صـراع الديكة الشمولية

محمود السيد الدغيم

صـراع الديكة الشمولية:

عراق صدام وسورية وإيران

محمود السيد الدغيم :الحياة 28/12/2003

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

شهدت الخمسون سنة الماضية صراعاً ثلاثياًّ عنيفاً في منطقة الشرق الأوسط, شاركت فيه ثلاث دول هي إيران وسورية والعراق, وأدى ذلك الصراع إلى ضعف عام جعل المنطقة مكشوفةً للطامعين, وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.

ورغم أن الأنظمة الحاكمة في الدول الثلاث تتقاسم العداء, فإن كل نظام منها يقدم مبررات عداوته غير المشروعة, ويتظاهر بأنه يقوم بالعدوان من أجل المصلحة الوطنية, وهذا افتراء صارخ مارسته الأنظمة الحاكمة في الدول الثلاث ضاربة عرض الحائط بمصالح شعوبها التي تقتضي التعاون من أجل تأمين حياة أفضل.

والأنظمة الثلاثة تشترك في الديكتاتورية والقمع وكمّ الأفواه والتطاول على الحريات والأموال. والأمثلة كثيرة يمكن الحصول عليها من قوى المعارضة التي نجا بعض أفرادها مما دُبّر لهم.

ويمكن الحصول على الكثير من المعلومات الخطيرة مِمّن نجا وانتقل الى خارج جمهوريات بلاد قمعستان الثلاث التي تفننت أنظمتها الشمولية, وصنعت أعداءً من شعوبها إضافة إلى عدائها من غير شعوبها, وبررت تدخل الــقوى الخارجية لحماية حقوق الإنسان في ظل أنظمة هي أولى بحماية حقوق مواطنيها من الدول الخارجية. لكن الظاهر أن إراقة الدماء تعمي القلوب والأبصار, وحب الكراسي واستساغة سرقة المال الـــعام تخدر حتى المحنكين طمعاً باقتـــناص الفـــرص إلى آخر لحـــظة لسرقة المزيد المزيد.

وأغرب ما في الصراع الثلاثي التناحري هو الصراع السوري العراقي. فسورية والعراق جمهوريتان عربيتان, يحكمهما حزب البعث العربي الإشتراكي. فقد وصل الحزب إلى الحكم في العراق في 8 شباط (فبراير) 1963, ووصل إلى الحكم في سوريا في 8 آذار (مارس) 1963, وسيطرت منظمة الحرس القومي على الشارعين السوري والعراقي. لكن "الحركات التصحيحية" في البلدين تنامت وتنامى العداء المتبادل بين البعثين الحاكمين وصار الحزب حزبين. وبدأت بين الحزبين حروب "داحس والغبراء" ولم يتوفر رجل مثل هرم بن سنان للإصلاح بين قبيلتي عَبْسٍ وذُبيان, فظلت السجون السورية والعراقية مملوءة بالرفاق البعثيين المتهمين بالهوى العراقي الممنوع في دمشق, أو المتهمين بالهوى الشامي الممنوع في العراق. ولعل آخر ذيول المأساة قد تجلت بهجوم العراقيين الجدد على بيوت السوريين الذين كانوا في العراق, ولم يخلُ الهجوم من عدوانٍ على الأرواح والممتلكات والأعراض, ولم يجد آلاف السوريين سوى الـــتوجه نحو سوري ة, وعلى رأسهم رئيسها السابق أمين الحافظ. هذا وقد استمر قرار منعهم من دخول وطنهم سورية عدة شهور عجاف, وهذا يوضح أن الحرمان من حقِّ العودة ليس مقصوراً على فلسطينيي الأراضي المحتلة, بل كلنا"في الهوا سوا".

ولم يقتصر الصراع بين جناحي البعث على سورية والعراق, وإنما امتدّ الأذى إلى الدول العربية من موريتانيا غرباً إلى الأحواز شرقاً. فما من بلدٍ إلا وفيه تمثيل حزبي للحزبين يتراوح بين قيادة قطرية وفرقةٍ حزبيةٍ, يتبادلان الاغتيالات والتصفيات حرصاً على نقاء الحزب كما يدعي كل طرف من جناحيه. وهكذا أفلح حزب البعث بإحلال التجزئة العربية محلّ الوحدة العربية, وساهم بتهيئة المناخ الملائم لخريطة جديدة للمنطقة هي أسوأ من خريطة سايكس- بيكو.

وأغرب الغرائب أن حزبي البعث في سورية والعراق تمسّكا بدستور الحزب الذي ظلّ حياًّ ومُهمّشاً في البلدين, وما يتبعهما من تنظيمات حزبية, لأن الدستور ظل رمز الشرعية المقدسة عند الرفاق البعثيين على اختلاف مشاربهم.

ولعل مظاهر تشفي البعثيين السوريين بما آلت إليه أوضاع رفاقهم في العراق دليل على عدم وجود بعثيين حقيقيين في البلدين. وبالمعنى نفسه نلحظ تشفي إيران بالعراق, وهو أيضاً ليس بمستغرب. وفي انتظار النظام الذي سيسقط بعد نظام العراق تبقى كفّة ميزان التشفي السوري الإيراني متذبذبة تنتظر ساعة الصفر, وكلما سقط نظام تشفى به الآخرون. وهكذا تضيع البلاد والعباد, ويستمر صراع ديكة سوريا والعراق وإيران قبل السقوط وبعد, وتدفع شعوب البلدان الثلاثة ثمن الصراع المرير.