الحسنة القليلة

الحَسَنة القليلة

تدفع  البلاوي الكثيرة !

مصباح الغفري

في مسرحية المحطة للأخوين رحباني، يقول أنطوان كرباج وهو يمثل دور الحرامي للشحاذ :

- أنا آخذ المال من جيوب الناس بالقوة... يعني بطولة !

فيجيبه الشحاذ :

- وأنا آخذ المال من جيوب الناس بالإقناع، يعني... سياسة !

ويستمر الحوار لينتهي إلى التأكيد على أن البطل ( الحرامي ) والشحاذ ( السياسي ) ضروريان لمصلحة الأمة !

هذا الحوار يضع الإصبع على الجرح الناغر في جسد الوطن، بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وأصبح التفريق بين السياسيين ورجال الأعمال  واللصوص مهمة شاقة ، وأشق منها ، التفريق بين الأبطال والحرامية .

كان التسوّل مهنة أفراد، فأصبح في العقود الأخيرة سياسة دول وحكومات وقيادات تاريخية .

كانت اللصوصية بدائية فجة، فتحولت إلى عمل مشروع يحميه القانون ورجال الأمن ، ويُوثق التعاقد عليها لدى الكاتب العدل !

أليست عقود حصر " تهريب " التبغ والتنباك ، وحصر الإتجار بالهاتف النقال ، سرقة موصوفة ، لكنها مُوثقة لدى الدوائر الرسميّة ؟

ماذا يعني أن يصبح أشقاء  السيدة الأولى وأقارب مولانا السلطان  في أكثر من بلدٍ بلد عربي ، من أصحاب المليارات ؟

ماذا يعني أن " ينطَّ " ابن الرئيس وابن القائد ، إلى مصاف أغنى الأغنياء ، وأن تناط بهم المسؤوليات ، تمهيداُ لتوريثهم المناصب المزمنة التي فاحت رائحتها من شدة ما نضجت وحان قطافها بعد أن انتهى عمرها الإفتراضي ؟ 

وماذا نسمي مسؤولاً أصبح من أصحاب الملايين ، بعد أن كان لا يملك ثمن العشاء ؟

كان اللص الكلاسيكي " يُشلّح " الناس أو يَتسوَّر المنازل أو يقطع الطرقات . واللص السياسي "المودرن" يُشلح الوطن والمواطنين أرزاقهم ولقمَة عيشهم ، عن طريق الكومسيون والفاكس والبريد الإلكتروني والسكرتيرة الحسناء  والرشوات والفساد والقرابة من أولي الأمر .

كان المتسوّل في الخمسينيات يستدر عطف الناس بالدعاء والرجاء:

 حَسَنة قليلة تدفع بلاوي كثيرة . نيّالَك يا فاعِلَ الخير عند الله !

لكن المتسوّل السياسي الحديث قلب الآية، فالناس هم الذين يدعون له بطول العمر ، ويرجونه أن يترك لهم ما يقتاتون به :

  مقاولة من الباطن  ، أو نسبة من العمولة ، تدفع عنك البلاء !

كان اللصوص قبل حكم العسكرتاريا والرفيق المناضل  صنفان :

* صنف  يدخل البيوت فيكسر الأبواب ويخلع أقفال الصناديق ويستولي على ما فيها، وهو ما يقع تحت بند السرقة الموصوفة ، وهي جنائية الوصف .

* وقسم " ينشل " جيوب الناس في الطرقات بخفة  ومهارة .

اللصوص السياسيون اليوم جميعهم من الصنف الثاني، ينشلون من خزانة الدولة ومن جيوب الناس ومن قيمة صفقات المواد الغذائية المستوردة، ومنهم من ينشل حريات الشعب وحقوقه الأساسية .

لصوص الأمس كانوا مُحتقرين من قبل المجتمع ، ومُطاردين من قبل الشرطة، ولصوص اليوم مُحترمون يتربعون على مقاعد المسؤولية والحكم، ورجال الشرطة في خدمتهم .

ترى، متى تعود إلى الكلمات معانيها الحقيقية، فيستطيع المواطن التفريق بين السياسة والتسوّل ،  وبين البطولة واللصوصية ؟