراء ، ممنوعا من إعادة تنظيم نفسه ، وموضوعا في مواجهة التفكك والتلاشي ، وحزب الاتحاد الاشتراكي عرضة في بعض دوائره القيادية لهذه الأشكال جميعها، فضلا عن محاولات استهدفت فتح قنوات حوار مع بعض قادته لتليين مواقفه .
- أخيرا ، بدل النظام تكتيكه بعد بلوغ أحزاب المعارضة حدا من التآكل والضمور ، ورسم تكتيكا جديدا قام على تركها تحت العين واليد والسوط ، مع الإفادة من وجودها إعلاميا ، وما تطلبه ذلك من وجود معين لبعض تمثيلاتها في الساحة ، مع استمرار الضغط عليها كي تنتهج سياسات تراجعية ، وتنطويا على ذاتها ، وتمتنع عن تطوير بدائل حقيقية لأوضاعها . بذلك ، لا يمت الذئب ولا يفنى الغنم ، كما يقول المثقل الشعبي ، ولا تغيب المعارضة تماما أو تكون حاضرة بصورة جدية في أي وسط مجتمعي !.
واليوم ، وبعد مرور حوالي أربعة أعوام ، هل اتخذت المعارضة التدابير وانتهجت السياسات، التي من شأنها تغيير الأرضية السياسية العامة في البلد وتبديل هذه العلاقة مع السلطة والمجتمع ، ومع نفسها ؟. هل أفادت المعارضة من الفرص الداخلية والخارجية ، التي أتاحها تبدل الوضعين الدولي والداخلي ، أو بالأصح أزمة النظام مع الخارج ومع ذاته كنظام تقادم خارجيا ووطنيا ؟. أم أنها واصلت العمل بالطريقة القديمة ، ولكن في دائرة مجتمعية وسياسية أوسع من الدائرة القديمة ، الضيقة جدا ، التي اعتادت العمل والعيش فيها؟. وهل المعارضة السياسية هي التي وسعت هذه الدائرة أم أن توسيعها عائد لعوامل عديدة بعضها يرتبط بأزمة السلطة ، وبعضها الآخر بحراك المجتمع المدني ونشاطه ؟.
أعتقد أن المعارضة ضيعت على نفسها فرصا ثمينة هي :
1- فرصة تغيير طرق عملها وتوسيع دائرة نظرها وتطوير مناهجها التنظيمية والفكرية ، بحيث يذهب عائد الحراك المجتمعي إليها . لم تفعل المعارضة هذا طيلة السنوات الأربعة الماضية ، لأنها لم تكن مؤهلة لفعله ، لذلك ضاع عليها عائده الذي كان يمكن أن يكون عظيما من الوجهين الكمي والنوعي . واليوم ، وبعد أن بدأ منذ أكثر من عام تراجع العمل المعارض ، وأصاب الوهن والتراخي العمل الديموقراطي وفصائله، حل الانكفاء عن العمل العام من جديد محل الانخراط فيه ، ودخل الحراك السياسي والمدني في طور من الركود والسكون ، وظهر أن المعارضة السياسية - وخاصة منها الحزبية - لم تفهم ما حدث في العالم وبلادها ، أو أنها
فهمته بصورة ناقصة ، في حين حالت إمكاناتها الفكرية والتنظيمية بينها وبين تحويله إلى رافعة تزحزح بواسطتها التوازنات التي كانت قائمة في السنوات العشرة الأخيرة . ومن يراجع وثائقها المشتركة ، يجدها بسيطة ومحكومة بالنظرة التي بلورتها في ظل النظام السابق ، ويدهش للتكرارية في لغتها وطرحها ، ولانعدام الخيال في موضوعاتها وصيغها .
2- فرصة توسيع دائرة تحالفاتها ، وخاصة مع مضطهدي المجتمع السوري ، وبالأخص منهم الأكراد والإخوان المسلمون ، الذين أجروا تغييرا مهما ، بل ثوريا ، في نهجهم ، لا نجد مثيلا له لدى الأحزاب الأخرى ، ويبدو أنهم كانوا أكثر فصائل العمل المعارض مرونة وقدرة على الاستجابة للمتغيرات وفهما لها .
3- فرصة التعرف على المجتمع السوري ، والانتقال من سياسة مركزها الموقف من السلطة إلى سياسة مركزها المجتمع والدولة والسلطة والفرد ، ترسمها في ضوء ملفات تجرد الواقع السوري في تفاصيله الدقيقة ووقائعه الحقيقية ، وتمكنها من تحقيق اختراق ضروري في علاقاتها مع الواقع ، ومع الثقافة والمثقفين ، القوة الجديدة ، التي شعرت المعارضة الديموقراطية بالضيق ، حين رأتها تتحمل مسؤولياتها المستقلة في العمل العام ، مع أنها أفادت من بعض أنشطتها ، ثم رأت فيها قوة غير منظمة - غير حزبية - وقصرت في التعامل معها ، ومالت إلى تجاهل مشكلاتها ، كأنها ليست جزءا من القوى الديموقراطية ، أو كأن دورها وحضورها في الشأن العام غير مرغوب فيه . لا تعرف المعارضة اليوم مجتمع سوريا أكثر مما كانت تعرفه قبل عشرين سنة ، ولا تتجاوز معرفتها المحدودة للواقع ولمشكلاته العموميات ، التي كثيرا ما تكون مضللة ، وهي لا تعي ضرورة المعرفة الجديدة ، بل تعتقد أن شعاراتها وعمومياتها تحيط بكل شيء وتشرح كل شيء .
4- هل أضيف أن المعارضة ، ممثلة أساسا في التجمع الوطني الديموقراطي ، لم تع ضرورة توسيع هامش حركتها الدولي ، انطلاقا من جوامع مشتركة تتقاسمها مع العالم الساعي إلى حماية حقوق الإنسان ، وإقامة نظم سياسية عربية جديدة على مبدأ الحرية والديموقراطية ، ولم تبذل أي جهد حقيقي في هذا الاتجاه ، بل سجنت نفسها في فكرة شديدة السطحية عن علاقة الداخل بالخارج في عالم تتداخل فيه المواقف والمصالح ، كما يؤكد نشاط السلطة ذاتها ؟. إن ضعف المعارضة وعجزها عن التفاعل مع التحولات الدولية لعب دورا جديا في جعل الدول الأوروبية تتراجع عن أولوياتها في سورية وتوقع اتفاقية شراكة مع النظام القائم لا تستند على الحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية ؟. صحيح أن البديل الديموقراطي ضعيف في سوريا ، لكن مشكلة المعارضة لا تكمن هنا ، بل ترجع أساسا إلى عجزها عن الخروج من ضعفها الذاتي ، الذي يتجلى على الصعيد الفكري / المعرفي أكثر مما يظهر على أي صعيد آخر . وهنا المشكلة الخطيرة، التي لم تعالج بأي قدر من الجدية إلى اليوم ، حتى في البرنامج الجديد للمكتب السياسي .
والنتيجة
بعد فترة من الحيرة ، بحث النظام خلالها عن ضمانة خارجية تكفل استمراره ، وجعلها شرطا لقيامه بأي تغيير داخلي ، يبدو أن الممسكين بالسلطة في سوريا غيروا في الآونة الأخيرة أولوياتهم وبدؤوا في تنفيذ نمط من التغيير سيفضي إلى نظام " القفص المغلق " ، الذي وصفته في بداية هذه المقالة ، ويعتقدون أن الخارج سيضمنه حتما ، وأنه سيتكفل وحده بإدامة الأمر القائم ، وإن في صيغ معدلة بهذا القدر أو ذاك .
هذا التطور له معان كثيرة ومهمة ، منها أولا : أن سوريا بدأت سيرها الجدي نحو حقبة مختلفة ، ستغير الحاضنة الوطنية العامة للنظام وللمعارضة. وفي حين يعرف الأول ما يريد، تبدو الثانية عاجزة عن تجديد خياراتها ، وتكرر مطالب تتحول أكثر فأكثر إلى ضرب من أخلاقيات مدنية دون فاعلية سياسية ، أو أن فاعليتها المحدودة تتهتك وتتراجع ، بينما تستمر الأطر التنظيمية والفكرية ، التي كانت لها خلال ربع القرن الماضي ، رغم أنها بحاجة إلى تجديد جدي يضفي ، أخيرا ، طابعا ديموقراطيا على أحزاب تطالب النظام بالديموقراطية . ومنها ثانيا أن البلد ستواجه خلال أعوام قليلة نظاما يختلف عن نظامها الراهن ، الذي ألفت المعارضة التعاطي مع جوانب محدودة منه ؛ نظام أثبت فاعليته في مناطق أخرى كثيرة من العالم منها مصر ، يتمتع بغطاء خارجي محكم ، وبمران داخلي تتيحه تشكيلة جديدة تمكنه من التكيف مع ما يتطلبه الوضع الاجتماعي ووضع الدولة من تبديل وتجديد . ومنها ثالثا أن العالم لن يقف كثيرا عند مطلب ديموقراطي حملته ضعفاء، تتراجع قدراتهم حتى لا يكاد يشعر بهم أحد ، رغم أن فيهم رموزا وطنية مهمة بكل المعايير الوطنية والقومية والدول ية .
هل ستبقى المعارضة حيث هي ، فينتقل النظام من أسلوب في احتجازها جربه بنجاح بين 1980 و200 ، إلى أسلوب آخر ، جديد وفاعل ، جربته مصر ببراعة خلال السنوات العشرين الماضية ، أثبت جدواه وجدارته بدوره ؟. أم تقرر ، أخيرا ، إعادة إنتاج نفسها في إطار وطني جديد ، يبدلها ويخلصها من حقبة جمدت نموها في الماضي ، وستحولها من الآن فصاعدا إلى تكوين سيجعل منها ، في أحسن الأحوال ، كاريكاتور معارضة ، وعقبة في وجه الانتقال إلى الديموقراطية ؟.