فلسطين في سوق النخاسة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يأخذ الأعداء فرصتهم كاملة ؛ حين يرون الضحية متراخيا كسولا هاربا من واجباته ، مكتفيا بالكلام والإنشائيان الفارغة ، يقدم مزيدا من التنازلات دون مقابل ، متشددا مع أشقائه وأخوته ، لايتنازل لهم عن قلامة ظفر ، ويشعل النار ضدهم بمنتهى القسوة والشراسة ، ويعتقد أنه على صواب وأنه المهدي المنتظر .. وتمضي الأيام والأسابيع والشهور والسنوات ؛ والوطن المستباح يتحول إلى سلعة رخيصة يبيعها العدو في مزاد أطماعه الشريرة وأهدافه الشيطانية . لقد صار الوطن عبدا يسخره الأعداء لخدمة مصالحهم الخاصة ، في سوق النخاسة التي لا تعرف المشاعر ولا الرحمة !

وفلسطين اليوم تعرض في سوق النخاسة ، وأول من يعرضها – للأسف – أصحابها وأقاربهم ، والمشتري ( العدو ) يتدلل ، ويتمنع ، ويعرض أبخس الأثمان وأتفه الأسعار !

القيادات الفلسطينية موزعة بين مليونيرات رام الله الذين آثروا الحفاظ على ملايينهم ومصالحهم الخاصة بالتحالف مع العدو ، وتنفيذ أجندته ، وتجييش المقاتلين تحت رعاية دايتون وجيش الدفاع الصهيوني ؛ لاستئصال المقاومة الباسلة ، وتصفية أفرادها بالقتل والاعتقال أو مساعدة الغزاة في القبض عليهم وخطفهم إلى السجون الصهيونية . وما زال السادة رجال السلطة المحدودة يعتقدون أن المفاوضات مع العدو يمكن أن تؤدي إلى عودة اللاجئين وتحرير القدس وجزء من فلسطين ( ! ) مع أنهم يتفاوضون منذ عام 1993إلى اليوم دون أن يستطيعوا رفع حاجز واحد في الضفة الغربية  !

ثم كانت أحداث هذه الضفة في أوائل يونيه 2009 م واقتحام بعض البيوت الفلسطينية من جانب الأمن الوقائي الفلسطيني ، وقتل أفراد من حماس بوحشية لا ترقب إلا ولا ذمة ولا قيمة ولا وطنية ، من أجل أن يرضى الغزاة النازيون اليهود ، ولكنهم لم يرضوا ولن يرضوا ، بل إن الناطق باسمهم وصف عملية القتل بأنها غير كافية (!) دليلا على انشغال القوم بأمور أخرى غير فلسطين واستعادتها.

أما فصائل المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع فهي موزعة على أسماء عديدة تتجاوز العشرة ، ومع أن مهمتها الوحيدة – كما يفترض – هي قتال العدو وإيلامه ، وجعل احتلاله لأرض الإسراء والمعراج غير مريح ، فإنها لا تتفق على لقاء مشترك وكيان مسلح واحد ؛ مثلما فعلت حركات التحرير الناجحة ، ولا نعلم سر هذا التشرذم الذي يمنعها منذ عام1965 م حتى الآن من التوحد ، والعمل المشترك والقيادة العسكرية الموحدة؟

كان الرئيس الجزائري الراحل " هواري بومدين " قد اقترح على " ياسر عرفات " – رحمه الله – أن يوحد هذه الفصائل المسلحة بالقوة مثلما فعل الجنرال "جياب " في فيتنام ، ولكن الختيار لم يستجب لاقتراحه لسبب مجهول ، مما مكن الدول العربية أو كثيرا منها أن تصنع فصائل أو" منظمات مقاومة " تابعة لها سياسيا وعسكريا ، وتأتمر بأمرها وتنفذ سياستها وتتأثر بعلاقاتها مع بعضها بتأثر العلاقات بين الدول العربية الصانعة لها سلبا وإيجابا ، فانحرف كثير منها عن أهدافه وتفرغ لسياقات أخري غير فلسطينية !

صحيح أن حماس والجهاد وبعض الفصائل قد حققت نوعا من التقارب في الميدان ، ولكن هذا لا يكفي ، ولا يؤدي إلى نتيجة ، في ظل الانشغال بالحركة السياسية  ، والسعي لإقامة حكومة ( شكلية ) ، لا قيمة لها ، يمكن الاستعاضة عنها ببعض الموظفين أو المخاتير الذين يسيرون مصالح الناس .

على الصعيد القومي ، فإن الحكومات العربية مشغولة بنفسها ، وكثير منها رفع شعار " نحن أولا !" ، والشعار يعني أن " نحن " هي المبتدأ والخبر ، أما " أنتم " فلا محل لها من الإعراب ، خاصة بعد أن امتلك العدو ، قدرة التأثير المعنوية والسياسية على مصائر الحكومات والحكام في كثير من البلاد العربية ,

صحيح أن البلاد العربية تشتري كثيرا من السلاح من الشرق والغرب وتكدسه في مخازنها ، وتدفع في مقابله مليارات الدولارات سنويا ، ولكنها ليست على استعداد لا استخدام قطعة واحدة منه ضد العدو وأفراده ؛ لسبب بسيط ، وهو أنها طلقت الحرب تماما ضد العدو الغاصب ، وأعلنت عن عقيدتها الراسخة في خيار السلام الاستراتيجي ، مهما تطاول العدو واعتدى وأغار ودمر واغتال وقصف وانتهك الأمن القومي للأشاوس والنشامى .. و كلما ازداد شراسة في سلوكه العدواني ؛ قدموا إليه المزيد من المبادرات ، أي التنازلات التي لم تُبق إلا على القليل من فلسطين ، ويبدو أن هذا القليل في طريقه إلى الضياع تماما !

أما العراب الأكبر ( أميركا والغرب )  فهو يلعب لعبة الكبير مع أطفال الشارع ، يضحك عليهم بقطعة من البونبون الرخيص ، نظير استغلالهم في قهر بعضهم ، وعادة يقوم الطفل القوي ( الصهيونية ) بقهر بقية الأطفال الضعفاء ( العرب )! وهذا يهيئ له استغلال الثروات العربية والهيمنة على الشعوب العربية ، وتغيير دين الأمة العربية ، ونقلها من البداوة الصحراوية إلى المدنية المشوهة .

وقد فرح المخلفون من الأعراب بخطاب السيد باراك أو باما – رئيس الولايات المتحدة – في جامعة القاهرة يوم 4/6/2009 م ( ذكرى هزيمتهم الساحقة عام 1967) .لقد رأوا فيه  لغة لينة مفعمة بآيات القرآن الكريم ، مع عاطفة ملتبسة كانت  في معظمها تتغزل بالعدو ، وتؤكد على أمنه واستقراره وتفوقه وسيادته على جميع من في المنطقة !

ثم جاء مبعوثه جورج ميتشل ليؤكد على يهودية الكيان الغاصب ، ورفض المقاومة ، والبدء في المفاوضات فورا .. على ماذا؟ الله أعلم .. المهم أنه أعلن أن الطرف الفلسطيني ( أي مليونيرات رام الله ) هو الذي يصنع عقبات في طريق التفاوض (؟) ، أما الطرف اليهودي الغاصب فلا يضع عقبات ولا يحزنون ، مع أنه أعلن وأكد أنه لن يوقف بناء المستعمرات ، ولن يسلم القدس ، ولن يسمح بعودة فلسطيني إلى أرضه !

المخلفون من الأعراب ومليونيرات رام الله ، ينتظرون أن يقوم السيد أوباما أو مبعوثه بحل مشكلة فلسطين ، على أساس دولتين ، واحدة خاضعة للأخرى ( الفلسطينية خاضعة لليهودية الغاصبة ) ، ولكن الغزاة النازيين اليهود يرفضون هذا الحل ، ويرون أن الوطن الفلسطيني موجود في شرق الأردن ، ويتحدثون عن عدم تنازلهم عما يسمى " أرض إسرائيل " ، وهكذا يردد المخلفون من الأعراب مقولة مطرب قديم يقول " هاتوا لي من الحبيب كلمة !" ، ولا يوجد في الواقع من لديه استعداد لينهض بحمل هذه الرسالة ، مالم يقم صاحبها بواجبه !

وهكذا أضحت فلسطين جارية نحيلة ممزقة الأسمال في سوق النخاسة ؛ بتداولها تجار الرق ، ويعرضونها بثمن بخس في وقت يتضور فيه أهلها جوعا وعذابا وقهرا وحصارا ، بينما بعض أبنائها يتعاركون ويتفاصلون حول منافع صغيرة ، أما الأقارب فهم في وديان أخرى يهيمون ومشغولون بقضايا أخطر وأهم من عينة كأس العالم في كرة القدم والدوري السنوي في أندية العواصم العربية ، والأفلام العربية التي ينتجها تجار الكرشة والخردة ووكالة البلح وبقايا الشيوعيين ، وتدريس الرقص الشرقي في الجامعات الرسمية !

ولا عزاء للمخلفين من الأعراب !