حروف مجنحة
حروف مجنحة
رسالة مفتوحة إلى الحبر الأعظم
بلال حسن التل
نبينا لم يأمرنا بنشر الإسلام بالسيف ولا باستئصال أحد
نحن الذين ترفعنا بالمسيح عن أن يكون ستاراً لحرب ظالمة
صورة عيسى ومريم في وجدان المسلم لا تدانيهما صورتهما في أذهان الكثير من المسيحيين
زيارتك لنصب المحرقة وحائط البراق انحياز لا نرضاه منك ولا لك...
وعليك سلام الله هي تحيتنا التي نلقيها على الناس كافة؛ باعتبارنا أمة سلم وسلام. لا نعادي إلا من يعادينا، ولا نحارب إلا من يحاربنا. فالحرب عندنا هي الاستثناء ، أما السلم فهو الأصل والقاعدة، بل إننا حتى في حروبنا لا نقتل جريحاً، أو أسيراً. ولا نهدم صومعة أو كنيسة. ولا نقطع شجرة. ولا نهدم حجراً ولا نذبح شاة و نسلب ضرعاً .
وعليك سلام الله وأنت تحل في بلد الغالبية الساحقة من أبنائه مسلمون، عقيدة وثقافة وتاريخاً. ومع ذلك فإنه يفتح لك قلبه ويستقبلك، استقبالاً لم تنله أي مرجعية إسلامية على وجه هذه الأرض سبق لها وان زارت بلدنا. وهذا الاستقبال يؤكد لك بأننا اتباع دين لا يؤمن بالعنف والإرهاب. ولا يربي أتباعه على الحقد والضغينة، ولو كان الأمر بعكس ذلك لأدرنا لك ظهر المجن. بعد محاضرتك الشهيرة في ألمانيا. والتي نلت فيها من ديننا عندما قلت: إن نبينا أمرنا بنشر ديننا بحد السيف وهو قول جرحت فيه مشاعر أكثر من مليار مسلم من بينهم المسلمون في الأردن، وهم الأغلبية الساحقة من مواطنيه، الذين يخرجون اليوم لاستقبالك في ممارسة عميقة تدل على أننا كمسلمين لا نقابل الإساءة بالإساءة. ولو كان نبينا قد أمرنا بنشر ديننا بالسيف، وان نستأصل من هو على غير ديننا، لما كان في هذا الشرق بل وفي أجزاء واسعة من أوربا، وحيثما وصلت جيوش المسلمين التي وقفت على أسوار فينا غرباً وعلى أسوار الصين شرقاً مسيحي واحد أو يهودي واحد. بل على العكس من ذلك فإننا نحن الذين وفرنا لكل شعوب الأرض حريتها الدينية. وحمينا صوامعها وكنائسها وبيعها. على قاعدة لا إكراه في الدين وعلى قاعدة لكم دينكم ولي دين .
ولو كان نبينا قد أمرنا بأن ننشر الإسلام بالسيف ما كان لك أن تأتي إلى بلادنا وتستقبل بمثل هذا الاستقبال، الذي يشارك فيه المسلم والمسيحي. وهما يعيشان في بلاد الإسلام كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، ولا يختلفان في شيء إلا أن أحدهما. يصلي لله في المسجد، والآخر يصلي له في الكنيسة. وما أكثر الكنائس في بلادنا دليلاً آخر على تسامح المسلمين وعظمة الإسلام. وعلى أنه دين لم ينتشر بالسيف، ولم يجبر أحداً على اعتناقه. فواحدة من أهم القواعد القرآنية التي نؤمن بها كمسلمين: أنه لا إكراه في الدين. لذلك لم تعرف بلادنا محاكم تفتيش تطارد من لا يعتنق الإسلام ، كما حدث عندكم في الأندلس وغير الأندلس. بل أننا لا نرد على السيئة بمثلها. فعندما دخلت جيوش الغزاة القادمة من بلادكم إلى بيت المقدس محتلة تحت شعار الصليب. ترفعنا نحن بالمسيح عن ان يكون ستاراً لحرب ظالمة. فاسمينا تلك الحرب بحرب الفرنجة. الذين غاصت خيولهم بدمائنا حتى ركبها. حتى إذا ما دارت دورة الزمن وتمكنا من تحرير بلادنا ومقدساتنا ودخلنا القدس، لم نرق قطرة دم واحدة ولم نقتل أسيراً . على العكس من ذلك، فقد أمّنا الحماية للضعفاء والمساكين والمغرر بهم باسم السيد المسيح. ولم يسجل التاريخ، اننا ارتكبنا حادثة انتقامية واحدة رغم كل الفظاعات التي ارتكبتها جيوش الفرنجة. ولم نجبر أحداً على اعتناق الإسلام انفاذاً للقاعدة القرآنية: لا إكراه في الدين التي تحول بيننا وبين نشر ديننا بالسيف . كما سبق وان ضّمنت محاضرتك الشهيرة التي جرحت مشاعرنا.
أيها الحبر الأعظم
ومثلما أن ديننا لم ينتشر بالسيف، فان أبوابنا لم تغلق في وجه أصحاب الديانات السماوية الأخرى . ولم نُمنع من البر بهم، ورعاية معابدهم، وصوامعهم، وكنائسهم. وتلك كانت أول وصايا رسولنا وخلفائه لجيوشنا ، ذلك أنه من شروط اكتمال إسلام المرء منا، أن يؤمن بكتب الله ورسوله وفي الطليعة منهم عيسى بن مريم كلمة الله ورسوله. الذي أفرد قرآننا الكريم سورة كاملة باسم أمه العذراء مريم البتول سيدة نساء العالمين . وهي منزلةٌ لم يعطها الإسلام لواحدة أخرى حتى من زوجات رسولنا وبناته وقريباته بل والصحابيات المجاهدات. ولا أبالغ ان قلت أن صورة كلمة الله عيسى وصورة أمه البتول في ذهن ووجدان المسلم لا تدانيهما صورتهما حتى في وجدان وذهن الكثيرين من المسيحيين، الذين لم يفهموا مكانة عيسى ورسالته ومعاناته، مثلما فهمناها نحن المسلمين من آيات قرآننا ، وأحاديث نبينا عليه السلام. خاصة مع اليهود الذين برأتهم كنيستك من دم المسيح عليه السلام ، رغم تآمرهم عليه وسعيهم لقتله عليه السلام، لولا ان عصمه الله منهم فشبه لهم.
أيها الحبر الأعظم
نحن لم نؤمر بنشر ديننا بحد السيف ولم نؤمر بفرضه على أحد، لكننا أُمرنا بأن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بيننا وبينهم. لذلك ظلت منابر الحوار بيننا وبين اتباع الديانات السماوية وخاصة المسيحية مفتوحة، ورغم إعراض الكثير من الكنائس عن الحوار معنا ، فاننا لم نعرض عنه. حتى أنت عندما أدرت ظهرك للحوار مع الإسلام والمسلمين فاننا لم ندر ظهرنا لك، وأبقينا على خطوط التواصل آملين أن ينشط هذا الحوار يوماً ، وان يأخذ طابع الجدية وأن يصل إلى نتائج ملموسة. ولعل زيارتك للأردن، صاحب رسالة عمان تساعد على ذلك. جراء معايشتك لطبيعة العلاقة بين أبنائه مسلمين ومسيحيين تربطهم أخوة عميقة، ومصير مشترك قائم على أساس المواطنة التي أرسى دعامتها الأولى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. عندما أسس أول دولة إسلامية في المدينة المنورة كان دستورها وثيقة المدينة التي جعلت المواطنة أساس العلاقة بين سكانها على اختلاف معتقداتهم الدينية. ومنذ ذلك اليوم حتى يوم الناس هذا ظلت المواطنة أساس التعامل بين أبناء هذه البلاد. لا فرق بين مسلمهم ونصرانيهم، ولم يمنع على المسيحي في بلادنا حق من حقوق المواطنة. أو منصب من مناصب الدولة بسبب دينه. حتى جاءت أزمان غار فيها بعض المسلمين من إخوانهم المسيحيين لشدة تقريب خلفاء المسلمين للمسيحيين. ونظمت في ذلك أشعار حفظتها كتب الأدب والتاريخ.
وإذا كانت وثيقة المدينة قد أرست العلاقة بين رعايا الدولة الإسلامية على أساس المواطنة. فإن ممارسة رسول الله ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك. عندما استقبل وفد نصارى نجران في مسجدهم وحاورهم فيه . بل خصص جناحاً منه لإقامتهم أثناء زيارتهم للمدينة المنورة . وهذه الواقعة أيها الحبر الأعظم ومثلها رفض خليفتنا عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة يوم استلامه لبيت المقدس، حماية للكنيسة تؤكدان لكل منصف أننا أمة حوار لا أمة إرهاب واستئصال . وأن مساجدنا مفتوحة لغير المسلمين من أتباع الديانات السماوية. لذلك لم يستنكر أحد من علمائنا أن تزور أنت أكبر مساجد عاصمتنا. وأن تلتقي علماءنا ومشايخنا. فتلك سنة سنها رسولنا منذ أيام الإسلام الأولى نجددها نحن معك اليوم. مثلما لم يستنكر أحد منا أن يحمل احد مساجد بلدنا هذا الذي تزوره اسم عيسى بن مريم . ذلك إننا نؤمن بعيسى بن مريم ونسير على تعاليمه الأصيلة التي استكملها رسولنا محمد عليه السلام.
أيها الحبر الأعظم
اثناء زيارتك لبلدنا هذا، ستضع حجر الأساس للعديد من الكنائس ولم يسأل احد منا نحن المسلمين غالبية سكان هذا البلد، بل هذه المنطقة من العالم، هل يحتاج أخوتنا من المسحيين هذا العدد من الكنائس؟ ولم يحاول أحد أن يضع عراقيل في وجه بناء كنيسة. فلماذا تقوم الدنيا ولا تقعد عندما يسعى المسلمون الفرنسيون أو البريطانيون أو حتى الطليان وهم على مقربة منك إلى بناء مسجد في مدينة أوروبية لإداء عباداتهم فيه. فتوضع في وجوههم عشرات بل مئات العراقيل. وتستمر الإجراءات لسنوات وسنوات. حتى تصل إلى نتيجة وقد لا تصل. فلماذا لا يكون للفاتيكان دورٌ في نشر التسامح من خلال المناداة بإعطاء المسلمين الغربيين نفس حقوق المواطنة التي يتمتع بها المسيحيون في بلادنا؟!
أيها الحبر الأعظم
ومثلما ستضع حجر الأساس لكنائس عدة في بلدنا، فانك ستضع حجر الأساس لجامعة مسيحيه في مأدبا . وهنا أيضاً لم يتساءل احد من المسلمين عن حاجة المسحيين في بلدنا لجامعة مسيحيه والسؤال الذي نطرحه بين يديكم هو لماذا هذا التقييد على المدارس والمعاهد الإسلامية في الغرب، الذي يزعم انه حامل لواء العلم والمعرفة وحرية الدين والمعتقد؟
أيها الحبر الأعظم
في بلدنا نجل ونحترم أخواتنا الراهبات المسيحيات حين يحصّن أنفسهن بلباس الرهبنة وثيابها. ولكننا نسأل: لماذا لا يسمح الغرب لأخواتنا المسلمات هناك بارتداء الحجاب وفيه من صفات ثياب الرهبنة الكثير من حيث دلالات العفة والحفاظ على الشرف والطهارة والاستجابة لأوامر الرب ورسله ؟
أيها الحبر الأعظم
ستغادر بلدنا الأردن إلى بلدنا الأخر فلسطين المحتلة، آملين منك أن تتفهم عتبنا عليك. ذلك انك ستزور نصب ما يسمى بالمحرقة اليهودية التي جعلت لها السطوة الصهيونية حصانة ليست لأديان الله وحقائقها. ولا لرسل الله وعصمتهم. ففي الوقت الذي يجادل فيه الناس بحقائق الكتب السماوية يمنع عليهم الاقتراب ولو بسؤال عن حقيقة المحرقة اليهودية المزعومة التي ستزور نصبها. ومع ذلك فانك لم تجد من وقتك ساعات قليلة تعطيها لضحايا المجزرة المشاهدة للعيان والمستمرة حتى الآن ضد سكان غزة الأبرياء. الذين حرقتهم إسرائيل وما زالت بالفسفور الأبيض، وغيره من الأسلحة المحرمة دولياً. بعد أن احتلت ديارهم وشردتهم منها . ومثل عتبنا عليك في هذه، بل وأكثر من ذلك زيارتك لحائط البراق على اعتباره حائط المبكى. وفي ذلك انحياز للظالم والمحتل، لا نقبله منك و لك، فلعلك تجد سبباً يحول بينك وبين هذا الانحياز للذين هموا بقتل رسول المحبة عيسى بن مريم وأنت تمثل واحدة من اكبر كنائس أتباعه في العالم. والسلام عليك مرة أخرى.