الأوبامية وثبات الوهم الإمبراطوري

د. علاء الدين شماع

الأوبامية وثبات الوهم الإمبراطوري

الرئيس الأمريكي باراك أوباما

د. علاء الدين شماع

[email protected]

بعد مضي مائة يوم ويزيد على تسلم إدارة أوباما الحكم , يبدو أن الثابت الوحيد أمامها هو النزوع إلى الوهم , حيث أنه أقل التكاليف أمام عظم الأزمة و كثافة الحلول من اقتراحات و توصيات و محاولات لتصويب الاقتصاد و السياسة . فالحلم الأميركي المبني على الفردانية في السيطرة و الاستفادة ,لن يعيقه التغيير(الوعد) الذي كان مفردة خطابية لا أكثر في حملة أوباما الانتخابية, و الذي في طرحه حينها , قارب الجانب المثالي للأمة الأميركية فيما تأمله و تصبو إليه , في إعادة وصل ما أنقطع من أساسيات ماضيها التحرري ضد العبودية و التمييز العنصري .

إلا أن السعي الأميركي نحو القوة و الجشع الرأسمالي لا يزال عبئاً من أعباء " الرجل الأبيض" و بالتالي فان الاستثناء الذي يمثله قدوم رئيس أسمر البشرة إلى سدة الحكم في البيت الأبيض يبدو ضمن نسقية لنظام أميركي يغير الوجوه و لا يتغير ! و في ذلك تكريس مطرد للتراتبية  الهرمية لنظام المصالح الرأسمالي الذي يدير العلاقات السياسية ضمن توازنات محسوبة في الشأن الداخلي و الخارجي الأميركي على حد سواء, حتى ليبدو أن أي تغيير يدخل ضمن ثابت الوهم الأمبرطوري ,الواسم الأبدي للسياسة الأميركية , و هو ما يظهر على أجلى صوره من خلال نظام العلاقات السياسية الدولية الحالي , الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأميركية الدولة الأقوى و ذات النفوذ الحاسم في صوغ تلك العلاقات و من خلال الهيمنة العسكرية المباشرة .

إن الأوهام الإمبراطورية و على الرغم من الصعوبات التي تفرضها الأزمة المالية الحالية في وجه الرئيس أوباما , و هي أوهام تأتي ضمن حالة غير خاضعة لسنن التغيير على الأقل في أذهان أصحابها ,دفعته إلى التأكيد على العمل في استمرار التفوق العسكري الأميركي و هو ما تمثل في الإبقاء على وزير الدفاع السابق الجمهوري من إدارة بوش و ميزانية عسكرية تقدر ب580 مليار دولار لعام 2009 . . وهو بالضبط ما يلخصه المؤرخ الأميركي تشالز ماير في أن" النظام الأميركي ذو تسلسل هرمي تتم المحافظة عليه من منطق القوة العسكرية و الاقتصادية و هو موضوع في خدمة نظام أوسع من الديمقراطية و الرأسمالية"! .

ظاهرة أوباما.. استثمار سياسي

إن هذا الاستثناء من سنن التغيير للنظام الأميركي الحديث على اختلاف الوجوه و الإدارات , ينعكس داخلياً على شاكلة أمر لا يعدو أن يكون أكثر من استثمار سياسي يقوم على النفعية البحتة في استغلال ظاهرة وصول أوباما إلى سدة الرئاسة الأميركية , وهو ما ينزع عنها صفة "التاريخية" و بالتالي الانبهار من النظام الديمقراطي الأميركي الذي يستبطن(في مداورة ما خداع الناخب الأميركي أولاً) معنى حقيقة التحكم و السيطرة من قبل مراكز القرار الأميركية المخابراتية و العسكرية و لوبيات المال والأعمال اليهودية .فبعد ثمان سنوات من السياسات الكارثية للرئيس السابق , كان لا بد من الاستثمار السياسي في شخص الرئيس الجديد حفاظاً على مصالح تلك الأطراف !. وهو ما يطرح التساؤل التالي : هل حقاً أن الرئيس الأميركي أوباما أتى على أساس من تفويض شعبي ؟

و لعل استطلاعاً للرأي رافق الانتخابات الأميركية الأخيرة يبين الصورة بوضوح , حيث قال أكثر من 80% من الأميركيين المستطلع رأيهم  بحقيقة عجز كلا الحزبين الديمقراطي و الجمهوري في إدارة أمور البلاد التي أخذت تسير على المسار الخاطئ , ذلك أن الحكومة"تديرها مجموعة صغيرة من المصالح الكبيرة التي تعتني بنفسها و حسب و لا تبالي بالشعب" . استطلاع أعتمد عليه نعوم تشومسكي في الإشارة " إلى أن الحزب الذي يتحدث باسم الشعب لن يدوم في وسط مجمع يديره قطاع الأعمال إلى هذا الحد الكبير" . بمعنى أن تهميش الشعب لا زال وسيبقى مستمراً , و هذا ما تتطلبه بالضبط نظرية "الاستثمار السياسي" التي يلخصها عالم الاقتصاد توماس فرجينسون  في " أن السياسات تعكس عادة رغبات الكتل القوية التي تستثمر جهودها الكاملة كل أربع سنوات للسيطرة على الدولة"!.

معنى الأزمة

في تخريجة غرائبية رافقت مرحلة ما بعد الحداثة من هدم و إعادة بناء للأنساق الفكرية , ظهرت النيوليبرالية نسقاً محايثاً للرأسمالية الغربية, لكنها هذه المرة على أساس من رأسمالية المال الموازي( نوع من الاستثمار الافتراضي في دنيا الأسهم و السندات) للمال المنتج الذي كرس النهضة الصناعية الغربية أول ظهورها, و كان ذلك على أساس من حراك اجتماعي فاعل و اقتصادي ملهم ,و التي كانت الديمقراطية أحدى تجلياتها,  في الحفاظ على المكاسب الاقتصادية و التعبير عن فكر الطبقة الغنية .

غير أن النظام الأميركي الحديث في أزماته المالية المتكررة والتي كشفت الأزمة الحالية عمق الخلل في أدائه الرأسمالي أفصحت عن أخطاء ليس من الوارد معها أن تصحح الأسواق نفسها دون تدخل الدولة و رقابتها . 

 حتى بات أي تغيير مأمول وفق تقييمنا السابق للديمقراطيات الغربية و التي تقف على رأسها الديمقراطية الأميركية ,  يفترض تغييراً في بنية ووظيفة نسق القوة و النفوذ في المجتمع الأميركي و دور و طبيعة المال و بالتالي النظام الرأسمالي في صوغ العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية الجديدة والعادلة , وهذا يكاد أن يكون من المستبعد, بما أن الديمقراطية الغربية  في جوهرها  وتطورها تلخص تاريخية المصالح للطبقات الغنية.

ويكفي أن نشير إلى الحمائية الشوهاء في الإنقاذ العشوائي بضخ مزيد من الأموال لإنقاذ  المصارف و أسواق المال على حساب دافع الضرائب الأميركي وهي سياسة استمر بها أوباما بعد سلفه , مما يطرح حقيقة التغيير الذي وعد به ناخبيه على المحك .

إن الحمائية تتطلب الاستثمار في أصول ملموسة و تسريع العمل في المشاريع الوطنية الإنتاجية و تدخل الدولة في الرقابة على المصارف و ليس الإفقار الممنهج للمواطن

الحل العسكري بمحل الاقتصادي

إن القفز فوق حقائق التاريخ من أن الدول الكبرى أو الإمبراطوريات يبدأ انهيارها بانهيار قوتها الاقتصادية  , يدلل على ضيق الخيارات المطروحة أمام الإدارة الحالية إزاء صعوبة الأزمة المالية التي تواجهها . و هي تنزغ نزغ الشيطان في وهمها الإمبراطوري.      

إن اعتماد الخيار العسكري خدمة لمصالح أميركا في العالم و استثمار هذا العامل في تحقيق مكاسب سياسية و اقتصادية مباشرة سيظل خياراً مفتوحاً أمام الإدارة الأميركية الجديدة ,و لكن و فق عناوين ملطفة تغادر الخطاب البوشي " من ليس معنا فهو ضدنا" إلى خطاب " من ليس معنا فهو ضد نفسه" في تكريس ابدي لمحورية الدور الأميركي بالنسبة للآخر , وهو ما يفرض بالتالي استعمال أشكال من القوة المرنة مقابل تلك العارية أو الصلبة التي استعملها بوش لتطويع هذا الآخر في استمرار تغليب العامل العسكري رديفاً لتثبيت التفوق الاقتصادي و السياسي عليه.

ذلك أنه و أمام إفلاس أميركا المادي و الأخلاقي , يفترض التغيير المأمول رؤية جديدة وواضحة للعالم تقوم على توازن المصالح و إعطاء الأولوية للتعاون الدولي في حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية , وليس العمل على احتواء الحلفاء من خلال التوتير و دفع الصراع إلى حافة الهاوية هدف الابتزاز و تحقيق اصطفافهم وراء سياساتها من خلال فتح سباق تسلح جديد يستنزف طاقات و قدرات الدول و يعيق نموها الاقتصادي و بالتالي التسليم لها بالقيادة و التخطيط و تحديد المواقف و الخيارات.

و على ما يبدو فان تآكل المصالح الأميركية لن يُشار إليه على أنه تقهقر في الأداء الاستراتيجي , وقول الباحث بول كينيدي من "أن بلاده كانت ضحية لتوسعها الامبريالي و للوزن المفرط للقطاع العسكري" لن يشكل علامة فارقة تتطلبها مرحلة المراوحة و إعادة الحسابات مع الإدارة الجديدة , إنما كل الذي يتطلبه الأمر مزيداً من الحروب , ولكن هذه المرة وفق صيغ لا تفترض تورطاً مباشراً يكلف غالياً , و هو ما يُؤشر إلى ضرورة قيا م أشكال أُخرى من الحروب تُدار بالوكالة.

أوباما ووهم سلام الشرق الأوسط

أمام هذا الرصد في الابتناء المادي على تفاؤل الوهم الإمبراطوري الملاصق للحالة الأوبامية, تطرح الصهيونية نفسها رابطاً عضوياً لناتج الاهتراء و التفسخ الامبريالي الأميركي , في محاولة منها لتجديد دورها الوظيفي و المكلف أصلاً , زمن الإفلاس الضارب أطنابه في ثنايا المشروع الإمبراطوري الواهن .

و الصورة كذلك , تعاود  الصهيونية تمظهرها كياناً وكيلاً في أعمال القتل و التدمير عن القوى الامبريالية,و هي لا تجدد دورها الوظيفي و الحاجة إليه في منطقتنا العربية و حسب , و إنما في اندياح دورها التخريبي حلقات تصل حتى باكستان وأفغانستان و جورجيا وإيران . و لقد بدا هذا واضحاً في الرسالة المبكرة من حرب غزة و السعي لتطويق إدارة أوباما في أيامها الأولى هدف اختطاف القرار الأميركي المرهون أساساً لدى لوبيات الضغط اليهودي.

إن سقوط الأوبامية في امتحانها التغييري بالنسبة لقضايانا لا يحتاج مزيد وقت لنحدد موقفنا فيما سيفعله الرئيس الأميركي في المائة يوم القادمة ,أو حتى نهاية ولايته بعد أربع سنوات وسعيه للتجديد أربع أخرى , أمام موقف إدارته من مؤتمر التمييز العنصري دوروبان 2و قضية الاستيطان و تهويد القدس و تجديد العقوبات على سوريا و استثنائها من جولات مبعوث السلام للشرق الأوسط جورج ميتشل رغم الحاجة الماسة إليها أميركياً ,و هو ما يضع قضية السلام في الشرق الأوسط على المحك و يسقط التفاؤل بمفاوضات لسلام عادل يمكن أن تقوم به هذه الإدارة أو أية إدارة أميركية أُخرى كوسيط  نزيه , وفق ما سبق و عرضناه من منظور الأزمة و الدور المنوط بالرئيس الأميركي. حتى ليكاد حبس الأنفاس من لقاء أوباما – نتنياهو المرتقب هذا الشهر و الذي يعول عليه العرب الكثير في خصوص حل الدولتين و الضغط الذي يمكن أن يمارسه أوباما بهذا الخصوص في غير محله ,إذ لن يكون الأمر أكثر من تلاعب  لفظي و تفاؤل ممسرح للتسويق الإعلامي قد لا يرى المتفائلون منه غير مزيد من الحروب تشنها الدولة العبرية, حفاظاً على المصالح المشتركة بين تحالف السوء.