توافق وطني .. وفرصة للاتفاق
أ.د. حلمي محمد القاعود
[email protected]
لعلها أول مرة ، منذ حرب العبور في رمضان 1393هـ = أكتوبر 1973م ، تتوحد مشاعر
الأمة تجاه حدث واحد ، وتقف أمامه بالخشوع والإجلال . في العبور كان الفرح والأمل
باعثاً على التوحّد خلف الطلائع المقاتلة في سيناء ، تبارك مسعاها ، وتهتف لها ،
وتدعو بالنصر والسداد ، يومها نسى الفرقاء السياسيون والاجتماعيون خلافاتهم
ومشكلاتهم ، وتمنوا شيئاً واحداً ، وهو كسر العدوّ ، واستعادة الكرامة .. لدرجة أن
أقسام الشرطة وصفحات الحوادث خلت طوال أيام القتال من جريمة واحدة ، فقد طلّق
اللصوص عمليات النشل والاختلاس والسطو .
وها
هي المرة الثانية التي تتوحد فيها الجماعة الوطنية على اختلاف المشارب والتوجهات
حول وفاة الطفل " محمد علاء مبارك " ، بمشاعر صادقة لا أثر فيها للافتعال أو
التزييف ، فقد أصيبت أسرة الرئيس بعارض هزّ كيانها ، وأدمى فؤادها ، في وقت كانت
تنتظر فيه تحوّل الطفل البريء إلى شاب قوى يملأ حياتها ويغنى مشاعرها ، ويواصل
امتدادها ، ولكن سبق قدر الله ، فاختار الفتى الصغير لحكمة يعلمها سبحانه ؛ كي يصعد
إلى العالم الآخر ، وينضم إلى قافلة الأبرار الطيبين الذين لم تلوثهم الحياة
بمشكلاتها وخصوماتها وثاراتها .
توافقت الجماعة الوطنية بدءًا من الحزب الحاكم حتى المعارضة حتى الحركة الإسلامية
حتى الأقليات غير المسلمة ، على التوحد تجاه الحدث ، ونسيت صراعاتها ، وخشعت أمام
الموت الذي يخر له الجبابرة ، التزاماً بطبيعة الشعب الطيب الوفي الذي يقرّبه الموت
من بعضه ، ويجمع أشلاءه المبعثرة في هيكل واحد ، يسبّح لله الواحد ، خالق الدنيا
والآخرة ، صاحب الملكوت الأوحد لا شريك له .
صحيح أن النشاز الوحيد ، كان صوت الخائن النصراني الذي يقبع في وكره بواشنطن ،
وتصوّر أن وفاة الطفل انتقام إلهي من جدّه المسلم الوهابي (؟) ، وأعلن بكل فظاظة
عن شماتة رخيصة وحقيرة ، لا يقارفها إلا خسيس الطبع فاسد الفطرة ، ولكن هذا النشاز
استنكره المصريون جميعاً ، ورأوا فيه عاراً على صاحبه ، ومن يستخدمونه ضد الوطن
والأمة والإسلام !
لا
شماتة في الموت !
هكذا علّمنا الإسلام ، وعلمتنا الفطرة ، وعلّمتنا القرية المصرية البسيطة المتواضعة
.. كنت أجلس على رصيف البيت الذي حولناه إلى مصطبة بعد صلاة العشاء ، وكان يجلس
بجواري الحاج بيومي ، وهو فلاح تجاوز الثمانين .. كلانا هدته الأمراض والآلام ..
الفارق بيني وبينه عشرون عاما تقريباً ، كان من عساكر الجيش المصري أيام الملك
فاروق .. وكان متأثراً لوفاة الطفل محمد علاء ، وأبدى ألمه لما أصاب أسرته . في
الوقت ذاته كانت حفيدات الحاج بيومي (شيماء ، أسماء ، منة الله ) يقبلن عليه -
كبراهن في السادسة أو السابعة - كل واحدة تطلب منه " ربع جنيه " لتشتري كيساً من
البطاطس المقلية ، وتفتش فيه عن " البخت " أو " الحظ " .. ! كان الرجل سعيداً بهنّ
، ولكنه يقول بنبرة آسفة تخفى أسى عميقاً : خمس بنات أنجبهن رضا (ابنه الأكبر ) !
فأقول له : سيأتين بخمس أولاد – أزواجهن – فيتضاعف عدد أولاده ! ويبتسم الرجل الذي
غضنته الأحداث والسنون ، ويألم من أجل الطفل " محمد علاء " ، وكأنه يقول : إني أريد
حفيداً ذكراً ، بينما صورة الفتى الراحل ترتسم في ذهنه ، وفى مخيلتي .. كان يرتدى
طاقية ويجلس على حجر جدّه الذي يقود سيارة بنفسه وينسى المراسم والبروتوكولات ، أو
تحمله جدته وهو يبتسم بفرح طفولى لا تشوبه عكارة الحياة ، أو تحوطه الأسرة بفيض
حنانها الدافق بحكم كونه الحفيد الأول ..
صورة الطفل لا تفارقني ، ولا أظنها فارقت أذهان الناس ، فهو - بعيداً عن أهله
وأسرته – رمز للبراءة في أصفى منابعها ، ومن منا لا تهزه صورة البراءة ؟
لقد
أدرك الناس قسوة المحنة التي تعيشها الأسرة المكلومة ، فتوحّدت عواطفهم نحوها ،
بعيداً عن الخلافات والإحن والشوائب التي تصنعها السياسة وأحوال المعيشة وضرورات
الحياة ،وكانت فرصة ذهبية أن يكشف الشعب عن معدنه الأصيل في التعاطف والمشاركة
والدعاء ..
وأعتقد أنها أيضا ، فرصة ذهبية للتوافق الوطني أو الاتفاق على القضايا الأساسية
التي تهم الوطن بأسره ، فقد عشنا خمسين عاماً أو يزيد ، تحت حراب الصراعات السياسية
والفكرية ، وخسر من خسر ، مظلوماً أو مقهوراً أو مخطئاً ، وكسب من كسب ، ظالماً أو
قاهراً أو مصيباً ، لدرجة أننا الشعب الوحيد في العالم الذي يعيش تحت سطوة الطوارئ
منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم ، باستثناء فترات قصيرة لا تذكر ، في حين أن
دولاً وكيانات سياسية شهدت حوادث مرعبة وحروباً شبه مستمرة ، ولم تعلن فيها الطوارئ
أبداً ، أو أعلنت لفترات قصيرة لا تذكر . لقد عرفت أمريكا تفجيرات نيويورك وواشنطن
، ومثلها إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا ، والهند وباكستان ، ولكنها لم تعرف
الطوارئ البغيضة ، أما الكيان النازي اليهودي فهو يدخل حرباً واسعة كل عشر سنوات
على الأكثر ، ومع ذلك لا يعلن الطوارئ إلا في أيام القتال .. بيد أننا نعيش حالة
شدّ دائم ، ومحاكمات عسكرية ، ومحاكم أمن دولة ، وخصومات سياسية تنتهي بالترويع أو
المهانة أو الاغتيال !
آن
لهذا الشعب الطيب أن يجلس حكماؤه من شتى الأطياف ليتفقوا على المسائل الرئيسية ،
والأهداف العليا .. وتحديد العدوّ الأول الذي يجب أن تواجهه الأمة .
آن
لهذا الشعب الطيب أن ينعم بالعدل والحرية والأمل وفقا لعقد اجتماعي جديد يتوافق
عليه الحكماء . والناس على استعداد أن يقتسموا الرغيف الواحد – لو لم يوجد سواه –
لو كان هناك عدل حقيقي ، وإحساس حقيقي بالحرية التي تعنى المشاركة والكرامة
والمساواة ، وشعور حقيقي بشروق الأمل على المستوى الفردي وصعيد الجماعة الوطنية
.. إنها فرصة أيضا لنفى للطفل الراحل بحق البراءة والتصافي والنقاء .
إن
الإقصاء والاستئصال والتمييز ، عناصر تدمير للمجتمع مهما كانت قوة السلطة باطشة ،
وذراعها قوية ، وسيطرتها محكمة . لا الدين ولا الأخلاق ولا الحضارة ، تقرّ إقصاء
طائفة من الناس أو استئصال جماعة منهم ، أو التمييز بينهم على أسس طبقية ، أو
محسوبية حزبية ، أو اقتراب من دست الحكم ..
شعبنا الصابر الطيب الذي ضحى كثيرا يحتاج اليوم إلى الخروج من نفق الدولة المترهلة
الرخوة إلى أفق الدولة الأم القوية في المنطقة التي تقود إصلاح العالم العربي
والإسلامي ، وتبنى قوته العسكرية والديمقراطية والاقتصادية وتواجه الأعداء على قلب
رجل واحد ، ومن خلال توزيع الأدوار مما يؤدى إلى وعى بالحياة الحقيقية ، وعمل دائب
للمشاركة في الحضارة الإنسانية وتقديم عطاء الإسلام الغنى الزاهر للعالم بأسره .
رحم
الله الطفل البريء ، ونفع به والديه ، وآله ، وألحقنا به على خير، وإنا لله وإنا
إليه راجعون .
حاشية :
1 –
يأبى المنافقون إلا تشويه كل لحظة نبيلة في حياة الشعب المصري ، وقد استغلوا مناسبة
وفاة الطفل محمد علاء مبارك ليثبتوا أنهم – بحق – نائحات مستأجرات ، وليسوا ثكالى !
2 –
خضع الخونة من نصارى المهجر لأوامر الكنيسة وأعلنوا أنه سيوقفون تظاهراتهم ضد
الدولة في أوربة بمناسبة وفاة محمد علاء مبارك . رأس التمرد الطائفي يعرف جيدا كيف
يحكم طائفته !
3 -
قال القضاء كلمته في مقتل من تدعى مطربة . آن الأوان لإيقاع الطلاق بين السلطة
والثروة ، واستدعاء نماذج الزمن القديم : الغنى بعد الجهد والعرق والدموع ، وليس
بعد الاقتراض والاحتكار والليالي الملاح !