القيادة السورية و الاستحقاقات اللبنانية

القيادة السورية و الاستحقاقات اللبنانية

أنس العبدة

 حين يصر زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط على عدم التواصل مع القيادة السورية من خلال مدير استخباراتها في لبنان العميد رستم غزالة، فإنه يضع يده على مكان الجرح في العلاقات اللبنانية السورية. هذا الجرح الذي بات ينزف داخلياً أصبح مرشحاً لمضاعفات يمكن أن تؤثر على كامل جسد العلاقات الثنائية بين بلدين جارين يجمعهما الكثير والمصير المشترك. وفي مقابل ذلك فإن القيادة السورية مازالت تعتمد قناتين تقليديتين في التواصل مع التيارات اللبنانية المختلفة: القناة الأولى هي عبر المجلس الأعلى اللبناني السوري والذي يتمثل فيه نظامي البلدين رسمياً ومؤسساتياً. أما الأخرى فهي عبر ضابط الاستخبارات السورية الذي يمثل قيادته رسمياً في لبنان، وتتم عن طريقه تقديم الطلبات، وترتيب اللقاءات، وتحديد الأولويات والسياسات، ورسم الولاءات. غير أن ردود الفعل اللبنانية الجريئة أربكت القيادة السورية و دفعتها نحو إعادة النظر في طريقة تعاملها مع الملف اللبناني. و تأتي زيارة نائب وزيرالخارجية السوري وليد المعلم لبيروت كتدشين لافتتاح قناة ثالثة للتواصل مع القوى اللبنانية التي تتشكل الآن بناءً على معطيات جديدة. فالكثيرمن اللبنانيين بات يضيق ذرعاً من نمطية تدخل النظام السوري في دقائق الحياة اللبنانية والتي باتت تأخذ شكلاً سيادياً وأمنياً بصورة تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. وبغض النظر عن رأي المعارضين أو المؤيدين لهذا التدخل إلا أن الجميع يقر بأن هذا التدخل حاصل وعلى جميع الأصعدة.

ظاهرة التذمر هذه ليست جديدة على المجتمع اللبناني ولكنها تكتسب اليوم زخماً خاصاً ، لأن بعض الثوابت في المعادلة اللبنانية بالغة التعقيد قد بدأت بالتحول إلى متغيرات، كما المتغيرات الى ثوابت. فثابت الغطاء الدولي الذي مكّن القيادة السورية من ترتيب الأوراق اللبنانية حسبما تشاء نراه وقد انكشف وأصبح متغيراً، وذلك عندما سُحبت "الوكالة العامة" التي أعطيت للنظام السوري عام 1976 . كما أن المعارضة اللبنانية ذات الطيف المسيحي التقليدي أصبحت أكثر تمثيلاً للأطياف اللبنانية الأخرى مما يرشحها بقوة لتكون ثابتاً وطنياً. فاصطفاف عدد من الزعماء اللبنانيين وحلفاء سابقين للنظام السوري في خندق المعارضة من أمثال وليد جنبلاط ،ورئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وإن بشكل غيرمباشروأقل علنية من الزعيم الدرزي ، بالإضافة إلى عدد من نواب الشمال والجنوب، ورسالتي الحص والحسيني للقيادة السورية، لهو تغذية وتقوية واضحة للجانب الوطني من هذه المعارضة. هذا بالإضافة إلى عامل جديد دخل على المعادلة المعقدة ، ألا وهو الضعف الملحوظ الذي يعاني منه النظام السوري داخلياً وبنيوياً. هذا العامل أصبح له أثر كبير في التعامل الإقليمي و الدولي  مع هذا النظام وبخاصة في لبنان. فمقولة جورج بوش بأن سورية ضعيفة ويجب أن تنتظر دورها للصعود إلى قطار السلام، المقصود منها هو ضعف النظام بالتحديد . فالرئيس الأمريكي وإدارته يدركون جيداً - وبحكم تجربتهم الأليمة في العراق- أن ضعف النظام لايعني بحال من الأحوال ضعف الشعب والأمة، كما أن قوة الشعب والمواطن لاتعنيان بالضرورة قوة النظام والقيادة وحمايتهما.

بروز هذه المعادلة الجديدة وضع القيادة السورية أمام تحديات حقيقية على الساحة اللبنانية. فمطالبة المجتمع الدولي بانسحاب كامل للقوات العسكرية السورية من لبنان خروج واضح على اتفاق الطائف وكأنه يلغيه حكماً. ويولي كثير من اللبنانيين الشق الأمني من هذا الانسحاب أهمية أكبر من الشق العسكري. فمنذ البدء كان التواجد العسكري تغطية لتواجد أمني أكثر كثافة في بسط الهيمنة التي رسمت معالم الحياة السياسية والاقتصادية اللبنانية وخاصة في مرحلة جمهورية الطائف التي بدأت عام 1990 وحتى الآن. ومع تمسك بعض أطراف المعارضة اللبنانية بضرورة الانسحاب الكامل إلا أن فريقاً آخر لايرى ضيراً في إكمال إعادة الانتشار على أسس اتفاق الطائف. ولكن أطراف المعارضة كلها مجمعة على ضرورة وضع حد لهيمنة الأجهزة الأمنية السورية على الحياة اللبنانية خاصة مع اقتراب موعد الاستحقاق النيابي في الربيع المقبل. إذ تعتقد المعارضة أن هذه الهيمنة الأمنية لن تسمح بحصول انتخابات نزيهة. وحسب تقدير كثير من المراقبين فإن القيادة السورية اتخذت قرارها بالانسحاب العسكري قبيل صدور التقرير الذي سيقدمه كوفي عنان إلى مجلس الأمن حول التزام الجانب السوري بتطبيق القرار 1559 بشقه العسكري. وقد حاولت القيادة السورية تعبيد الطريق السياسية إلى بكركي عندما اختارت إعلام البطريرك صفير قبل غيره بانسحاب ثلاث مفارز أمنية سورية بشكل رسمي ولأول مرة. وفي حين اعتبرها البعض بادرة إيجابية إلا أن المعارضة لم تر فيها غيررشوة سياسية يُقصد منها تخفيف الضغط ماأمكن. ويبقى من غيرالواضح إذا ماكان الانسحاب العسكري  سيقترن بانسحاب أمني مماثل. ذلك أن التواجد الأمني يمكن أن يتخذ أشكالاً متعددة و غير مباشرة يصعب معها تحديده أو تقدير حجمه الحقيقي.

أما التحدي الثاني فهو: الاستحقاق النيابي المقبل في شهر أيار. ويمثل هذا الاستحقاق أهمية بالغة للقيادة السورية، فمنذ عام 1992 تمكن النظام السوري من بسط نفوذه عن طريق أغلبية نيابية موالية له. وحتى يستمر هذا النفوذ فلا بد من حصد ثلثي المقاعد في البرلمان اللبناني القادم على الأقل. ويصطدم هذا الهدف بعقبتين أساسيتين : أولاهما المعارضة التي باتت تشكل خطراً أكبر على التيار الموالي وذلك من خلال تنوعها وجذبها لأعداد متزايدة من قياديي العمل السياسي الذين ينتمون لطوائف مختلفة. وإذا مااستمرت المعارضة الوطنية اللبنانية في اعتدالها، وشمولية نظرتها وتمثيلها، ووحدتها، ومواقفها الواضحة والثابتة بشأن إقامة علاقات استراتيجية مع سورية قائمة على أسس صحيحة فإنها ستصبح ورقة قوية يصعب على القيادة السورية والتيار الموالي لها تجاهلها في الانتخابات القادمة. ولعل تحرك بعض رموزالتيارالموالي باتجاه فتح حوار مع العماد ميشيل عون في باريس ولقاء حزب الله مع ممثلين لعون في المعارضة اللبنانية لدليل على التحرك باتجاه سبر غور المعارضة الجديدة القادمة. ورغم تطمينات وزير الداخلية اللبناني سليمان فرنجية بأن قانون الانتخابات الجديد – العقبة الثانية – سيكون عادلاً مع الجميع إلا أن التأخير في الإعلان عنه حتى الخامس عشر من هذا الشهر يدفع بالمعارضة إلى الريبة والشك في أن التيار الموالي ومن ورائه القيادة السورية يعكفان بهدوء على تفصيل قانون انتخابي حسب المقاس يضمن لهم الثلثين على الأقل، وذلك لإعادة شرعنة النهج الحالي للمؤسسات الحاكمة، خاصة وأن هذا البرلمان ستناط به مهمة اختيار الرئيس المقبل للبنان بعد ثلاث سنوات. وترى المعارضة في القانون الانتخابي لعام 1960 الذي يعتمد القضاء كدائرة انتخابية أساساً صحيحاً للقانون الجديد، في حين تتجه الحكومة اللبنانية إلى اعتماد الدائرة الوسطى (قضاءان) وبدون تمثيل نسبي كأساس. ومن المهم جداً أن يحصل إجماع وطني على القانون الانتخابي الجديد مما ستكون له آثار إيجابية على مصداقية النتائج الانتخابية ووضع حد للافتئات من أي طرف كان. وهذا ربما ما حدى بالحكومة اللبنانية و القيادة السورية إلى فتح حوار مع أقطاب المعارضة والموالاة في محاولة للإتفاق على قانون انتخابي لا يثير الكثير من اللغط و يسمح بمرور هادئ للقانون في المجلس النيابي الحالي.

ويبرز التحدي الثالث للقيادة السورية من خلال المطالبة الواضحة للقرار1559 بنزع سلاح المليشيات وهذا يعني نزع سلاح المقاومة. فإذا ماقرر النظام السوري الانسحاب قبل أيار القادم فإنه سيعفي نفسه من هذا الاستحقاق ويترك الأمر لمؤسسات القرار اللبناني للبتّ فيه ، وهم أي اللبنانيون أقدر على حماية المقاومة وسلاحها من أي دولة أو جهة أخرى سواء كانت إقليمية أو دولية. وكل الدلائل تشير إلى أن اللبنانيين لم يعودوا بحاجة إلى وصاية أحد. والقرار الذي سيتخذه لبنان وهو حرومستقل لابد وأن يكون قراراً مسؤولاً، ووطنياً، وفي مصلحة الجميع. فتصريح النائب نسيب لحود زعيم حركة التجدد الديمقراطي لجريدة السفير حول المقاومة و مزارع شبعا دليل واضح على أن المعارضة تدرك الأهمية الاستراتيجية لورقة المقاومة حيث يقول: (علينا القول بقناعة كاملة انه ليس بإمكاننا التخلي عن ورقة حزب الله إلا عندما نتوصل الى السلام الشامل في المنطقة. عندها يمكن إيجاد وسيلة لإدارة الملف بشكل نحافظ فيه على المقاومة كاحتياطي استراتيجي ولكن وفق صيغة تسمح للشرعية اللبنانية بأن تكون موجودة في الجنوب بصورة افعل وعبر كل المؤسسات التربوية والانمائية والقضائية والامنية وغيرها).

إن المعادلة اللبنانية الحالية المعقدة بثوابتها ومتغيراتها ومجاهيلها الجديدة تضع الجميع أمام استحقاقات مهمة كما أنها تضع الشعب اللبناني أمام فرصة يمكنه اقتناصها إذا ماأراد التغيير. خاصة بعدما فاتته فرصة الانتخابات الرئاسية باعتماد التمديد. فالمعارضة اللبنانية أمام ثلاثة تحديات: 1- تكريس أساسها الوطني فكرياً و سياسياً كأيدلوجيا و تطبيق. 2- المحافظة على وحدتها الداخلية ضمن عملية الاستيعاب الحالية للأطياف اللبنانية المختلفة. 3- إثبات عمقها الجماهيري من خلال صندوق الاقتراع لأن التيار الموالي لديه قوة انتخابية لا يستهان بها. والسلطة في لبنان أمام استحقاقين هما: تقديم مشروع قانون انتخابي عادل، وتوفير أجواء انتخابية حرة ونزيهة. أما الاستحقاق الأهم بالنسبة للقيادة السورية فهو كف يدها عن لبنان لما في ذلك من مصالح عليا مرجوة للشعب السوري، فلعل وعسى أن تنتقل عدوى الحرية هذه لشعب يصبو إليها منذ زمن.