لبنان فرصة سوريا السانحة

لبنان فرصة سوريا السانحة

أنس العبدة

ربما تتمكن القيادة السورية من الخلود إلى الراحة قليلاً وقد ترتبت أوراق الرئاسات اللبنانية الثلاث ولاءاً. فرئاسة الجمهورية والحكومة والنواب بيد حلفاء سورية، أو كما تقول المعارضة اللبنانية: بيد التابعين للإرادة السورية. ولم يبق لهذا المشهد السريالي لكي يكتمل سوى انتخابات نيابية في ربيع العام القادم تأتي بمجلس منتخب حسب الطلب. هذا إذا ماحصلت الانتخابات ولم يُمدّد للمجلس النيابي الحالي أسوة بالرئاسة، فالقاعدة السارية

في لبنان اليوم: مدّد تسلم! إن الأحداث والوقائع في لبنان تتسارع وفق وتيرة لم يعهدها صانعوا القرار في سورية ولبنان، وفي وقت تزداد فيه المعارضة اللبنانية صلابة وتمثيلاً ونضوجاً،

تأتي حكومة عمر كرامي المملوءة بالوزراء لتشغل الفراغ في الأشهر السبعة القادمة. ولعل من أبرز الوجوه الجديدة في هذه الحكومة هو وزير الداخلية سليمان فرنجية الذي يطمح لرئاسة لبنان بعد ثلاث سنوات تماماً كما فعل جده من قبل حين انتقل من الداخلية إلى الرئاسة، مما سيضمن استمرارية النفوذ السوري والحفاظ على النهج الحالي وحراسة "مشروع معين" حسب قول وزير الدولة يوسف سلامة دون أن يعطي إيضاحاً عن أي مشروع يتكلم. ربما تكون هذه الحكومة محظوظة لقصرعمرها الافتراضي فلا يُنتظر منها الكثير من النتائج، كل ماهو مطلوب من هذه الحكومة إنجاز قانون انتخابي جديد عادل ومتوازن والإشراف على تطبيق هذا القانون من خلال انتخابات حرة ونزيهة تكون بداية الحل لعُقَد المشكلة اللبنانية. يبدو لبنان اليوم على أعتاب حالة جديدة أخطر مافيها مرحلة الانتقال والانعتاق من الحالة القديمة والتحرر من أسرها وقيودها. فهل سيتمكن لبنان من اجتياز المرحلة الانتقالية بسلام؟ الجواب على هذا السؤال بيد اللبنانيين أنفسهم، فهم وحدهم يدركون عمق المأساة عندما يرون بلدهم تتخطفه القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح الخاصة.

إن مما لاشك فيه أن مايربط لبنان وسوريا أكثر من التاريخ والجغرافيا، فالحاضر على علاّته والمستقبل بمجاهيله يؤثر على كلا البلدين وإن بنسب مختلفة. من هنا كان لابد للنظامين السوري واللبناني أن يدركا أن هذه العلاقة على متانتها ورسوخها يمكن أن تفرز مظاهر سلبية إذا ماوُضعت عربة القطار على سكة خاطئة. إن الانسداد السياسي والاقتصادي الحالي في لبنان يدفع كافة قطاعات المجتمع لتلمس طريق الخلاص. لكن المسألة تتعقد عندما ندرك أن جلّ مفاتيح الحل اجتمعت عند النظام السوري الذي يمارس دوره كلاعب أساسي وشبه وحيد في لبنان منذ عام 1991 وبموافقة واضحة من الولايات المتحدة وفرنسا آنذاك. ومع انكشاف الغطاء الدولي كان لابد للقيادة السورية أن تتعامل بمرونة أكثر وعقلانية أكبر في إدارة دفة الصراع القائم الذي وصل إلى كواليس الأمم المتحدة. وبدلاً من ذلك فإننا نرى ذات العقلية وذات الوسائل هي هي لم تتغير ولم تتبدل، فاتجهت هذه القيادة إلى تحصين الجبهة المؤسساتية اللبنانية لمواجهة النزال القادم بشخصيات لبنانية مأمونة الجانب سورياً. لذا فليس غريباً أن تكون جميع الوزارات السيادية في الحكومة الجديدة بيد وزراء تربطهم بدمشق أوثق الصلات.

كما لاحظ المراقبون أن الوزراء الجدد على عمومهم من الذين لاتربطهم بخارج لبنان علاقات وثيقة في محاولة واضحة لسد كل القنوات التي يمكن أن تؤثر على الوضع اللبناني سلباً أوإيجاباُ، وإبراز وجهة نظر أحادية وقناة اتصال وحيدة ومضبوطة للوقوف بوجه التيار القادم.

إن استخدام الوسائل القديمة في المطاولة والمماطلة واللعب على الحبال المختلفة لم يعد يجدي نفعاً، بل ربما أتى بنتيجة عكسية كما حصل في تغيّر وجهة النظر الفرنسية تجاه سورية ولبنان، فقد حاولت القيادة السورية اللعب على التناقضات الفرنسية الأمريكية وكان لديها قناعة أن ماأثبت فعاليته بالأمس لابد وأن ينجح اليوم. لذا كان انزعاج فرنسا واضحاً لدى استلامها رسائل عديدة وغير مباشرة تشير إلى أن سورية في طريقها لإبرام اتفاقيات جديدة ومهمة مع الولايات المتحدة وعلى فرنسا أن تنضم لهذه الاتفاقيات كملحق، بل وحاولت القيادة السورية اللعب على التنافس الداخلي التقليدي في الولايات المتحدة بين البنتاغون من جهة ووزارة الخارجية والـ CIA من جهة أخرى، فأبدت مرونة غير معهودة فيما يتعلق بتأمين الحدود مع العراق وإبعاد الفصائل الفلسطينية. ولكن هذه المحاولات لم تثمر كثيراً خاصة بعد فقدان الحليف الفرنسي الذي أبلغ الدبلوماسية السورية واللبنانية بشراسة ملفتة للنظر أن الضغوط السورية على لبنان تزيد الوضع تعقيداً.

إن الناظر بموضوعية إلى الحالة اللبنانية يكاد لايجد سبباً مقنعاً لإصرار سورية على عدم سحب قواتها من لبنان. فمن الناحية العسكرية البحتة ومع تقدم تقنية السلاح الحديث لم يعد مهماً أين تتمركز القوات، حتى أن عدداً من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي صرحوا مرّات عديدة أن الانسحاب من الجولان لن ينطوي بالضرورة على مخاطر أمنية وذلك لتمكن التكنولوجيا الحديثة من جسر هوة أي انسحاب محتمل. فتواجد القوات السورية في لبنان لايعني بالضرورة أمناً لسورية. أما إذا كانت الحجة أن التواجد العسكري ضروري لحماية لبنان من نفسه فهي أكبر شهادة على فشل التأهيل السوري للبنان منذ اتفاق الطائف، مع العلم بأن الحقائق على الأرض لاتدعم مثل هذا التخوف، فلبنان اليوم غير لبنان 1975،

ومن يحاول أن يقنعنا بغير ذلك فهو واهم، فالشعب اللبناني اليوم قادر على حماية مكتسباته الأهلية، بل أكثر من ذلك، إنه قادر على حماية المقاومة وسلاحها أيضاً. فلبنان ذو القرار المستقل قادر على إقناع العالم أن المقاومة وأدواتها شأن داخلي يخص لبنان وحده. أما مواجهة التوطين فهي محل إجماع وطني من قبل المسلمين والمسيحيين. كما أن المعارضة اللبنانية لاتنكر أن العلاقة المتميزة مع سورية والقائمة على الاحترام والتقدير المتبادل عامل أساسي في نجاح لبنان إقليمياً و عربياً ودولياً. وزير الإعلام السوري الجديد مهدي دخل الله أقرّ بهذه الحقيقة في حديث أدلى به قبل أيام. إن لبنان الحر والمستقل استقلالاً حقيقياً قادر على التصدي بنفسه للقرار 1559 وبكفاء عالية وبدعم وإسناد خلفي من سورية والعالم العربي كافة. لاندري مالذي تخشاه القيادة السورية من استقلال وحرية بلد كلبنان، فكل الأسباب الموضوعية والمنطقية تشير إلى عكس مايروّج له أصحاب الدكاكين الدعائية في لبنان من محاسن الإبقاء على الحالة القديمة المتكلسة. إن الذين يخشون التغيير ويخافون من التحول الإيجابي هم المتضررون منه، لذا فهم يسعون دائماً إلى تكريس الحاضر وطرد المستقبل، فهم المنتفعون من بقاء الأمور على ماهي عليه، وإذا حصل ما حصل فإن طائراتهم الخاصة جاهزة لنقلهم إلى بلدان عديدة ترعى استثماراتهم حالياً. هذه الفئة من المنتفعين السوريين واللبنانيين تمارس ضغطاً شديداً على أصحاب القرار في كلا البلدين لمواجهة التغيير والتطويروتكريس حالة العجز والفساد.

إن الخاسر الأكبر من الاستمرار بهذه الطريقة هو الشعب اللبناني والسوري، وللحفاظ على مقدرات ومكتسبات البلدين والشعبين الشقيقين فإن القيادة السورية مطالبة بتغيير نهجها وكف يدها فلقد أثبتت التجارب القديمة والحديثة أن الشعوب أقدر على الصمود والنصر من الأنظمة الاستبدادية. كما أن القيادات الوطنية اللبنانية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن ترتقي سلم المسؤولية وتقدم المصالح العامة على أي اعتبارات أخرى، وأن تدرك حجم الفرصة التاريخية المتاحة لها وللشعب اللبناني كافة، وإلا فإن التاريخ والوطن لن يغفر لها تقاعسها مهما كانت الأسباب.