سورية بين عروض السلام و حتمية التغيير
سورية بين عروض السلام و حتمية التغيير
أنس العبدة
يبدو أن زيارة وليام بيرنز نائب وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة لدمشق قد بدأت تؤتي أكلها. فبدءاً بالتعاون الكامل مع الجانب الأمريكي في مسألة الحدود مع العراق، ومروراً بمؤتمر شرم الشيخ ووعود وزير الخارجية السوري فاروق الشرع لنظيره الأمريكي كولن باول بانسحاب سوري كامل وهاديء من لبنان قبل حلول موعد التقرير الذي سيعدّه كوفي عنان لمجلس الأمن فيما يتعلق بالقرار 1559 ،
وانتهاء بالعرض السوري الرسمي بطلب استئناف المفاوضات مع اسرائيل بدون شروط مسبقة، كل هذا يدل دلالة واضحة على أن النظام السوري قد جُرّ – دون إرادته – إلى داخل الفلك الأمريكي بعد أن ظل ردحاً من الزمن يدور حوله باستحياء. وتأمل القيادة السورية مقابل هذه التنازلات والإشارات المفعمة بالكرم نوعاً من التفهم لها ولحاجاتها المحلية والاقليمية من جانب الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. وهي تدرك أن إسرائيل غير مستعدة للتفاوض والتفاهم وغير مقتنعة إطلاقاً بضرورة فتح الملف السوري في وقت تتجه فيه الأنظار والجهود بشكل شبه كامل نحو المسار الفلسطيني بكل تفصيلاته وتعقيداته. وقد بدأ النظام السوري بجني بعض الثمار جراء حركاته التكتيكية هذه، حيث خفّت حدة الانتقادات القادمة من الولايات المتحدة وإسرائيل ومن لفّ لفّهما. فالاستمرار السوري بطَرق الباب وبطريقة محرجة لصاحب البيت لابد وأن تضطره في النهاية إلى فتح الباب ولو جزئياً للتحقق من نوايا الطارق. هذا بالضبط ماقاله الرئيس الإسرائيلي موشي كاتساف في مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف في معرض الإجابة عن سؤال حول إمكانية التفاوض مع سورية التي تضغط لمعاودة مفاوضات السلام : (لدينا شكوك حول الهدف الحقيقي لبشارالأسد. هناك من يعتقد أنه جدّي وهناك من يظن أن موقفه ينبع من ضعف، وهدفه ببساطة المناورة من أجل تحسين موقعه. في رأيي أن للأسد مصالح مهمة لاتتمحور بالضرورة حول هضبة الجولان. هناك مصلحة له في توطيد حكمه، ولديه مصلحة تتعلق بمكانته الدولية، كما له مصالح في لبنان، ولديه اعتبارات اقتصادية ووطنية، وكل هذه العناصر في نظري أهم من قضية الجولان بالنسبة إليه. في رأيي من المفيد والمهم أن ندرس جيداً نياته). انتهى كلام موشي كاتساف. ومن المفارقات أن بعض المحللين في وزارة الخارجية السورية اقتبسوا عبارته المتعلقة بضرورة دراسة نيّات القيادة السورية على أنها دليل نجاح سياسي رغم علمهم أن منصب الرئيس الإسرائيلي منصب بروتوكولي بحت وتصريحاته لاتحمل صفة تنفيذية. هذا مع العلم بأن السلام العادل والمشرف هو مطلب كل مواطن سوري ولكن مع الاحتفاظ بكرامة هذا المطلب السامي وعدم تعريضه للاستجداءات المتتالية.
قد تكون السياسة السورية في الآونة الأخيرة غير واضحة المعالم ومضطربة بعض الشيء في أدائها، إلا أنها مع ذلك حققت بعض الإنجازات التكتيكية، ولكن هذه الثمار محدودة الفعالية ومدة صلاحيتها قد لاتتجاوز بضعة أشهر، يعود بعدها الضغط من جديد من أجل شروط جديدة وتنازلات مستمرة. إن الذي يمارس الضغط على دمشق حالياً يعرف معرفة المتيقن بأن النظام السوري يعيش حالة من الضعف والعزلة تسمح بالاستفراد به. وقد أثبتت القيادة السورية للجميع سواء المؤيد أو المعارض لها بأنها لاتتغير ولا تغير منهاج تعاملها مع الأحداث إلا من خلال الدفع الشديد والمتواصل. وقد تبدو أنها عصيّة على الضغوط ولكنها ولاضمحلال رصيدها الشعبي وضآلة منجزاتها على أرض الواقع لاتجد بداً في نهاية المطاف من تقديم التنازل المطلوب. فقبل عدة أشهر كان الحديث عن الانسحاب العسكري الكامل من لبنان يعدّ ضرباً من المثالية السياسية. وفي إشارة الى الإرتباك الشديد الذي تمر به السياسة السورية، هاهو النظام الآن يدافع عن مكتسباته الأمنية وغيرالأمنية في بلد كان يعتقد أنه قد ملك ناصيته السياسية والاقتصادية وأمّن به مايكفي من خيلٍ ورَجِلٍ لتثبيت مصالحه، وقد رأينا عديداً منهم في المظاهرة الثلثائية في بيروت مؤخراً. هذه التظاهرة أتت لتغطي مواقف سياسية موجعة ستتخذها دمشق في القريب العاجل ولإيجاد المناخ المناسب لملء فراغ القوات السورية المنسحبة وحفظ ماء الوجه.
إن في هذا درس للمعارضة الوطنية السورية، فإذا ماأرادت أن تنتزع أيّة مكتسبات مهمة لصالح المواطن السوري فإنها قادرة على الاستفادة من الأحوال الحالية، شرط أن تكون على قدر التحدي وأن تتفادى ماوقع فيه النظام من منزلقات. ولكن يبقى السؤال مفتوحاً إذا ماكانت هذه المعارضة الوطنية تختلف كثيراً عن المؤسسة الحاكمة من حيث الهيكلية البنيوية وسيطرة الحرس القديم وطرائق التفكير التقليدية وضعف المرونة السياسية وشبه جفاف الرصيد الشعبي. فكما أن المعارضة الوطنية تطالب النظام السوري بلإصلاح فإنها نفسها مطالبة بعملية إصلاح داخلية وجذرية للخروج من حالة الضعف المتبادل مع الدولة.
ومع استمرار المؤسسات الحاكمة في سورية في عملية الاستعداء الداخلي للشعب السوري من خلال التضييق الأمني والاقتصادي والسياسي بشكل لايطاق، ومع استمرار القيادة السورية في الإصرار على عدم إظهار الحد الأدنى المطلوب من المسؤولية السياسية والقيادية ضمن الظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية، فإن الخيارات المنطقية والواقعية إلى نضوب. لذا فليس غريباً أن تسمع من معظم السوريين العائدين من زيارة بلدهم حالة من الإحباط واليأس مرتبطة بما خبروه وسمعوه وشاهدوه خلال زيارتهم، ويشاركهم في هذا الشعور إلى حد كبير أشقاؤهم العرب الذين قصدوا سورية أو مرّوا بها مروراً. وهكذا يجد المواطن السوري نفسه أمام نظام شمولي يتمترس ببنية تحتية من الأجهزة الأمنية الفاعلة داخلياً ومعارضة ضعيفة غير قادرة على الإمساك بزمام المبادرة وأطراف خارجية متربصة. المواطن العربي لم يعد يرى فرقاً كبيراً بين الاحتلال الخارجي من جهة والأنظمة الاستبدادية التي تمهد لهذا الاحتلال من جهة أخرى. فحالة الحصار المفروضة على المواطن السوري في الداخل والخارج تدفعه دفعاً للبحث عن حلول لمعاناته التي يدفع ثمنها غالياً. وهو يحتاج إلى دعم وإسناد كل القوى الوطنية في العالم العربي التي باتت تميز بوضوح بين الصمود والتصدي كشعارات تُرفع وبين الممارسة الحقيقية لهذه الشعارات على أرض الواقع، فلم يعد مقبولاً لنخب الحكم أن تستمر في تنفيذ أجندتها الخاصة بها البعيدة كل البعد عن المصالح الوطنية وأن تهيء لحالة عراقية جديدة. ورغم الظروف المحيطة فإن المواطن السوري هو في حقيقة الأمر من يملك مفتاح الحل، فهو قادر على كسر هذا الحصار إذا ماشعر بأمل التغيير. هذا الأمل دفع الآلاف في جورجيا وما يزال يدفع مئات الآلاف في أوكرانيا للتعبير عن رغبة جامحة في وقف الظلم والتجاوزات. هذا الأمل يتعزز بوجود قوات أمن وجيش تحافظ على شرف مهنتها ومباديء قسمها عندما تنحاز لشعبها بوعي كامل لمسؤوليتها الأساسية في حماية الوطن والمواطن لاغير. إن أي خلل في أحد هذين العاملين أو كليهما يدفع بعملية التغيير الإيجابي إلى الوراء ويفتح الباب واسعاً أمام احتمالات لايحمد عقباها . إننا كشعوب عربية مطالبون بأخذ زمام المبادرة وعدم انتظار الحكومات أو المعارضات التي فقدت القدرة على القيادة وأصبحت أسيرة واقعها الكئيب. فالشعوب قادرة على التغيير إذا ما أرادت ذلك.