بين ( الواقعيـة ) و ( الوقـوعية )

بين ( الواقعيـة ) و ( الوقـوعية ) ...!!!

د.فواز القاسم

لقد أظهرت الجولة الأخيرة من ملحمة صراع الوجود بين الأمة العربية وأعدائها الأمريكان والصهاينة ، تبايناً واضحاً في الصف العربي بين معسكرين : معسكر الشارع العربي والجماهير العربية : الذي يوصف أداؤه على وجه العموم بالإيجابية ، وإن كان لم يرتق بعد ، بوسائله التعبيرية ، إلى مستوى أهمية الأحداث وخطورتها ، إلا أن درجة وعي الجماهير العربية ، ومحاولتها التعبير عن هذا الوعي بالوسائل المتاحة حالياً مهما كانت بسيطة ، وتشخيصها الصحيح للأعداء الحقيقيين ، واستعدادها المتنامي للتضحية من أجل قضاياها المصيرية ، تعتبر من الأمور الإيجابية والواعدة في هذه المرحلة ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار الجهود الهائلة التي بذلتها الدوائر المعادية عبر العقود الماضية ، لتغييب تلك الجماهير عما يحاك لها وراء الكواليس المظلمة ، والمحاولات المستميتة لسحق إرادتها ، وقتل طموحها .!!!

ولعل ما يصدر عن جماهير أمتنا في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها ، من فعل جهادي مقتدر ، وقدرة على التضحية من أجل المبادئ والمقدسات ، والتعبئة المستمرة للطاقات ، والصبر والمطاولة أمام العقبات ، لمما يثلج صدور المحبين ، ويرفع رؤوس المؤمنين ، ويبيض وجوه المجاهدين ، ويبشر بموعود الله لهذه الأمة بالنصر والتمكين (( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم .

والمعسكر الآخر : هو الموقف الرسمي العربي الذي يتسم بالضعف والسلبية والمهانة …!!!

ولقد كان الخطب يهون قليلاً ، لو أن الضعفاء والجبناء في بعض المواقع الهامة ، كانوا قد أعلنوا لجماهير الأمة بكل صراحة عن ضعفهم وجبنهم وتخاذلهم ، وتنحّوا عن الحكم ،  اعترافاً منهم بعدم أهليّتهم لقيادة هذه المرحلة الخطيرة ، كما يفعل كل من لديه ذرة من احترام الذات .!!!

لو فعلوا ذلك لما عدموا في الأمة من يشفق عليهم ، ويتعاطف معهم …

أما أن يخرجوا علينا بين الحين والآخر ، وخاصة إثر مهازلهم التي يسمونها ( القمم العربية ) ، بمحاضرات باردة ، وتصريحات ذليلة ، ( ليفلسفوا ) ضعفهم ، و ( يسوّغوا ) عجزهم ، و( يقنّنوا ) انهزامهم ، تحت حجج : ( الموضوعية ) و ( العقلانية ) و ( الحرص ) على أرواح المواطنين  و ( إعطاء الأولوية لبرامج التنمية ) و ( التمسك بخيار السلام الستراتيجي ) و ( عدم الرغبة في اتخاذ القرارات المصيرية تحت ضغط الغوغاء والعامّة في الشارع ) …إلخ إلخ !!!

أما هذه التفاهات فيجب أن تنتهي في الأمة إلى الأبد ، لأن البشرية – وعلى رأسها أمتنا – قد بلغت اليوم كامل رشدها ، وأعلى درجات وعيها ، وصارت تعرف بشكل جيد أصدقاءها و أعداءها ، وتميّز تماماً الذي ينفعها من الذي يضرّها ، وصار لديها الوعي الكافي للتمييز بين الصادقين والمهرّجين ،  ولذلك فلم تعد تنطلي عليها مثل تلك الأساليب البهلوانية ، التي تستخف بوعي الجماهير وتفكيرها ، وتحتقر رغبتها وإرادتها ، وتزدري أبسط قيمها ومبادئها .!!!

إن الضعف بحد ذاته ليس حالة معيبة في الأمة ، إذا توفّرت لديها إرادة العمل على إزالته وتصحيحه …

أما أن تتحول لحظات الضعف العابرة إلى حالة دائمة من اليأس والقنوط والاستسلام ، أو يتحول العناوين والحكام في الأمة ، الذين يفترض أن يكونوا قدوة لجماهيرهم في الفعل المقتدر ، والتضحية من أجل المبادئ  إلى مجرّد عرّابين ومسوّقين ومفلسفين للضعف والهزيمة ، فهذا ما نرفضه و أصحابه مهما كانت شاراتهم وعناوينهم ونياشينهم ...!!

ولقد كان الأجدر بهم أن يصارحوا أمتهم ، ويعترفوا لها بالأسباب الحقيقية لهذا الضعف ، ويقولوا لها : لقد كبّلنا الأعداء بالعشرات من القيود المهينة ليخرجونا من ساحة الصراع المشرّف معهم …!!!

فهناك القيد السياسي :  الذي أسموه زوراً وبهتاناً ( معاهدات سلام ) ، وما هو في الحقيقة إلا استسلام مشين لإرادة العدو ، وصك مهين يحرم الأمة حتى من حق الدفاع المشروع عن النفس ، الذي كفلته لها كل قوانين الأرض ودساتير السماء .!!

وكذلك القيد الاقتصادي : الذي يسمى زوراً ( مساعدات ومعونات ) ، وما هو في الحقيقة إلا رشوة حقيرة ، مغمّسة بدماء الأهل والأحباب والأبناء .!!

وهناك القيد العسكري : وهو قيد احتكار السلاح ، الذي يحرّم على العرب حق تصنيع السلاح وتطويره ، بل يحرّم عليهم حتى مجرد تعدّد مصادر تسليحهم ، ويفرض عليهم نمطاً ذليلاً من التسلّح وفق إملاءات الشركات الأمريكية المتصهينة واشتراطاتها المهينة ، التي من أهم بنودها : تحريم استخدامه ضد الكيان الصهيوني الغاصب حتى لو داس في قلوبنا وفتت أكبادنا ...!!!

بدلاً من مصارحة الجماهير العربية الغاضبة بهذه المآسي المؤلمة ، مثلما يحدث في جميع بلدان العالم التي تحترم عقول مواطنيها ، وبدلاً من إشراك تلك الجماهير الحيّة في البحث عن مخرج مشرّف يعيد للأمة كرامتها ، ويحفظ حقوقها ، يتمّ التمادي في الإساءة إلى الأمة ، وبطريقة تضع الكثيرين من أصحاب القرار في مستوى الحراس ( الأمناء ) على المصالح الأمريكية والصهيونية …!!!

نعم ، إن جماهير الأمة الحية والواعية ، والتي يموت فيها كلّ يوم عرقٌ جديد من مستوى ما أوصلها إليه  بعض أصحاب العناوين ، من ذلّ وغثائيّة ، لترفض منطق ( الوقوعيّة ) المهين ، الذي يفلسف العجز ، ويسوّغ الضعف ، ويقنن الانهزام ، باسم ( الواقعيّة ) و ( العقلانية ) و ( الموضوعيّة ) …!!!

وتطالب بعمل عروبيّ إسلامي مقتدر ، يقطع اليد الغادرة التي تمتد بسوء إلى مقدّرات هذه الأمة ، ويسحق الرؤوس التي تتآمر عليها وعلى أبنائها …

بسم الله الرحمن الرحيم (( إنما يستجيب الذين يسمعون ، والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون  )) صدق الله العظيم …