لازم نتحمل ياأمي ..الله بالعونا!
لازم نتحمل ياأمي ..الله بالعونا!
نوال السباعي / مدريد
لم
ُيبق الفلسطينيون لغيرهم من العرب من شرف ولابطولة ولاكرامة, ذهبوا وحدهم بكل
ماتبقى لهذه الأمة من عزة وجهاد ورباط وتضحية , وتركونا مذهولين واجمين أمام قدرتهم
على الصمود الاسطوري الذي تحاول يد الدعاية الصهيونية تشويهه بكل ما أوتيت من مكر
وخبث وتزييف.
لاأستطيع أن أحدد بالضبط ماهية مشاعري عندما سمعت خبر العملية الاستشهادية الأخيرة عند معبر "بيت حانون ", "ريم الرياشي "تركتني غير قادرة على التفكير ولاالفهم , أعترف...أنني لم أستطيع كأم وامرأة أن أفهم ماالذي حدث ؟ ولاأن أحيط بأبعاد تلك العملية الاستشهادية التي فاقت في قدرتها على الشهادة الصامتة كل قدرات أقلامنا مجتمعة في شهاداتها المكتوبة على عصر الظلم الدموي الذي نعيشه يتسرب الى وجداننا عبر الشاشات الصاخبة , وتضيع في أدمغتنا معالم تلك الوجوه التي يملأها الضياء والألم وهي تترك لنا وصاياها مسجلة في أروع وأصعب لحظات يمكن للانسان أن يعيشها قط , لحظات الوداع القاسية الرهيبة , ولكنه ليس ذلك الوداع العاطفي الأليم الملعون , انها لحظات حديث الشهداء الى الأمة بكل مافيها من هول , لحظات يستودعون فيها ضمائرنا أرضهم المقدسة وأعراضهم وأسرهم وشعبهم وقضيتهم وأبناءهم, بعد أن أعجزتهم الحيل أن يستودعونا قضية الأمة وهويتها وأمانتها!.
استعرت قوتي على كتابة موضوع اليوم مما كتبه الاستاذ طه خليفة عن عرائس الاستشهاد والنور , واستعرت بعض كلماتي من الاستاذ أنور صالح الخطيب , وبعض التعابير من الاستاذ جمال فايز ومن الاستاذ اياد سمرين , لأنهم وهم الرجال استطاعوا أن يعبروا بكلمات واضحة صريحة عن ماأشعر به اليوم وأنا أكتب عن امرأة استثنائية في زمن العقم والعجز الجماعي الذي نعانيه , "ريم الرياشي".. استطاعت أن تلغي كل المسافات في اول دفقة من دمها بين النساء والرجال في هذه الأمة , كما بين الماضي والمستقبل , وتجاوزت في عمليتها هذه معبر بيت حانون ومعبر القدس وكل معابر الاذلال والكراهية والتعجيز وقهر انسانية الفلسطيني وإرغامه على التفكير بأنه شيء لاقيمة لمعاناته , وأنه أهون عند هؤلاء القتلة المجرمين من بعض المخلوقات التي يحترمونها أكثر من احترامهم لانسانيته وهو صاحب الأرض التي اغتصبوها!.
لقد اتت عملية معبر بيت حانون هذه لترسل رسالة حمراء صعبة الى الشعب اليهودي المحاصر في قدرته على الظلم وموت الضمير الجماعي الذي يسمح له بالدوس على انسانية الآخرين الى الدرجة التي تفقد هؤلاء الآخرين القدرة على رؤية الحياة الا بالقدر الكافي لتكون مجرد معبر ..تارة الى اسرائيل وتارة الى لقمة العيش وتارة الى الحرية وتارات كثيرة الى الخلاص ولو من خلال الموت الذي يكرهونه والذي نعتقد لحسن حظنا أنه الحياة!.
لقد جاءت عملية معبر بيت حانون هذه لتكون عملية اختراق اعلامي رنان لقضية الجدار العنصري "سور اسرائيل الحقير" , الحقير في أهدافه , الحقير في بنائه , الحقير في نظر التاريخ والجغرافيا والانسانية , هذا السور العازل الذي يبشر الفلسطينيين المحصورين بمزيد من العذاب ومزيد من الذل ومزيد من القهر ومزيد من محاولات الخنق والضغط على الأعناق التي تعلقت عيون أصحابها بمسجدهم المقدس وهم يغالبون لحظات الحاجة الماسّة الى هواء يساعدهم على تحمل ألم اللحظات الاخيرة , سور اسرائيل الذي سيدخل التاريخ على أنه السور العنصري الأول الذي بني في القرن الواحد والعشرين على يد السفاح مصاص الدماء شارون وأمام سمع وبصر كل آباء التنظير العالمي لحقوق الانسان والعولمة وسقوط الأسوار!! .
نعم انها عملية استثنائية ضد سور اسرائيل الذي يمتد أفعى تحيط بأرواح شعب بدا – وأقول بدا- وكأنه ماعاد يعرف ماذا يفعل أمام كل هذا الحجم المريع من الظلم والقهر والاغتصاب والصمت والخيانة والتضييع!.
أصدقكم ..انني أعاني حالة من الدهشة والوجوم لم أشعر بمثلها في حياتي الا مرة أو مرتين وأمام أهوال حقيقية! , لقد استطاعت ريم الرياشي أن تقلب كل أوراق التاريخ لتبدأ الكتابة بالمقلوب لأمة لاتريد أن تقرأ التاريخ , أرسلت لنا نحن العرب كذلك مع أشلائها رسالة مكتوبة بالدم وحليب رضاعة فلذة كبدها, أرادت أن تهز هذه الأمة أن تحركها أن تجعلها تصطدم بهذا الواقع الفلسطيني المرير , والذي ينبع ويصب أصلا في واقع عربي اسلامي عام هو أشد مرارة وبغضا منه .
رسالة ريم الرياشي كانت واضحة لاتحتمل التأويل .. انها الرسالة التي لن تجدي بعدها رسالة لأمة ساهية لاهية عابثة ! رسالة أخيرة لأمة لم تعد تفهم طبيعة البدايات ولاالنهايات , انها رسالة شعب يذبح ويستأصل ويقتل صبرا , وبعد أن فشلت كل المحاولات لتركيعه صار لابد من حصره في قفص من اسمنت يقال انه قد تم استيراده من دولة عربية مجاورة! .
هل فهم العرب الرسالة؟ هل فهم الذين خرجوا علينا يشككون في ريم الرياشي وحماس والجهاد وسرايا القدس , هل فهموا شيئا مما قالته هذه الأم بدمها وأشلائها وانفطار فؤادها لدى وداعها طفليها ؟! كيف استطاع البعض من أبناء جلدتنا أن يمسكوا بأقلامهم ليرفضوا أو يشككوا أو يدلوا بآرائهم المقززة في مثل هذا الموقف الذي يجعل الولدان شيبا؟ الموقف الذي دفع الحكومة الفلسطينية نفسها وأخيرا أن تمتنع عن الادانة المعتادة, لأن العملية هذه المرة لم تكن عملية نوعية ولااستراتيجية ولاتقنية ولاتندرج تحت أي نوع من أنواع العمليات القتالية العسكرية المعروفة في تاريخ الشعوب التي اضطرت الى حروب العصابات دفاعا عن وجودها , عملية معبر بيت حانون هذه المرة كانت وبكل بساطة بيانا أخيرا يرسله الشعب الفلسطيني لهذه الأمة السادرة , ولحكامها المنبطحين ولرجالها الذين استهوتهم شياطين المال والجاه والشهوات, ولنسائها الضائعات قتيلات صالونات الزينة ومجتمعات القرف والعفن والغثاء والرياء , رسالة متفجرة عمرها اثنان وعشرون عاما أبت أن تكتب الا بواقع شعب ممتحن بالمحنة ممتحن بأمته ممتحن بتاريخها وحاضرها وانسانها , أمة صماء لم يحركها مقتل ايمان حجو ولااعدام محمد الدرة ولااغتيال أبو شنب ولارؤية الجدار الأفعى يتمدد في قلبها المغتَصب ليحجز وراءه قبة الصخرة والمسجد الأقصى وويلات الحصر والاستثناء والقهر والاذلال والتركيع والتجويع واغتصاب الحق .
هل يعرف العرب طعم اغتصاب الحق ؟! أم أن كل احاسيسهم تجمدت وانكمشت لتصبح وقفا على الأكل والضوضاء والتكاثر ..لذاتٌ دنيا يشتركون فيها مع كثير من المخلوقات .
هرج ومرج بسبب قضية الحجاب في فرنسة وتصريحات "سيدنا" الامام الأكبربشأنها!, عواء منقطع النظير في صحف اسبانية بسبب محاكمة الامام الذي كتب كتابا يتحدث فيه عن وضع المرأة في الاسلام فراح يشرح فيه وباللغة الاسبانية للشعب الاسباني آية الضرب وملابساتها!, مؤتمر للديمقراطية في اليمن !, مؤتمرات للحوار الأمريكي العربي في قطر والسعودية والواق الواق !!, مؤتمرات لتغيير مناهجنا المتعفنة القميئة المتخلفة منذ نصف قرن تراوح في نقطة قولبة عقول الأجيال واستئصال قدرتها على التفكير والتغيير , وانبطاحات هنا وهناك ولقاآت مع العدو في السر وفي العلن ...هذا أوانٌ صار فيه ورق التوت رخيصا ياسادة لأنه لم يعد من حاجةٍ فيه لورق التوت , هذا زمن نحن عاجزون فيه عن اتخاذ أي قرار غير مهين , انه زمن كان لابد فيه من عملية كهذه العملية التي أرادت لنا فيها الأم الفلسطينية المجاهدة المصابرة المحتسبة أن نقف ولو لحظات بسيطة لنعاني الصدمة ونفكر ونبكي ونحاسب أنفسنا جميعا ودون استثناء .
من هناك من معبر بيت حانون.. صدقوني سيبدأ التاريخ بكتابة نفسه من جديد , فهناك وقفت أم فلسطينية شابة وكما قال أحمد منصور مازال طعم حليبها في فم طفليها , وقفت هناك تلقي بالنظرة الأخيرة على هذه الأمة التي وجب عليها أن تقرر مااذا كانت ستمضي فيم هي فيه من انتحار جماعي رخيص أم أنها ستعيد التفكير في حياتها من جديد.
هناك في معبر بيت حانون وقفت ريم الرياشي لتقول لكل أم فلسطينية لقد انتهى الزمن الذي كانت أرواح الشهداء فيه تغني أمهاتهم" ياأمي الحنونة ياأمي لاتبكي علينا , لازم نتحمل ياامي الله بالعونا"!! , الزمن الذي كانوا يأتونك فيه بفلذة كبدك مسجى على خشبة الوداع وأنت باكية منتحبة كليمة , ومضى زمن زغاريد الأمهات الفلسطينيات لأبنائهن الشهداء في يوم زفافهم نحو الرفيق الأعلى , وهاهي أم لاكالأمهات , امرأة لاكالنساء , فلسطينية غزاوية قررت أن تسبق هي أبناءها الى هذا الشرف الذي ترك في جبين العرب جميعا ثلاثمئة مليون وصمة عار لن تمحى أبدا , وترك في أرواحنا طعم العلقم , وألف سؤال ستبقى معلقة على هامش قوافل الشهداء التي لن تتوقف وفي أفراح عرائس النور والشهادة والدم التي ستشق طريقها تمشي -كما مشى موسى- فوق سطح بحيرة الدم التي تسبح فيها فلسطيننا ..والتي لن تلبث أن تصبح بحرا هائجا مائجا يغرق الأمة كلها مادامت على الرغم من هول هذه الرسالة مازالت لاتريد أن تفهم ..واقفة واجمة تتفرج.