زيارات الأسد بين المحاولات والإنجازات

زيارات الأسد بين المحاولات والإنجازات

أنس العبدة

[email protected]

أتت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لموسكو في وقت من أوقات السنة يشعر فيه الروس بالقوة والمنعة، وذلك حسب المقولة المنسوبة لقيصرهم الأسبق نيكولاس الثاني بأن روسيا يمكنها الاعتماد وبثقة تامة على جنرالين اثنين: الجنرال كانون الثاني (يناير) ، والجنرال شباط (فبراير)، في إشارة واضحة إلى شتاء روسيا القارص الذي طالما وقف سداً منيعاً في وجه الأعداء. ووسط هذا الصقيع السيبيري المهيب تتحدث القيادة السورية عن دفء مكنون لعلاقات سابقة يمكنه أن يخفف من حدة شتاء دمشق المستمر بلا انقطاع. فبعد محاولات عديدة ومتكررة للنظام السوري في كسر العزلة المفروضة عليه إقليمياً ودولياً، مازال الإصرار قائماً لدى أصحاب النفوذ في المنطقة على إبقاء مستوى التعامل مع النظام يتأرجح مابين اللامبالاة والحد الأدنى من الدبلوماسية. لذا فبعد أشهر من استجداء التعاون الأمني مع الولايات المتحدة من جهة وعروض السلام غير المشروط مع إسرائيل من جهة أخرى، اختارت القيادة السورية أن ترمم شيئاً من سمعتها الداخلية والخارجية من خلال مبادرات تعطي الانطباع بأن البدائل لما هو مطروح موجودة ومتوفرة في حال استمر الآخرون بانتهاج سياسة الحد الأدنى من التعاون والسقف الأعلى من المطالب.

هنالك ثمة معضلة تلعب دوراً مهماً في تحديد أهمية هذه الزيارة. فالسياسة السورية مازالت تصبو إلى زمن ثنائية القطبية، فهي قد عاشت وترعرعت عليه ردحاً من الزمن مستفيدة من متناقضاته ومتكئة على منعرجاته حتى أصبحت أسيرة له بامتياز, فلم تعد قادرة على استيفاء متطلبات الانتقال من الماضي إلى الحاضر. وفي هذا السياق, فإن هذه الزيارة لاتأتي إلا كمحاولة لبعث ذلك القديم وإن كحلم جميل يمكن أن يحياه المرء برهة من الزمن. هذا تماماً هو الانطباع الذي يمكن أن تخرج به لدى سماعك تصريحات المسؤولين والوزراء السوريين. ولا تملك وأنت تستمع إلا أن تسترق النظر إلى أقرب روزنامة لتتأكد من اليوم والشهر والسنة بغرض التثبت لاغير.

وإذا ماوضعنا هذه المعضلة جانباً فإن من حق النظام السوري أن يبحث عن بدائل سياسية واقتصادية بشرط أن لايكون ثمن هذه البدائل غالياً وعلى حساب المواطن السوري. فروسيا بوتين تختلف اختلافاً كبيراً عن روسيا بريجنيف لأنها أصبحت جزءاً من المنظومة الغربية ذات المصالح المتداخلة و المعقدة. فلا يمكن التعويل على روسيا كثيراً وقد خسرت معركة مهمة قبل أسابيع قليلة في خاصرتها الأوكرانية، مع العلم أن 20% من المواطنين الأوكرانيين هم من الإثنية الروسية. كما أن فرص نجاح محاولات جر روسيا للعب دور فاعل في سلام الشرق الأوسط لن تكون أفضل بكثير من محاولات شبيهة للاستفادة من دور أوروبي في هذا المجال. فروسيا وأوروبا لاتمتلكان القدر اللازم من النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي لإحداث توازن مع الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. كما أن كلتا القوتين غير ملتزمتين بأمن أي دولة عربية كما هو حال التزام الولايات المتحدة أمن اسرائيل. ولن تخاطر أي منهما في مواجهة مع واشنطن من أجل خاطر الدول العربية مجتمعة ناهيك عن دولة بحد ذاتها.هذه الحقيقة تتكرس واقعاً مع توجه الأنظمة العربية نحو الخارج بدلاً من الداخل طلباً للاستقواء. ولن تمانع دولة مثل روسيا في جني بضع مليارات من الدولارات مقابل صفقات سلاح لصالح الجيش السوري مع تأكيد المسؤولين الروس وعلى رأسهم بوتين للعالم عامة ولإسرائيل خاصة بأن هذه الأسلحة ذات طبيعة دفاعية وروسيا قادرة على مراقبة تطبيقات السلاح لتتحقق من عدم نقله إلى دولة أخرى. كل هذه الضمانات تأتي من قبل دولة كانت في الماضي تزود بلداناً كثيرة في المنطقة العربية بأضعاف حجم الصفقة المعقودة حالياً مع سورية وبأسلحة ذات طبيعة هجومية دون أن ترى أي مبرر لشرح موقفها أو لطلب تفهم قرارها. وظهر الجانب الرأسمالي من روسيا بوتين بشكل جلي من خلال مسألة الديون المتراكمة على سورية من زمن الاتحاد السوفييتي. فالقانون الدولي يصنف مثل هذه الديون تصنيفاً غاية في التعقيد والإشكالية خاصة على الدولة التي ترثها. لذا فقد اتخذت القيادة الروسية قراراً براغماتياً وصحيحاً في آن معاً بشطب قسم كبير من هذه الديون المعدمة مقابل تحصيل الباقي بشكل كامل وسريع. هذا بالإضافة إلى صفقات أخرى تم الاتفاق عليها. وهذه ليست المرة الأولى التي تقوم فيها روسيا بشطب ديون معدمة من أيام الاتحاد السوفييتي فقد قامت بخطوات مماثلة مع دول عديدة في العالم كانت مدينة لها.

تدرك القيادة السورية أن روسيا غير قادرة على منافسة الولايات المتحدة على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وإن أرادت، فهي لم تعد تمتلك مقومات القوة العظمى كما كان لها عندما كانت اتحاداً سوفييتياً. لذا فجلّ مايمكن أن تنافس عليه دولة مثل روسيا هو في الحقل الاقتصادي مثلها في ذلك مثل فرنسا وبريطانيا والصين وحتى الهند. أما ماتطمح إليه القيادة السورية من هذه الزيارة فهو إرسال رسالتين اثنتين : الأولى للولايات المتحدة ومفادها بأن سورية قادرة على البحث عن بدائل إذا ماستمرت واشنطن في تهميش وإلغاء الدور السوري أقليمياً, مع الملاحظة بأن هذه الرسالة لاتعني بحال من الأحوال تحولاً من جانب القيادة السورية في الاستمرار بورودها منابع النفوذ الأمريكية لإرواء عطش متزايد لدور إقليمي فاعل. الولايات المتحدة وعلى الأغلب لن تكترث كثيراً لهذه الرسالة وسيكون ردها عليها مزيداً من الضغوط والطلبات الملحة. فكلما قدم النظام تنازلاً طالبته واشنطن بالمزيد، والدليل هو ماقاله السفير ساترفيلد نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط عقب الزيارة السورية لموسكو بأن واشنطن تنظر بعين القلق إلى مواضيع كثيرة تتعلق بالموقف السوري من لبنان والعراق والإرهاب. وهو مااعتبره الكثير من المراقبين على أنه تصعيد واضح في لهجة الإدارة الأمريكية.

أما الرسالة الثانية فهي موجهة للداخل السوري ومفادها أن القيادة السورية قادرة على التغلب على الضغوطات وتحقيق الإنجازات المهمة. وكانت التغطية التقليدية للتلفزيون السوري والاستعراضات الخطابية أبرز ما ميّز هذه الزيارة. ولكن حملة البروباغاندا التي واكبت الزيارة مازالت كغيرها من الحملات السابقة تخطيء قراءة عقل المواطن السوري الذي فقد الثقة تماماً بذلكم الإعلام الموجه وأصبح متقدماً على النظام وآلياته الدعائية بمراحل متقدمة. فعندما يشكو المسؤولون السوريون من هيمنة منطق القوة في عالم اليوم فإن المواطن لايملك إلا أن يذكرهم بطرق عدة أنه يعاني من ذات المنطق في بلده هو وعلى أيدي نفس المسؤولين الذين يصبحون مهاتمات غاندية لحظة مغادرتهم الحدود السورية. ويرفع المواطن السوري حاجبيه عجباً عندما يستمع لهؤلاء المسؤولين وهم يتحدثون عن ضرورة انتهاج الحوار كسياسة بديلة عن الصدام، وكأن مصطلح ومفهوم وفلسفة الحوار تتعلق بالخارج فقط وليس لها أي بعد داخلي يمتد لجميع أطياف المجتمع والمعارضة. فكل المبادرات الإيجابية التي أطلقتها أطراف عديدة في المعارضة السورية لم تلق في النظام إلا أذناً صماء لاتسمع ولاتعي ولاتدرك. والأمثلة كثيرة، فكيف يمكن لإنسان يمتلك الحد الأدنى من الإدراك والفهم أن يقتنع بأطروحات القيادة السورية سواء في الداخل أو الخارج.

لامبالغة في القول أن سياسات النظام السوري محكوم عليها بالفشل, وذلك لالزيادة أو نقصان في مستوى التحالف والتعاون والتعامل مع هذا الطرف أو ذاك،وإنما لأنها تتجاهل الواقع وتمضي قدماً في اجترار الماضي. كما أن الخارج بات يدرك كنه هذه السياسة البهلوانية وأصبح متأكداً من افتقارها إلى الحد الأدنى من الشرعية في عصر أضحت فيه مفردات الديمقراطية وحقوق الإنسان من المستلزمات الأساسية للقبول الدولي.وهكذا يستمر النظام بالتطبيل والتزمير لإنجازات وهمية ويبقى المواطن يلعق جراحه في انتظار مستقبل زاهر لن يتأتّى له مالم ينزل إلى الشارع ويرفع صوته عالياً لأن أهل كييف وتبليسي ليسوا أكثر شجاعة وجرأة منه...