يوم أسود في تاريخ هذه الأمة المستباحة
في زمن المحنة
نوال السباعي / مدريد
يوم أسود في تاريخ هذه الأمة المستباحة
لست منهم وما كنت ..لأدافع عن طاغية مجرم سفاح مثل صدام حسين , ولكنها المبكية المذهلة تلك الظروف القذرة التي جعلتنا نبكي جلادينا يوم سقوطهم لأن هذا السقوط لم يكن على أيدينا عربا أحرارا وثوارا كراما !!, ولكنه جاء على يد المستعمر الغربي الدخيل والمستوطن الاسرائيلي المتربص والخونة من كل شكل ولون وطيف .
إنها الظروف التي أحاطت بسقوطه كفصل أخير في سقوط حقبة تاريخية كاملة في حياة هذه الأمة بكل كياناتها السياسية والثقافية والفكرية التي سادت في منطقتنا منذ ستين عاما , هذه الحقيقة الفاغرة فاها شدهاً وهلعاً هي الذي تدفعني اليوم الى اعتبار هذا اليوم يوما أسود في تاريخ هذه الأمة المستباحة الأرض والعرض والكرامة , وسيدخل التاريخ بأنه اليوم الذي تمّ فيه القبض على أحد صدامي هذه الأمة من الذين حاولوا التمرد على أسيادهم ولكنهم لم يلتحفوا ويتترسوا بحب شعوبهم ولاثقتها ولاولائها ولاحتى رغبتها في الحياة الكريمة الشريفة .
انه اليوم الذي سقط فيه صدام بهذه الطريقة الاستعراضية الهوليودية بمساعدة الخونة الصغار الذين لم يترددوا في المساهمة في إسدال الستار على الفصل الأخير من مأساة هذه الأمة العربية المسلمة المستسلمة لأقدار يصنعها الآخرون وهي واجمة واقفة تنظر وتنتظر!, كما بمساعدة الخونة من الكبار الذين صمتوا ووجموا أو صفقوا وابتهجوا ووقفوا مع الحاكم المفوض السامي بريمر يتباكون فرحا بسقوط صدام الأحمق بيد الأعداء الذين حرروا العراق من طاغيتها بعد أن عجز أبناءه عن ضخ روح الحياة في حياتهم السقيمة الكريهة , مثلنا ومثلكم ومثل كل أبناء البلدان العربية التي لفظت أبناؤها قهرا وظلما وسحقا وسحلا , فاستكانوا للظلم ولم ينتصروا لأنفسهم ولا للحق ولم يستطيعوا الوقوف في وجوه جلاديهم , حتى جاءتنا جميعا هذه الساعة السوداء في مثل هذا اليوم الأسود الذي حق لكل عربي أن يبكي فيه ذلاً وهواناً وقهراً وهزيمة.. حاشى لله أن نبكي حقبة البعث وحكمه ورموزه , ولكننا نبكي أنفسنا التي شُنقت مرتين مرة يوم استكانت للصدادمة في كل مكان ومن كل لون , ومرة يوم أهينت بأن استسلمت للاستعاذة بالاعداء من ظلم واستبداد ذوي القربى!.
ذكرني منظر صدام الضائع الزائغة عيناه في ذلٍ وهوان بمشهد اعتقال عبد الله أوجلان , السيناريو نفسه والمنفذون أنفسهم من عملاء الموساد , ونفس الغازات والمخدرات التي استخدمت في تلك العملية التركية الاسرائيلية المشتركة , ونفس الاخراج السينمائي ولكن مع فارق الأهمية والتأثير الاعلامي الهائل المرعب لوقوع صدام فريسة سهلة مجانية بيد الغزاة المستعمرين , وهو الذي يمثل شئنا أم أبينا حقبة وأمة وزمناً ...حقبة الذلّ العربي التي لاتكاد تبين نهاية سردابها المظلم القميء , وأمة العرب الذين مازالوا ينعقون بصمتهم كما بصراخهم بما يريد لهم أعداؤهم , وزمن المحنة الممتد مابين سقوط الخلافة ونشوء ماسمّوه لنا بكيان الشرق الأوسط وقلبه النابض إسرائيل , بخرائطه المتقزمة المتشرذمة بشريا جعرافيا وسياسياً, وشعاراته الثورية القومية المجعجعة في فراغ فسيفساء إنسانية منصرفة عن تقرير مصائرها بأنفسها خوفا ورهباً , وحركاتها الاسلامية التي لم تعرف كيف تنهض من عثراتها مرة إثر مرة, ولاكيف تتعلم الدرس بعد الدرس على قسوته وهوله, ولاكيف تواجه ظروف المرحلة ولا ملابسات اللحظة الخطيرة التي تعيش!.
لم يكن صدام للأسف قط صلاحا للدين حتى نبكيه , ولكن الذين عادوا الى بلادنا بخيلهم ورجلهم مستعمرين , قالوها وبكل تواضع , بل بتواضع المنتصر الذي يعلم أن البلاد والعباد ملك له لاينازعه فيها منازع , هاقد عدنا أيها العرب !!, هاقد عدنا الى أرضكم لنخلصكم من طواغيتكم ! على أن يكون الثمن ... مستقبلكم وحريتكم وكرامتكم , يامن لاتعرفون قيمة للمستقبل ولاطعما للكرامة ولاأي شعور بالحرية!.
كلوا واشربوا واشتروا وتكاثروا واقتنوا القصور والسيارات وماتحبون من الملذات وحتى تمتعوا بما تشتهون من الحريات العامة على أن تكون حريات القرود وراء أقفاص الارادات الغربية , التي ستمنحنا التحرير من طواغيتنا وستنفحنا بشيء من عائدات بترولنا والتي ستسمح لنا بشيء من قول كلمة الحق مادام القوم يعرفون أنها عواآت ذئاب جريحة في مقتل, تصرخ في صحراء النوام والوهن العربي الأصيل , ذلك الوهن الذي يتمثل في كلمة عبد المطلب : ان للبيت ربا يحميه ! فماذا تريدوننا أن نفعل؟؟!.
سقط صدام ..ولايشك أحد في أن مشهد سقوطه ليس الا مشهدا معداً باتقان سينمائي مابعده اتقان , بدءا باعلان القوات الأمريكية أن العثور عليه هو كمثل العثور على ابرة في كومة قش , وانتهاءا بفحص الأسنان ذاك , واستكانة الرجل المخدر المذهول لمعتقليه ...أصدقائه القدامى !.
سقط صدام , وتمضي المسرحية حتى نهايتها ! وكيف لاتمضي ولاأحد من المتفرجين يملك الجرأة على أن يقف ليصرخ لا ..وحتى أولئك الذين يقاومون في بغداد , لانعرف من يقاومون ولاكيف يفكرون , إنهم يخبطون خبط عشواء في أرض مليئة بالعقارب والأفاعي والكثبان الرملية المتحركة وسط رياح سموم قاتلة عاصفة , دون استراتيجية ولادراسة ولاتخطيط ولاتدبر ولاحتى وضوح في الرؤية.
ماأسهل أن نجلس في مثل هذه الساعات السوداء الحالكة من تاريخ الأمة , لنتحدث عن الأوضاع المؤلمة في العراق ؟!, وماأسهل أن نّنظِر ونفيقه الأمور عن بعد ؟! , وماأصعب أن نضع النقاط على الحروف وماأشقّ أن نعبر عن مافي صدورنا في زمن المحنة والبلاء والاستباحة والضياع ؟! .
من منا لايعرف ولايعترف بأن مايجري في العراق هو نهاية هذه الحقبة التاريخية الساقطة من تاريخنا الحديث ؟ من هذا الذي لايعرف ولايعترف بأننا على أبواب ولادة مرحلة جديدة ستمر كل محاور الفعل السياسي فيها و باستثناء من طهران وبغداد ودمشق ؟! من منا هذا الذي لايدرك خطورة اللحظة وكياسة الصامتين أمام هول هذه التغييرات التاريخية الرهيبة التي تجري أمام سمعنا وبصرنا وعدم مبالاتنا الى درجة العهر والخيانة والردة ؟!.
نعم لقد سقط صدام وحق لكل سفاح مجرم طاغية أن يسقط , أهلك الحرث والنسل وذبح حقوق الانسان وانتهك كل الاخلاق والأعراف, وكان بعبعاً , لكنه حاول ومعه ومَن وراءه ممن نعرف وتعرفون أن يوقف زحف هذه الحقبة الجديدة التي نعيش ولادتها رغم أنوفنا جميعا , حاول ومعه عدد غير قليل من صدادمتنا أن يتصرفوا بما بقي لديهم من قليل مروءة وشرف أن يوقف تدهور الأوضاع الى ماوصلت اليه , وادّعى ومعه بقية ممن بقي لهم بقية من حياء من قيادات هذه الأمة السياسية والفكرية أن يدّعوا لأنفسهم شرف العمل من أجل فلسطين !! , ولكنهم جميعا نسوا أن فقه الجهاد وشرف الكفاح وكرامة النضال لايمكن أن تمر عبر سياط الجلادين يعلون بها ظهور الشرفاء ووجوههم , نسوا جميعا – صدام الذي سقط , والصدادمة الباقين- أن الطريق نحو العلى لايمكن أن يُشق على أشلاء الضحايا وجماجم البشر فهذا هو درب السقوط فحسب , وأن الدرب نحو تحرير فلسطين لايكون بتكميم الأفواه وذبح الأحرار واغتيال أصوات الحق والشجاعة.
سقط صدام كما هلك من هلك من قبله , تاركين لهذه الأمة عارها وذلها , مضوا وخلفوا لنا ماوهبناه لهم بكرم حاتمي مخبول من استسلام وخنوع وانبطاح وخوف ورعب واستكانة , ذهبوا الى مزابل التاريخ والى جحيم ضمائرهم وورثونا الذل والعار الذي رضينا أن يعاملونا به.
ولكنهم وقبل ذلك وبعده ........ تركوا لنا فلسطين هناك وحدها ..وحدها , القضية التي حكمونا جميعاً باسمها واستباحوا أموالنا وعقولنا من أجلها , وسرقوا أيامنا وأفكارنا وضمائر أجيالنا مدعين نصرتها , ذبحوا من ذبحوا باسمها وقتلوا وعذبوا واعتقلوا الحريات والأمن والراحة باسمها , ولّوا بذلهم وعارنا وتركوها هناك في جنين ورفح ورام الله وبيت حانون والقدس , تئن وتتلوى جوعا في بطون أبناء فلسطين , قهرا في أرواحهم , ثورة في دمائهم , صمودا في نفوسهم , قبضاً على الجمر في أوان الفتنة والمحنة والأيام السوداء , وقد تساقط واحدا اثر الآخر كل الذين باعوا واشتروا باسمهم وسرقوا وقتلوا باسمهم وحكموا واستبدوا باسمهم.
لقد سقط صدام شر سقطة , ومابكت عليه السماء ولاالارض , ولكن حق لكل شريف من أبناء هذه الأمة اليوم أن يبكي لا ألما على نهاية طاغية لم يخرج في تاريخه عن حياة ونهاية الطغاة , ولكن ألما لأمة عجزت أن تعاقب طغاتها بيدها فاستأجرت أعداءها ليقوموا هم بهذا الواجب الذي سوف ندفع أنا وأنت وأولادنا جميعا أجرة قيامهم بما عجزنا نحن عن القيام به , وانه لأجر خطير وفاحش , أن تدفع أمة مستقبلها وهويتها ووجودها وثرواتها وكرامتها وحريتها ثمنا للخلاص من طاغية , ثم ومع سقوطه بيد قتلة مأجورين يمنون علينا أن خلصونا منه هانحن ندخل التاريخ معهم من أقذر وأضيق أبوابه على الاطلاق .. باب الذل والخيانة والصغار