لخير هذا الوطن عن المثقف والسلطة في سوريا
لخير هذا الوطن عن المثقف والسلطة في سوريا
ياسين الحاج صالح
لم يخطر لي أنه سيُعرض عليّ "التعاون" مع أحد أجهزة الأمن في دمشق خلال استدعائي إليه يوم 29/1/2005. التعاون بلغة أجهزة الأمن السورية يعني ان يصبح المرء "عميل مخابرات". يقوم بتسقط المعلومات عن معارفه وأصدقائه والوشاية بهم و"كتابة التقارير" عنهم إلى تلك الأجهزة التي يصح القول فيها إنها لا ترحم الناس ولا تخشى الله. لم يخطر في بالي عرض التعاون لأني كنت أتخيل أن ذهنية التعامل مع المعارض كعدو ينبغي محقه، معنويا وسياسيا وأخلاقيا، على طريقة معاملة عشرات الألوف من السوريين خلال العقدين الأخيرين المظلمين من القرن العشرين، قد انقرضت. وربما كذلك لأني توهمت نفسي "محصنا" بسابق سنوات سجني وبعملي الكتابي.
قال الضابط الذي قابلني إن "التعاون بيننا هو لخير الوطن"، ما يعني ان عملي الحالي لا "يخدم الوطن"، أو على الأقل لا يخدمه مثل الوشاية والتلصص على الناس وبذل الجهد للإيقاع بهم وكشف سرائرهم وتسطير التقارير عنهم. لا أعرف مبرر استدعائي ولا إن كان السيد الضابط يعلم عن عملي شيئا. لكن في جميع الاستدعاءات السابقة، والأخير هو رقم 10، كان السبب شيئا كتبته او قلته أو فعلته ويتصل بعملي ككاتب معارض لنظام الحزب الواحد البعثي. وقد تبين لي بالخبرة ان أجهزة الأمن لا تعرف عنا إلا المعلومات السرية التي تنتزعها بالتعذيب (وأقل بالتقارير)، أما كل ما نفعله علنا فلا تعلم عنه شيئا، ولا تراه إن جرى امام عينيها، ولا تعرف كيف تتعامل معه إن رأته. ففي جميع المرات أيضا استدعيت بناء على تقارير نُقلت إلى الأجهزة عن شيء كتبته علنا وباسمي الصريح او قلته علنا.
في عبارة اخرى، تعتمد الأجهزة أساليب عمل مجلوبة من مناخات السرية والكتمان، ولا شك أنها تفضل لو يعمل الناشطون والمعارضون والمثقفون سرا بما يناسب أساليبها ويسوّغ لها التعذيب والتهويل من أخطار "العدو الداخلي".
كان استدعاء 29/1/2005 هو المرة الأولى يعرض عليّ "التعاون لخير هذا الوطن" منذ خروجي من السجن آخر عام 1996. لقد ذكّرني العرض ب"المساومات" الأمنية التي كنا نتعرض لها في السجن على أيدي لجان مختصة: تتعاون معنا مقابل الإفراج عنك.
كان الخيار المطروح علينا أن نكون سجناء أو أذلاء، إما أن تخسر حريتك وإما كرامتك، ولا مجال لأن تكون حرا وكريما في الوقت نفسه في "الوطن". وكانت "المقدمة النظرية" الدائمة لتلك المساومات هي أن المرحلة حرجة والأخطار محدقة بالوطن، وأن "التعاون" والوشاية ببعضنا أو بمواطنينا هو دورنا، نحن السجناء السياسيين، في المعركة الوطنية (تركت لديّ هذه الخبرة المتكررة والممزقة نفورا ثابتا من كلمة وطن؛ استخدم عادة كلمة البلد او البلاد).
قبل ثلاثة اعوام استدعيتُ إلى الجهاز الأمني نفسه. كان الشخص (الأرجح أنه برتبة مساعد) الذي قادني إلى مكتب أحد الضباط هو نفسه الشخص الذي قادني هذه المرة إلى مكتب رئيس قسم الأحزاب في الجهاز المذكور. وقتها أعاد عليّ ذلك المساعد المفترض بالكلمات نفسها وبالنبرة نفسها وباليقين نفسه جملة افترضها مطمئنة لي: "ما في شي! بس نتعاون لخير هذا الوطن!". أعادها مرات وهو يضع يده في جيبه ويشدد على عبارة "هذا الوطن" إلى درجة تبعث على الظن أن ما في جيبه هو الوطن بالذات، وأنه ربما يظهره في أي لحظة لعيني المتشككة. والواقع أنه في العهد الذهبي لأجهزة الأمن السورية كان كل شيء يقول إن "الوطن" شيء لا يلتقيه المرء إلا في غرف التحقيق أو في أقبية التعذيب في تلك الأجهزة. كانت المعادلات الضمنية المستقرة:
الوطن هو المخابرات، والوطنيون هم الجلادون، تعذيب السجناء أعلى فضائل الوطنية.
وبالطبع خدمة الوطن هي العمل مخبراً!هذا القلب التام للقيم منبع فياض ودينامي لخراب الوعي والرابطة الوطنية.
ولعله لا يتجسد في شيء اكثر مما في تعبير اجهزة الأمن نفسه. فهذا تعبير أورويلي بالفعل معناه الحقيقي اجهزة الخوف. فقد كانت تلك الأجهزة طوال عقود الحكم البعثي المديدة مصدر الخوف ونزع الأمن الأول في البلاد السورية المشدوهة.
وكانت سوريا طوال تلك العقود بلدا اورويليا بامتياز. يكفي التفكير في مقابلات واقعية لمفردات الشعار البعثي الشهير: وحدة، حرية، اشتراكية!
في ذلك "الاستدعاء" قبل ثلاث سنوات، وكان الثالث بعد أيلول 2001، امتنع الضابط عن عرض "التعاون" عليّ. ربما شعر بأن من غير اللائق أن يعرض على سجين سابق أن يستأصل نفسه أخلاقيا وسياسيا. فضباط الأمن وعناصره يعرفون جيدا مغزى عرضهم، ولذلك بالذات يعرضونه على ضحاياهم. لسان حالهم يقول: المثقف الجيد هو المثقف الميت.
هذه المرة وفي بداية عام 2005 لم يمتنع الجهاز عن عرض "التعاون لخدمة هذا الوطن" عليّ، تاركا لي ان استنتج أن "وطني" يستفيد مني واشيا بينما قد يتضرر مني مثقفا. يحتاجني ميتا أخلاقيا وسياسيا بينما أفيض عن حاجته إن كنت مستقل الضمير والرأي.
الأمر كذلك بلا جدال. وواقعة العرض الأمني لي معيارية أو نموذج مثالي في ذاتها للعلاقة بين المثقف والسلطة. واقعة لا تحتاج إلى تجريد لأنها مجردة بذاتها، ولا إلى القياس على غيرها لأنها مثال أقصى يقاس عليه: يطالب المثقف بأن يكتب...
تقارير بمواطنيه لأجهزة سلطة تتمتع بحصانة مطلقة ولا تحاسب مهما فعلت، وتقاريره يقرأها أفراد مستواهم الثقافي معدوم. وتتكفل بالتجريد علاقة القوة العارية بين الطرفين: المستدعي سلطة لا تحد، والمستدعى شخص محدود حتى الإمحاء (ينبغي القول إن هذه العلاقة مشوبة واقل عريا اليوم: رفضت العرض بلا لبس وخرجت من الجهاز بعد قرابة ساعتين على استدعائي!). ولم أعرف للأسف هل يريد الجهاز الأمني مني التفرغ لكتابة "التقارير" أم أن أمزج بين المثقف والمخبر، بين فنين للكتابة:
"التقارير" والمقالات. في المناسبة، لم لا يعترف "اتحاد الكتاب العرب" بفن "كتابة التقارير" ويقبل اصحاب "الخط الحلو" (عبارة يكني بها السوريون عن كتّاب التقارير) أعضاء فيه؟ سيكون هذا إبداعا وطنيا لا يقل "أصالة"عن الجبهة الوطنية التقدمية ومنظمة طلائع البعث!
ربما نلاحظ أن "كتابة التقارير" للمخابرات هي الشكل الأقصى من التزام المثقف، أعني الشكل غير الخاضع لدستور او ضوابط ثقافية واخلاقية مستقلة عنه. بمعنى آخر الالتزام في ذاته ومن دون ضبطه بشيء آخر لا يقف عائقا في وجه النوع الثقافي الأمني الذي هو "كتابة التقارير". ولا شك أن مخابرات ستالين وهونيكر وامثالهما كانت تطلب الوشاية من المثقفين لأن السلطة في ذاتها كانت ثقافة وأخلاقا وخيرا محضا، أي حائزة النسخة الوحيدة الصحيحة من "مصالح الشعب الحقيقية"، المصالح التي يفترض بالمثقف أن يلتزمها. إن "التقرير" هو أعلى اشكال الثقافة والالتزام في انظمة الاستبداد العقيدي (الشمولية او أنظمة الطغيان المحدث). وفيه تتجسد الثقافة سلطة.
ترى، كيف هو "الوطن" الذي يستفيد من "كتابة التقارير" لا من عمل المثقفين؟ وما حال البلاد التي يتقدم فيها الواشي على المثقف، بل لا يثبت المثقف أهليته الوطنية إن لم يكن واشيا؟ وكيف يكون شعب يُفرض عليه مثال للمواطن الصالح هو الواشي المعدوم الضمير و"كتّيب التقارير"؟
من جهتي، لست مواطنا وليس هذا وطني! وطني يقيم في الزنازين لا في المكاتب الفخمة، ويمشي على قدميه أو ينحشر في "السرفيس" ولا يركب المرسيدس والهامر، ويعيش من جهده لا من سلطته الامتيازية، ويسكن بيوتا بائسة لا في فيلات ومزارع!
مواطنيّ هم الخائفون والسجناء وليسوا المخابرات وصنّاع الخوف!
دمشق 31/1/2005