بطل الجلاء إبراهيم هنانو

بطل الجلاء إبراهيم هنانو

  هنانو: لا أعتراف بالدولة المنتدبة فرنسا  ولا تعاون معها .

 فلتبق ذكرى هنانو وإخوانه خالدة في وجدان الأحرار 

   بقلم :محمد علي شاهين 

إبراهيم بن سليمان آغا هنانو

وتمر ذكرى الجلاء حزينة، وشلاّل الدم يتفجّر على أرض الرافدين، والأقصى أسير، والأمّة التي ناضلت من أجل الحريّة واستشهد أبناؤها مكبّلة بالأغلال .

       لكن سيرة الرجال الذين حملوا الراية، وأبلوا البلاء الحسن في معارك الشرف، وضمّخوا ثرى الوطن بالدماء، وفدوه بالمهج والأرواح لاتزال تمدّنا بالعزيمة والقوّة، وتنير دروبنا المظلمة، كلّما اشتدّ البأس وادلهمّت الخطوب، وفي مقدمة هؤلاء بطل الجلاء إبراهيم هنانو الذي عرفته ساحات النضال السوري قائداً وزعيماً .

الزعيم الوطني إبراهيم هنانو 

       إنّه إبراهيم بن سليمان آغا هنانو الملقب بالمتوكّل على الله، أحد أعلام الجهاد والوطنيّة في سوريّة، عضو المجلس العمومي في حلب، وعضو المؤتمر السوري بدمشق، ولد في كفر حارم غربي حلب عام 1869 لأسرة حلبيّة كرديّة الأصل، ودرس في المكتب الملكي الشاهاني في إستانبول، وتقلد وظائف إداريّة مختلفة في العهد العثماني، ومنها قائم مقام في أقضية مختلفة، إلا أنه رفض المناصب الحكوميّة أبّان العهد الفرنسي .

       رفع لواء الثورة على المستعمرين الفرنسيين في جبل الزاوية، وانضم إليه المناضلون من أهل بلدته كفر تخاريم، والتحق بثورته أبطال حارم، وجسر الشغور، ومعرّة النعمان، وجبل صهيون (منطقة الحقّة)

       وكان أول عمل قام به إبراهيم هنانو  إتلافه لأثاث بيته، ثم توجّهه إلى قرية (الست عاتكة) فأحرق مطحنته، وما يخصّه من الأمتعة وأدوات المزرعة .

       وقال هنانو في ندائه الذي وجّهه إلى مواطنيه: يا أبناء وطني الأحرار ها إنني تجرّدت مما أملك من متاع ثمين حيث أتلف من قبلي، وهأنذا أتقلّد السلاح للذود عن حياض الوطن الغالي والاستقلال الثمين الذي نحن له الفدى .

وقال: يا أبطال الوغى، ويا حماة الديار، هبّوا من رقادكم، تعالوا، فها هو صوت الحق يناديكم والضمير يدعوكم إلى الجهاد .

       وكان شعاره الذي يردده دائماً: لا أعتراف بالدولة المنتدبة فرنسا  ولا تعاون معها .

       أخذ يوزّع الأسلحة على المجاهدين الذين انضمّوا إلى ثورته، واعتصم في جبل الزاوية، وكان موفقاً في معاركه مع الفرنسيين منصوراً، هزم الحملات الفرنسيّة التي هرعت من حلب للقضاء على ثورته، وأوقع فيها خسائر فادحة، وسيطرت قوّاته على جبل حفسرجة، ومستنقعات الغاب، وسهل الروج .

       ولم توقف ثورته مظالم الفرنسيين واستبدادهم، كإعدامهم المصلّين في جامع (قرية كللة) وإحراق بيادر (قرية زردنا) ونهبهم القرى، بل زادته تصميماً على مواصلة الثورة، وقد تمكن من إلقاء القبض على منفذي جريمة قرية كللة، وحكم عليهم بالاعدام عند مدخل الجامع .

وتعاونت ثورة ابراهيم هنانو  بجبل الزاوية مع ثوّار اللاذقيّة وأحرارها، وتلقّت دعماً عسكرياً تركياً، واشترك ضباط أتراك في تدريب قوّاته، وشارك إلى جانب الثوار عدد من الجنود المدرّبين الأتراك، وقاموا بعمليات مشتركة ضد المستعمرين الذين أرادوا جعل كيليكيا وطناً قومياً للأرمن (أرمينيا الصغرى) وكان المجاهدون يرفعون الأعلام التركية أحياناً، لأن الحنين للخلافة العثمانيّة لم يزل يلامس شغاف القلوب .

وقام الثائرون بالانقضاض على القوافل العسكرية المحمّلة بالمؤن والذخائر الحربيّة، والفتك بعربات الجنود الفرنسيّين، وتكبيدهم خسائر فادحة.

ومن أبرز قادة هنانو: الشيخ يوسف السعدون ، ونجيب عويد، ومصطفى الحاج حسين، ومحمود حسن الشحادة، ونوري الحجي  .

وقام الزعيم هنانو بتطهير المنطقة المحرّرة من العدو، وتشكيل حكومة وطنيّة في المناطق المحرّرة وتنظّيم إدارتها، وبريدها، وجبى الأموال من الأغنياء وأصحاب الأراضي لتدعيم الثورة، وقضى على أعمال النهب والسلب .

وذكر المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك  أن الزعيم السوفييتي (لينين)  كتب أربع رسائل بخطه سنة 1919 إلى هنانو يدعوه فيها إلى التعاون مع حركات التحرر الوطنيّة في المنطقة والاعتماد على مساعدة الاتحاد السوفييتي  في صراع العرب العادل ضد الاستعمار .

وعندما تخلّت فرنسا  عن كيليكيا للأتراك قطع مصطفى كمال  عن إبراهيم هنانو  الدعم العسكري، وسقطت المنطقة الشرقية في أيدي الفرنسيين بعد (معركة ميسلون) اضطر هنانو إلى وقف العمليات، واللجوء إلى حمى الأمير عبد الله بن الحسين  في عمّان، عن طريق صحراء حمص .

وتوجه البطل إبراهيم هنانو  إلى الأردن حيث وصل عمّان يوم 29/7/1921 وحلّ ضيفاً على الأمير عبد الله، ثم عزم على السفر إلى مصر ، عن طريق فلسطين ، فقبض عليه الإنجليز في القدس، وسلّموه إلى سلطات الانتداب الفرنسي في دمشق .

وكان لاعتقال هنانو صدى في الشارع الأردني الوطني، وقامت مسيرات احتجاجية صاخبة، واغلقت الأسواق، وأضرب الطلاب عن الدراسة، وأبرق الأمير عبد الله عدّة رسائل احتجاج للمندوب السامي البريطاني (روبرت صموئيل ) استنكر فيها اعتقال ضيفه .

وجرت محاكمته في حلب، حيث قدّم إلى محكمة عسكرية في 15/3/1922 طلب فيها النائب العام رأسه، لكن حكم المحكمة جاء بتبرئته من التهم السبع المنسوبة إليه، وجرى إطلاق سراحه وسط فرحة شعبية غامرة .

وأمضى هنانو أيامه الأخيرة في قريته (ستي عاتكة) الواقعة بين (كفر تخاريم) و(حارم) حيث وافاه الأجل المحتوم بعد مرض عضال في 12/11/1935 .

وكان لوفاة هنانو وقع أليم تردد صداه داخل سورية  وخارجها، فقام شاعر الشام شفيق جبري يرثيه:

لمن  النعش مائجاً iiبمصابه
مشرفاً  كالهدى  يرفّ عليه


زاحفاً بالحمى وزهو iiشبابه
وطن مشرق بعزّ رقابه ؟ .

وقال الشاعر محمد سليمان الأحمد  (بدوي الجبل):

أنزّه   آلامي  عن  الدمع  iiوالأسى
وأضحك   سراً   بالطغاة  iiورحمة


فتؤنسـها مـني الطلاقة iiوالبشـر
وفي كبدي جرح وفي أضلعي جمر

ورثاه الشاعر عمر أبو ريشة فقال:

هنانو   أي  صاعقة  iiأقضّت
هنانو   أي  سيـف  iiأغمدته

على صرح من العليا مشيد ii؟
يد الأقـدار في غمد الخلود ؟

ووقف أبو ريشة على منبر جامعة دمشق بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته يرثيه ويعدّد مآثره وسجاياه:

وغفت   هذه   المـرابع  iiحتّى
فاشـرأبّت    فـلاح   هنانـو
عرفت   فيه  طارقاً  في  جبال
وفتى   المجـد   خـالداً   iiيلقم
فرنت   ترقب  الهمام  iiوللآمال





أيقظتها صيحات ليث iiهصـور
فـوق  مـهر ممـرّد iiالتضمير
الألب يمشي بالجحفل iiالمنصور
اليرموك أشلاء خصمه المدحور
خـفق  مـسعّر في iiالصـدور

ثم يختم هذه القصيدة الرائعة بقوله:

قل لمن يعشق الحياة مع الذلّ
النواعير تنفث الضجر القاتل
سئمت  عمـرها الطويل iiفما



ويخشى  مروق  عمر iiقصير
ما  بيـن دمـعها iiوالزفيـر
تندب  إلاّ خلودها في الدهور

وأنشد الأخطل الصغير في ذكرى مرور أربعين يوماً على وفاته فقال:

يا  دمـاء الشبـاب ما أنـت iiإلاّ
ادفقـي  رحـمة وأنساً iiوكونـي
لا تضنّي على الحراب وإن آذتك
قـطرة منك يا دمـاء على iiالحلم




ذائب  الطيـب  يا  دماء الشباب
جـدول  السفح  أو هزار iiالغاب
بل  عـطّري  رؤوس  iiالحراب
احـتقار   لغضبة   iiالقـرضاب

ثم يختم هذه القصيدة الرائعة بقوله:

       وتحدّث السيّد نبيه العظمة عن أبرز الرجالات الوطنيين في تاريخ سوريّة الحديث فوصفه بقوله: عربي شجاع راسخ العقيدة، عمل بكل جد وتضحية من أجل استقلال وطنه وإجلاء الأجنبي عنه، مستقيم ، موثوق ، لا يهادن ولا يتراخى ولايطيق الاعوجاج، قاد الثورة المعروفة باسمه، وتعرّض للمنافي والاعتقالات، وحكم غيابيّاً بالاعدام .

       وطوبى للشرفاء الأوفياء ولكل من ناضل واستشهد من أجل الاستقلال وتعساً للخونة والمنافقين والصامتين .

       أمّا هنانو البطل وإخوانه الأبرار فذكراهم خالدة في وجدان الأحرار وضمائر السوريين، مسطورة في صحائف المجد، مجلّلة بالفخار، متجدّدة كلّما أطل نيسان الجلاء .